المحتوى الرئيسى

«الفساد السياسى» أخطر كارثة تواجه مصر

01/18 19:52

نظام التعليم «مفرخة للفساد».. وغياب «الرقابة الشعبية» أمر مؤسف بعد ثورتين

المجتمع أصبح أكثر تساهلاً وتقبلاً للفاسدين بسبب الانهيار الأخلاقى

قال الدكتور أحمد صقر عاشور، خبير الحوكمة ومكافحة الفساد بالأمم المتحدة، إنه رغم جدية الدولة فى التصدى للفساد، إلا أن ذلك لا يمنع أن هناك بعض الأخطاء فى السياسة المتعلقة بهذا الملف، لأن الأجهزة الرقابية اعتادت أن تواجه الفساد بعد حدوث وقائعه، بينما لا توجد آلية للوقاية من الفساد نفسه.

وأضاف «صقر» فى حواره لـ«الوفد» أن الفساد وانخفاض الكفاءة وترهل الحكومة لعقود طويلة، ساهم بشكل كبير فى فشل الكثير من السياسات والبرامج التنموية، ما أدى إلى انهيار وتدهور الخدمات التى تشكل عصب عملية التنمية، مضيفاً أن التحرك على مستوى كل قطاع على حدة يمثل كلمة السر في حماية الفساد.

ويرى خبير مكافحة الفساد أن إصلاح «الخدمة المدنية» يمثل ركنًا جوهريًا من متطلبات تحسين الأداء الحكومى، وهو فى نفس الوقت يمثل شرطا ومتطلبا مسبقا لتحقيق نقلة تنموية، حيث لا يمكن تصور تحقيق هذا التحسين دون تطوير منظومة العنصر البشرى التى يقوم عليها الأداء الحكومى.. وإلى نص الحوار:

- لا يوجد دولة فى العالم تخلو من الفساد، فهو لا يمكن القضاء عليه نهائيًا، لكننا نستطيع تقليله وتحجيمه واستبداله بمنظومة تقوم على النزاهة والكفاءة والإنجاز والحرص على ثروات وأموال الدولة والمجتمع، فأعلى درجة تم تسجيلها فى مؤشر مدركات الفساد الذى تصدره منظمة الشفافية العالمية كان 0.91.

وهناك دول عديدة استطاعت أن تحقق هذا، وبالفعل تحولت إلى دول نظيفة ونقية ولكن ليس بنسبة 100%، مثل الدنمارك ونيوزيلندا، أما قطر والإمارات والأردن والسعودية فهم الأقل فساداً بين الدول العربية، وفقًا لتقرير منظمة «الشفافية الدولية»، وعلى الجانب الآخر ظلت بعض الدول الأخرى مشبعة بالفساد، وفى مقدمتها الصومال وليبيا والسودان وبنجلاديش.

 أما مصر فأحرزت 36 درجة من أصل 100 فى مؤشر مدركات الفساد الذى تطلقه منظمة الشفافية الدولية سنوياً لقياس مستوى الفساد فى القطاع العام داخل عدد من الدول، أى أنها تقع فى الجزء الأدنى من المؤشر، وهذا أيضاً ما تؤكده مؤشرات الحوكمة العالمية الصادرة عن البنك الدولى لعام 2014، التى منحت مصر 32 نقطة من أصل 100 فى قدرتها على مكافحة الفساد، مما يدل على تفشى الفساد فيها، مع العلم أن هذه المؤشرات لا تقيس مستوى الفساد السياسى داخل الدول.

ونستطيع القول إن مصر منذ يوم 26 يناير 2011 وحتى الآن حققت بعض التقدم الملحوظ، يتمثل فى الكشف عن نوع من أخطر أنواع الفساد وهو «الفساد السياسى»، لكن حتى الآن لم يتم القضاء عليه.

فخلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق «مبارك»، استشرى «الفساد السياسى» بقوة، بعد تزاوج المال بالسلطة، وهيمنة الحزب الوطنى على كل مقاليد الدولة، واحتكاره للعمل السياسى، ما تسبب فى تحقيق ثروات تراكمت بشكل غير مشروع لدى الفاعلين داخل منظومة الحكم، لكن غالبية المحاكمات التى تمت لرموز هذا النظام انتهت إلى التبرئة، وعلى الرغم من هذا إلا أن الكشف فى حد ذاته يعد تقدمًا.

- «المال السياسى» لعب دورًا كبيرًا فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، نظرًا لعدم وجود ضوابط تحد من سيطرة المال على العملية الانتخابية، حتى فى صورته غير المشبوهة وهى الإنفاق على الدعاية، الذى يقضى على تكافؤ الفرص، ويهيئ المناخ المناسب للفساد، وللعلم هناك عدد قليل جدًا من النواب لم يقوموا بممارسة هذا الإنفاق، بسبب شعبيتهم الجارفة.

وإذا أرادت الدولة أن تحد من الميزة النسبية لمن يملك المال عند دخوله للمعركة الانتخابية، فعليها الاضطلاع على تجارب الدول التى سبقتها فى هذا، فبعض الدول على سبيل المثال تتحمل جزءاً مما ينفق على الدعاية الانتخابية إذا استطاع المرشح الحصول على عدد معين من الأصوات، وبالتالى يتحقق تكافؤ الفرص بين المرشحين.

وللأسف مصر خاضت تجربة مريرة عبر الـ30 عامًا الماضية، لكنها لم تأخذ كل الدروس المستفادة منها، لتنقية البيئة السياسية من صور الهيمنة والسيطرة، حتى مجلس النواب الحالى أصبح صورة مشابهة لما كان عليه الحزب الوطنى، فليس هذا دور من يمثلوا الشعب، لأن من يمثلون الشعب ينبغى أن يعبروا عن مصالحه واحتياجاته، وكان أولى بهم كأعضاء برلمان جاء بعد ثورتين، أن يقوموا بمبادرات لتنقية الإطار التشريعى من الثغرات التى ينفذ منها الفساد، سواء السياسى أو المالى أو الإدارى أو الاقتصادى.

- لا شك أن الانهيار القيمى والأخلاقى والسلوكى، من أهم الأسباب التى تشكل بيئة متسامحة مع الفساد، تعتبره أسلوب حياة، فالثقافة المجتمعية حاليًا أصبحت أكثر تساهلاً وتقبلاً لأوضاع الفساد، وعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى التعليم فى مصر بكل مراحله، سنجده مشبعا بالفساد والممارسات غير القويمة، بداية من الدروس الخصوصية، ومرورًا بالغش الجماعى، والمحاباة، وفى تصورى أن الجميع يتحمل مسئولية ما آل إليه، فأولياء الأمور والطلاب يرون الغش تعاوناً و«شطارة»، والسؤال هنا كيف لطالب بدأ حياته بالغش أن يصبح فى المستقبل مسئولاً أو طبيبًا أو مهندسًا أو محاسبًا نزيهًا؟.

وعلى الرغم من أن الجانب الأخلاقى والسلوكى ومعايير النزاهة والأمانة ساهمت بشكل كبير فى الظاهرة كما أشرت، إلا أن هذا لا يعنى أنها ظاهرة أخلاقية فقط، لأن المؤسسات تلعب دورًا كبيرًا موازيًا أو أهم، فالبنية المؤسسية التى تضم (التشريعات، والسياسات، وأجهزة الرقابة، وأجهزة تقوية النزاهة ومكافحة الفساد، وآليات المحاسبة فى العمل،...) مليئة ومشبعة بالثغرات والفجوات المهيئة للفساد.

- تصريحات الرئيس السيسى تؤكد دائمًا أنه لن يسمح بالفساد، وأن الدولة جادة فى التصدى له، وأنه ينبغى على الجميع حكومة وشعبًا التكاتف للقضاء عليه.. إذاً على مستوى رئاسة الجمهورية هناك موقف سياسى لمجابهة الفساد، لكن حتى الآن لا توجد رؤية عامة لذلك، لأن هذا الموقف لم يترجم إلى آليات مؤسسية.

- واثق فى أن الرئيس عازم على هذا الأمر، لكننا ما زلنا فى حاجة لتشريعات وآليات نافذة وفعالة، وهنا أود أن أطرح سؤالًا وهو متى يتم الكشف عن الفساد المستشري؟، ناهيك عن منعه، وتقوية المناعة ضده.

والإجابة أنه حتى يتحقق ذلك ينبغى أن يكون هناك حماية قانونية لمن يبلغون عن حالات الفساد، فحتى الآن لا يوجد لدينا قانون لحماية (الشهود، والمبلغين، والضحايا، والخبراء المشتغلين على مكافحته)، فهذه الحماية إذا تواجدت ستسهم بشكل كبير فى الكشف عن آلاف الحالات، لأن المُبلغ فى هذه الحالة سيكون مطمئنًا أنه لن يصيبه ضرر، أو يتم الانتقام منه، وبالتالى لن يكتم صوته. وهذا دور مجلس النواب، الذى عليه أن يسرع فى إصدار هذا القانون.

- الرقابة الإدارية تلعب دورًا نشطًا فى الكشف عن حالات ونماذج من الفساد الكبير المتوحش، لكن جهودها وحدها لن تكفى لملاحقة الفاسدين، فطاقتها وإمكاناتها لا تمكنها من التصدى بمفردها لبلد مشبع بالفساد.

أضف إلى ذلك أنه لا ينبغى التصدى لكل أشكال وأنماط الفساد مرة واحدة،

فالنهج السائد فى العالم الآن لمحاربته هو «النهج القطاعى»، الذى يقوم على الاختيار الاستراتيجى لمجالات ونوعيات وقطاعات بعينها، تكون أكثر ضررًا، وذات تأثير سلبى على عملية التنمية، وتضُر بفئات مجتمعية كبيرة، وتُبدد موارد الدولة، وتخرب سياساتها، بمعنى أنه يجب اختيار القطاعات الأولى بالتطهير، فمثلاً نبدأ بقطاع الجمارك، نظرًا لأنه يعانى من أشكال فساد مختلفة: (تهريب، أو التهاون فى تقدير الرسوم الجمركية، أو تمرير سلع مضرة وغير مستوفاة للمواصفات)، وبعدها الجهات الخاصة بمنح التراخيص للمستثمرين، ثم قطاع الصحة، وبعدها التعليم، ثم الذى يليه، بحيث يتم فحص كل قطاع، لرسم خريطة الفساد بداخله، والوقوف على المخاطر التى ينفذ منها، ومعرفة ما هى الأطراف المستفيدة، حتى نستطيع محاصرته، وأعتقد أن «الرقابة الإدارية» لا تمتلك الخبرات القطاعية سواء فى التعليم أو الصحة أو الجمارك، وبالتالى سيكون العمل فوق طاقتها، لذلك نحن فى أمس الحاجة لإعادة النظر فى المنظومة التى يتم التصدى بها للفساد.

كذلك فـ«الرقابة الإدارية» تعمل على الفساد بعد حدوثه، لكن وفقًا لنظام «النهج القطاعى» نستطيع أن نتعرف على النقاط التى تُتخذ فيها القرارات داخل كل قطاع، والتوصل بسهولة إلى الدوائر التى يتم فيها الفساد، بصورة تمكننا من وضع آليات المنع والوقاية، بالإضافة إلى تحسين الأداء والكفاءة والاستخدام الأمثل للموارد.

- الأجهزة الرقابية تعمل بأساليب عقيمة، لكن دعنى أؤكد لك أن الرقابة الداخلية فى الوزارات والهيئات والمصالح هى الأهم، فالرقابة الخارجية لن تستطيع وحدها القضاء على الفساد، كذلك نفتقد فى مصر نوعاً من أهم أنواع الرقابة وهو الرقابة الشعبية، وغياب هذه الرقابة تحديدًا أعتبره أمراً مؤسفاً بعد ثورتين شعبيتين.

- منظومة الإدارة الحكومية مُهيئة للفساد، فالوزارات والمؤسسات والهيئات ما زالت تعمل بأسلوب الإدارة باللوائح والتشريعات المُعقدة والمُعطِلة، بينما النهج العالمى الجديد يتجه للإدارة بـ(الأهداف والأولويات والاستراتيجيات والإنجازات والنتائج والأداء).

والأجهزة الرقابية حينما تقوم بالفحص والمراقبة يكون ذلك من خلال المنظومة الإجرائية، وهى عبارة عن أوراق من السهل «تستيفها».

أما إذا تم تطبيق النهج العالمى فيمكننا محاسبة المسئولين على إنجاز المهام التى تسند لهم عند تولى المسئولية، فضلاً عن قياس أدائهم، وهو ما يسهل عملية تنقية المنظومة من المخاطر التى ينفذ منها الفساد.

وبالتالى يجب أن تتخلص الحكومة من الأنظمة الداخلية الحالية، وأول هذه الخطوات، إعادة النظر فى قانون الخدمة المدنية المُتخم بالنصوص الغريبة فى ضوء المستجدات الحالية، والذى يُعد أسوأ من سابقه، فى الجمود، والمركزية، وفى التوحيد بين العاملين بجميع الأجهزة رغم اختلاف القطاعات الحكومية فى طبيعتها، وفى خلوه من موانع نفاذ الفساد.

- أتوقع أن يتضاعف الفساد بكل مستوياته خلال الفترة القادمة، خاصة بعد حزمة القرارات الاقتصادية الصعبة الأخيرة لحكومة المهندس شريف إسماعيل، التى أفقرت العاملين بأجر فى مصر، فى ظل الارتفاع الجنونى للأسعار، وانعدام الرقابة، وآليات السوق التى تذبح المصريين، مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار أن أجور العاملين بالقطاع الحكومى فى الأساس متدنية، ولا توفر حد النزاهة ولا حد الكفاءة والإجادة، بل وتُحرض على الفساد، وهناك من اضطروا لـ«مد يدهم»، ومن غير المعقول أن يكون الأجر الوظيفى لوكيل الوزارة - الرجل الثانى بعد الوزير- وفقًا لقانون الخدمة المدنية 2065 جنيهًا، ناهيك عن أن المستويات الوظيفية الأقل تُعد أسوأ من هذا، فخريج الجامعة يتم تعيينه فى أدنى المجموعة التخصصية مقابل 850 جنيهًا، أى أقل من الحد الأدنى للأجور المقدر بـ1200 جنيه.

- الكيانات والشركات الكبرى لديها القدرة على تحمل أعباء الفساد فى التعامل مع الأجهزة الحكومية، أما المشروعات المتوسطة والصغيرة، التى يوليها الرئيس السيسى عناية خاصة، فليس لديها القدرة على تحمل هذه الأعباء، ويعانى أغلبها من بعض سياسات الفساد.

- الأمية ساهمت بشكل كبير فى انتشار طائفة «الأعمال الطفيلية» حول جميع الجهات الحكومية، مثل مخلصى الجمارك، و«العرضحالجية»، وخبراء الضرائب، فجميعها فئات تعيش على الروتين، والبيروقراطية، والتعقيدات الحكومية، وسوء الأداء، وتعطيل المصالح الذى يُعد من أهم صور الفساد.

- التحول فى نهج التصدى للفساد ينبغى أن يتم بتوجيهه من القيادة السياسية، فالجهات الرقابية لن تبادر من نفسها بتغيير استراتجياتها.

- دكتور أحمد صقر عاشور

- خبير الحوكمة ومكافحة الفساد بالأمم المتحدة

- أستاذ إدارة الأعمال - كلية التجارة - جامعة الإسكندرية

- كبير مستشارين لشركة سكوباس – لويس ألن العالمية للاستشارات.

- مدير عام المنظمة العربية للتنمية الإدارية للفترة ( 1991- 1999)

- رئيس قسم إدارة الأعمال بكلية التجارة جامعة الإسكندرية للفترة 1984-1985.

- رئيس قسم الإدارة العامة بجامعة الكويت خلال الفترة 1987 -1990.

- العميد المساعد للشئون الأكاديمية لكلية التجارة والاقتصاد بجامعة الكويت خلال الفترة 1986-1990.

- مدير مشروع بحث محددات أداء المشروعات الصناعية فى مصر عام 1982.

- أستاذ مشارك، فى جامعة كونكورديا بكندا (1972 - 1973، و1979 – 1981) وأستاذ مساعد بجامعة ولاية كاليفورنيا– فرزنو (1969 -1972).

- عضو الفريق الاستشارى المخطط والموجه والمشرف (على أساس تطوعى بدون مقابل) على مشروع تحسين الخدمات المحلية فى مصر المقدم من هيئة المعونة الأمريكية (2000 - 2003).

- كبير مستشارى مشروع تحديث الخدمة المدنية باليمن – البنك الدولى (٢٠٠٣).

نرشح لك

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل