المحتوى الرئيسى

المحتسب.. من الزينى بركات إلى مصطفى الكاشف

01/18 19:52

كان يتمتع بسلطة واسعة لعقاب المخالفين ومراقبة الأسواق طوال العهدين المملوكى والعثمانى

قطع الأذن والجلد والتجريس.. عقوبات أنزلها أمين الاحتساب بالغشاشين والمحتكرين

مصطفى الكاشف يأمر بتكسير «قلل» مغشوشة فوق رأس بائع.. ويقطع لحم جزار خالف التسعيرة

كيف تحوَّل المحتسب إلى طاغية نشر الفساد والرشوة بين الباعة والجند؟

تولى مصطفى الكاشف الحسبة فى النصف الثانى من عشرينات القرن التاسع عشر، خلفاً لعثمان أغا الوردانى، الذى عزله الباشا، لأن ما أنزله من عقاب بالمخالفين لم يكن كافياً ولا رادعاً لهم عن أفعالهم، فكان لا بد لهم من شخص يقهرهم ولا يرحمهم ولا يهملهم، فوقع اختيار الباشا على «مصطفى الكاشف كرد» كما يقول الجبرتى، الذى يضيف وصفاً كاشفاً للأسلوب الذى اتبعه المحتسب الجديد للضبط والربط.

«بات يطوف على الباعة ويضرب بالدبوس لأدنى سبب، ويعاقب بقطع شحمة الأذن، فأغلق التجار الحوانيت ومنعوا وجود الأشياء على ما جرت به العادة فى رمضان من عمل الكعك والرقاق وغيره، فلم يلتفت لامتناعهم وغلقهم الحوانيت وزاد فى العسف ولم يرجع عن سعيه واجتهاده، ولازم على السعى والطواف لا ينام ليلاً ونهاراً، لا ينام الليل، بل ينام وقت ما يدركه النوم فى أى مكان ولو على مصطبة حانوت، وأخذ يتفحص على السمن والجبن ونحوه، المخزون فى الحواصل ويخرجه ويدفع ثمنه لأربابه بالسعر المفروض ويوزعه لأرباب الحوانيت، ليبيعوه للناس بزيادة نصف أو نصفين فى كل رطل، وذهب إلى بولاق ومصر القديمة فاستخرج منها سمناً كثيراً (...) وعندما رأى أرباب الحوانيت الجد وعدم الإهمال والتشديد عليهم فتح المغلق منهم حانوته، وأظهروا مخابئهم أمامهم».

كان مصطفى الكاشف قاسياً فظاً لا يخضع عقابه لأى قانون، فكان يقطع آذان الرجال إذا خالفوه لأتفه الأسباب.

يروى عنه أنه صادف عجوزاً يسرق حميراً تحمل بطيخاً فاستوقفه وسأله عن سعر واحدة منها، فأشار الرجل إلى أذنيه وقد وضع سبابته عليهما فلم يفهم الكاشف فكرر سؤاله مرات حتى ظن أن الرجل أصم، فقال له العجوز: يا سيدى اقطعها، لأنى لو قلت لك إن سعر البطيخة عشر فضات ما أعجبك وأمرت بقطع أذنى، ولو قلت لك بخمس فضات لأمرت أيضاً بقطعها، فاقطعها ودعنى أمضِ فى سبيلى، فضحك المحتسب وترك الرجل يمضى.

وهكذا أنقذت الفكاهة العجوز من يد المحتسب.

لم يكن قطع الأذن هو العقاب الوحيد الذى ينزله المحتسب بالمخالفين، كانت هناك أشكال أخرى للعقاب، منها مثلاً أنه قطع مرة أوقيتى لحم من جسد أحد الجزارين، لأنه باع لأحد الأشخاص كمية من اللحم وأنقص منها أوقيتين.

وفى عقوبة ثالثة أمر بوضع كنفانى عارياً فوق صينية الكنافة النحاسية التى أخذت تدور به والنار مشتعلة تحتها، لأنه طالب زبائنه بأن يدفعوا أكثر من السعر المحدد، وأبقاه على هذا الحال حتى احترق.

واعتاد أن يعاقب الجزارين بأن يضع فى أنوفهم خطافاً يعلق به قطعة من اللحم للدلالة على جشعهم.

وروى أنه صادف رجلاً يبيع قللاً من سمنود ويدعى أنه قلل قناوى، فما كان منه إلا أن طلب من المارة أن يكسروا القلل فوق رأسه.

لكن ذلك لا يعنى أن المحتسب كان حازماً فى تطبيق العدالة، الحق أنه لم يكن كذلك...

يروى عن مصطفى الكاشف أنه طلب من صاحب حمّام شعبى أن يحمم حصانه، فاستغرب الرجل الأمر، وأرسل إلى الكاشف ماء وأدوات الاستحمام ليحمم الحصان فى الإسطبل، لكن ذلك لم يعجب الكاشف، فذهب إليه مع نفر من مساعديه وأمرهم بضربه عارياً على بلاط الحمّام بالعصى حتى مات.

وبحسب الجبرتى، فإن وظيفة أمين الاحتساب «هى وظيفة قضاء وله التحكم والعدالة والتكلم على جميع الأشياء، وكان لا يتولاها إلا المتضلع من جميع المعارف والقوانين ونظام العدالة».

ومن عجب أن يلقى «حجاج الخضرى» وهو واحد ممن ناصروا محمد على حتى تم تنصيبه والياً على مصر، ويرد اسمه فى كل انتفاضة شعبية ضد جيوش بونابرت والمماليك، حتفه على يد محتسب الوالى الجديد «مصطفى الكاشف»، فقد تم اقتياده إلى الجمالية وشنقه على السبيل المجاورة لحارة المبيضة وقت السحور وتركوه معلقاً يوم بليلة حتى أخذه أهله ودفنوه.

يقول الجبرتى عن حجاج الخضرى: كان مشهوراً بالشجاعة والإقدام، طويل القامة عظيم الهمّة، وكان شيخاً على طائفة الخضرية، صاحب صولة وكلمة بتلك النواحى ومكارم أخلاق، وهو الذى بنى البوابة بآخر الرميلة، ولم يؤخذ بجرم يوجب شنقه، بل قتل مظلوماً لحقد سابق وزجر لغيره.

وقد ورثت مصر نظام المحتسب من العهد المملوكى واستمر فى العهد العثمانى، ونظام الحسبة قديم يرجع إلى العصور الإسلامية الأولى، وكما تشير الدكتورة ليلى عبداللطيف فى كتابها «الإدارة فى مصر فى العصر العثمانى»، فقد كان للمحتسب سلطة واسعة فى شئون البوليس والتنظيم فى كل الأسواق التجارية، استمرت فى العهد العثمانى، وكان المحتسب أساساً من رجال القضاء، وأشهر من تولى هذا المنصب فى نصف القرن الأول من الحكم العثمانى، كان القاضى الزينى موسى بن بركات فى عهد السلطان الغورى، واستمر فى منصبه حين تولى فايز بك شئون مصر.

يقول «ابن إياس» عن «الزينى»: لقد ساعدته الأقدام على بلوغ الأوطار، ورأى من العز والعظمة فى دولة ابن عثمان ما لا رآه فى دولة السلطان الغورى، كان يضع تسعيرة للبضائع الموجودة فى الأسواق، ويقبض على المخالفين ويضربهم ضرباً مبرحاً حتى يشرفوا على الهلاك، ويشق القاهرة فى موكب مهيب.

واستمر القاضى بن بركات يشغل وظيفة المحتسب حتى بداية عهد مصطفى باشا أول وال عثمانى لمصر، والذى عزله من الحسبة سنة 1512م، ووضع مكانه أحد أقاربه من العثمانيين، فى بداية «عثمنة وظائف الإدارة الكبرى فى مصر»، بتعبير الدكتورة ليلى عبداللطيف، واستمر الحال كذلك، حتى عاود المماليك سيطرتهم على الوظائف الإدارية وتسللوا إليها، فأصبح منصب المحتسب يشغله أحد المماليك كمعظم المناصب الإدارية الأخرى.

كان المحتسب يتجول فى أسواق القاهرة لمراقبة الأوزان والمقاييس والأسعار، يعيش على المخالفين ويعاقبهم، كان يسير فى موكب مهيب يرافقه الأتباع من حاملى الموازين، فإذا ضبط خبازاً ينقص فى وزن الخبز أو يصنع خبزاً رديئاً، يصادر الخبز ويعطيه للفقراء، و«يسمر» الخباز، أى يعلقه على باب حانوته من أذنه لمدة اثنتى عشرة ساعة، فإذا ما عاد الخباز إلى المخالفة مرة أخرى أنزل به عقوبة الجلد (200 أو 300 جلدة) على قدميه أو على ظهره، ثم يأمر بوضع لوحة كبيرة مثقلة بالرصاص على كتفه، وبها فتحة واسعة يخرج منها رأسه، ويأمره بالسير فى شوارع القاهرة لـ«الجرسة» حتى تخور قواه، أما إذا أنقص جزار فى الوزن أو باع لحماً فاسداً، فكان يأمر بربط الجزار فى مكان مشمس ويعقلون قطعة من اللحم الفاسد فى أنفه، ويتركونه فى هذا الوضع حتى تنتشر الديدان فى قطعة اللحم الفاسدة وتسقط على جسمه، فضلاً عن غرامة نقدية يدفعها.

لكن هذا لا يعنى أن المحتسب ذاته كان عنواناً للشرف والنزاهة، بل الأصوب أن العكس هو الصحيح، فقد كان مثله مثل الملتزم، يعهد إليه بمقاطعة معنية يدفع عنها خراجاً إلى خزانة الدولة والباقى له، وكان التزامه بمقاطعة احتساب يعطيه الحق فى أن يفرض الرسوم التى يراها على الباعة والمطاعم والتجار، ولزيادة إيراده كثيراً ما بالغ المحتسب فى الرسوم.

Comments

عاجل