المحتوى الرئيسى

البيت بيتك

01/19 21:50

عندما يقدم التليفزيون سهرة لطيفة أو يشتد المطر أو تضطرب أحوال الشارع ينصحونك بالقول «خليك فى البيت»، وحين تستقبل ضيفا عزيزا وتود أن تكرمه وترفع عنه الحرج تقول له «البيت بيتك»، وما أن تعود من سفرة ولو قصيرة ومنعمة حتى تتنفس الصعداء لأنه «لا أريح من بيت الواحد»، القاسم المشترك بين هذه المواقف جميع هو البيت أو السكن ــ ذلك المكان الحميم الذى شبه به الله عز وجل العلاقة بين الزوجين بكل ما تجسده هذه العلاقة من معانى الطمأنينة والسلام «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة». بيتك هو مرآة شخصيتك، فأن تختار أثاثه على الطراز المودرن أو على الطراز الستيل فلأنك تحب التجديد والابتكار أو تميل إلى المحافظة، لا حاجة بك لأن تضع صورتك على الجدار فأثاثك ينطق بملامحك كأنك مرئى رأى العين. فى بيتك على الأرجح توجد تحفة أو آنية أو سجادة راقت لك ذات يوم فادخرت أو اقترضت واشتريتها، وربما تكون هذه القطعة أو تلك قد ارتبطت بمناسبة تعتز بها فإذا مررت بها وأنت تنتقل من غرفة لأخرى تذكرت المناسبة وابتسمت، صارت هذه الأشياء بمرور الوقت جزءا من نفسك وذاتك ومن تاريخك. وفى بيتك يوجد باب أو أبواب اختليت بنفسك من ورائها فبكيت ما شاء لك البكاء حيث لا شاهد على ضعفك إلا نفسك، تحررت.. تمردت.. تأملت.. تعبدت.. أحببت وكرهت ثم تهيأت لمقابلة أفراد أسرتك فوضعت قناع البشاشة على وجهك وخرجت. هذه الخلوة بأنفاسها ودموعها ودعائها هى حقيقتك وكل ما عداها تجميل.

لم أحب قط ظاهرة الانتقال من بيت لآخر عندما كان هذا الأمر متاحا لأسرتى فى الخمسينيات والستينيات وكانت لافتة «شقة للإيجار» منتشرة بكثرة فى كل أحياء القاهرة. ربما كانت لكل بيت من البيوت الأربعة التى تنقلنا بينها فى القاهرة ميزة نسبية لا تتوفر لسابقه كأن يكون إيجاره أرخص أو مساحته أوسع أو موقعه أجمل إلا أننى كنت أتشبث بكل بيت أسكن فيه فلا أتصور بداية أخرى فى غيره ولا أتأقلم مع أى جديد بسهولة. كنت أتعلق بالمكان كما هو وأرتبط بكل جدار فيه، فعلى تلك الجدران توجد بصمات أصابعنا وخلفها كنّا نختبئ ونحبس أنفاسنا حتى إذا ما عُثر علينا جلجلت ضحكاتنا. كنت أرى فى كل بيت أنتقل إليه مملكتى التى لا أتصور أن أُعزِّل أو «أُعْزل» منها أيا كانت المغريات، لكن أحدا لم يكن يسألنا عن رأينا وما إذا كنّا نفضل البقاء فى البيت أم الرحيل عنه فاختيار السكن هو من القرارات الاستراتيجية التى ينفرد بها الكبار. أما أكثر ما كان يؤلم فهو أنه مع كل ترحال من بيت لآخر كان لابد للأسرة من التخلص من بعض «الكراكيب» التى هى غالبا لعبُنا وقصصنا وألواننا الجميلة، وهكذا كنت أحس وأنا أغادر مملكتى أننى جُرِّدت ليس فقط من ذكرياتى لكن أيضا من بعض أسلحتى، ومع ذلك كانت الحياة تمر.

كان لزلزال 1992 وقع شديد الوطأة على المجتمع المصرى، فلم نكن نعرف قبل هذا التاريخ معنى الزلزال وتوابعه ولا كانت لنا خبرة بشدته على درجات مقياس ريختر أو بتعليمات السلامة الوطنية. كان الزلزال بالنسبة لنا ظاهرة طبيعية مكانها فى كتب الجغرافيا وفِى بعض الدول البعيدة عنّا. ولكن عندما هدأ بعد فترة غبار البنايات المنهارة تبدت لنا الحقيقة كاملة فرأينا مئات الأسر المصرية التى تركت كل ما تملك تحت الأنقاض وحلت ضيفة على خيم الإيواء أو على مساكن الأهل والأصدقاء. سادت المصريين موجة من التدين الظاهرى بعد أن ربطوا بين غضب الله وبين الحرمان من البيت، ولمس الحدث الجلل العصب المكشوف فى داخلى عن علاقة التوحد بين المرء وداره فعشت تفاصيل قصص المعاناة الإنسانية حتى كأنى أحد أبطالها، أعدت مشاهدة فيلم «كراكون فى الشارع» بعين جديدة ووعى أكبر، ولازمنى لفترة طويلة إحساس بأن كل دوار بسيط يصيبنى إنما هو مقدمة لزلزال.

مجددا أتقمص شخصية الإنسان الذى يتربص به الزلزال ويتهدد سكينته مع فارق بسيط هو أن الزلزال يرتبط هذه المرة بفعل قانونى لا بظاهرة طبيعية. ينظر البرلمان المصرى حاليا مشروع قانون جديد يدعو لزيادات متتالية فى إيجارات المبانى القديمة وينتهى إلى تحريرها، وهذا أمر خطير. ليس كل ساكنى البيوت القديمة ممن يجمعون مفتاح فيللا التجمع الخامس وشاليه الدبلوماسيين مع مفتاح شقة السيدة زينب فى سلسلة مفاتيح واحدة، وليست كل البنايات القديمة هى عمارة يعقوبيان ذات الأسقف المنقوشة والمساحات المريحة والمصاعد النحاسية اللامعة، فى تلك البيوت القديمة تعيش أسر أيضا قديمة تدبر أمرها بالكاد وتنتظر خروجا آمنا من دنياها.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل