المحتوى الرئيسى

يحيى حقي..ضمير "الكرة الأرضية" الذي منح قلبه للمنبوذين!

01/17 16:21

احتفى بالمهمشين فاستحق لقب “أديب الطبقة الوسطى

رفض نشر قصة للقعيد تحتفي بـ”قاتل”

غضب عليه عبدالناصر بسبب صمته

قال عن نفسه “قليل الأدب” بسبب قنديل أم هاشم

كتب عن البطل الشعبي “ابن صانع القباقيب”

“أكره الأبواب الموصدة، والنوافذ المغلقة، والأدراج المعصلجة والشفاه المطبقة.. وأحب نجم الحفلة الذي من أجله ذهبت إليها وعدت مرتوياً من فيضه ولكن قلبي مع الكومبارس الواقف إلى الوراء.. في الظل”!

هكذا كان يردد الأديب الكبير يحيى حقي الذي يوافق اليوم 17 يناير ذكرى ميلاده عام 1905، وكان يصف نفسه فيقول:

“أما الظاهرة الغريبة التي أحار كثيرًا في تحليلها وأنا أتأمل حياتي وإنتاجي, فهي أني وإن كنت من أصل تركي قريب, أحسّ بأني شديد الاندماج بتربة مصر وأهلها, وفي بعض الأحيان يرجّني هذا الشعور رجّا عنيفًا، ومعرفتي باللغة العامية المصرية وتعبيراتها تفوق ما حصّلته منها مباشرة، وقد يكون ذلك راجعًا إلى الفطرة والحدس والإحساس غير الواعي، ولعل هذا الحب هو الذي يميل بي إلى استخدام بعض الكلمات العامية في كتاباتي رغم أني من المهووسين بالفصحى”.

“محيط” يتوقف عند أبرز مواقف الراحل كما رواها بنفسه.

في كتابه الأخير “كناسة الدكان” يروي الراحل عن أول لقاء بينه وبين الشاعر العظيم بيرم التونسي، حيث فوجي خقي بالشاعر يربد وجهه ويفاجئه بقوله:

- هو أنت؟ الله يخرب بيتك!

والحكاية باختصار أن “بيرم” كان في باريس يعاني شظف العيش، ولا يجد قوت يومه، فوصله ذات يوم إخطار من البريد بوصول طرد له، فظن أن صديقاً في مصر أرسل له بعض الملابس أو المأكولات، ودفع الأرضية التي طلبت منه، وكانت كل ما بقي في جيبه من نقود، فإذا به يجد الطرد عبارة عن مجلة قديمة، فرماها على الأرض وهو يلعن ويسب.

وكان على بيرم أن ينتظر أكثر من ثلاثين عاما ليعلم أن مرسل هذه المجلة القديمة إليه هو يحيى حقي، وأنها كانت تحوي مقالا له يشيد فيه ببيرم وأزجاله، ويعده إماما في فن القصة القصيرة أيضا، “كأنه يريد أن يقول له: في مصر إنسان يحبك ويعجب بك ويشيد بفنك ويهمه أن يبلغك هذا الحب وأنت في غربتك...”.

وفي عام 1968، أي بعد وفاة بيرم بأكثر من سبع سنوات، تذكر يحيى حقي هذه الواقعة فسجلها في مقال بمجلة “المجلة” بعنوان “من كناسة الذكريات”.

يروي ذكرياته عن عمله بالقنصلية المصرية بجدة، وتوقف يحيى حقي عند يوم الوقوف بعرفات في الحج، أو يوم الحشر كما أسماه، وعن موكب المحمل الذي كانت ترسله مصر كل عام إلى الحجاز مصحوبا بفرقة موسيقية عسكرية، وكيف كانت السبب في أزمة سياسية بين الجانبين بعد أن كاد يقع صدام مسلح بين غلاة الوهابيين وهذه الفرقة الموسيقية.

ونتيجة لتحريم الحكم الوهابي الجديد للموسيقى تحريما صارما كان هواة الموسيقى يتفننون في تهريب الأسطوانات بداخل أثواب “المانيفاتوره” ويقيمون حفلات الاستماع إليها سرا، مما وصفه الكاتب في الفصل المعنون “حفلة موسيقية كتيمي” بدعوة من شاب حجازي، وضمع “الفونغراف” تحت الكنبة وسد الفجوة التي يخرج منها الصوت بفوطة كبيرة.. إلى آخر تلك الإجراءات الوقائية!.

كما وصف لنا حفلة غنائية أخرى حضرها في بيت رجل ثري بالمدينة المنورة، والمفروض أن المطرب لا يقدم إلا التواشيح الدينية، غير أن المجتمعين ظلوا يزحلقونه بسرعة لينتقل من دور لآخر حتى انتهوا به إلى غناء قصيدة “أنا على دينك”. ويضيف:

“زالت دهشتي حين تبينت أن أغنية” أنا على دينك” هي نسخة طبق الأصل لحنا ونصا ولهجة عامية مصرية لأغنية لأم كلثوم كانت شائعة في ذلك الوقت ومطلعها “أنا على كيفك”، حينئذ اهتز جميع الحاضرين من شدة الطرب وطفح البشر على الوجوه. انظر كم كانت بارعة وساذجة معا حيلتهم في كسر القيود وهدم السدود لينفذ الطرب إلى قلوبهم ولو من أضيق ثغرة”.

في مقاله بمجلة “العربي” مارس 1992، يقول فؤاد دوارة: يحدثنا يحيى حقي في “مجرد ظهور” عن قوة تأثير هجمة التلفزيون على حياتنا وسلوكياتنا، فما زلنا نفرح بمجرد ظهور واحد منا على شاشته ونهنئه على ذلك دون أن نشغل أنفسنا بما قال، وهل وفق فيه أو لم يوفق.. أما “المهنة” فهي تصور حيرته في الصفة التي يضعها أمام اسمه في خانة المهنة.. ” هل أقول “كاتب” فلا أضمن أن يجيئني سؤال: كاتب حسابات؟.. كاتب طابونة؟.. كاتب عمومي أمام محكمة؟.. أم أقول أديب.. الأدب صفة.. فهل يصلح أن يكون صنعة أو مهنة.. وأخيرا اهتدي إلى الحل وأكتب “بالمعاش”، لا أقصد أنني كنت موظفا ثم بلغت سن الستين، بل أنني لا أزال أعيش.. وهي مهنة حلوة ولا ريب!..”.

الروائي والقاص خيري شلبي يشبه حقي بـ”كرة أرضية تمشي على الأرض”، فهو يملك تفاصيل العالم كله بداخل رأسه، والضمير الذي نعرفه معنى وشعاراً نراه شاخصاً في عيني حقي... وتفيض منها مشاعر إنسانية وعواطف أبوية ومسؤولية وطنية. ويؤكد شلبي أنه دون رجال عصره من الأدباء والمفكرين والمسؤولين عن المؤسسات الثقافية، تميز حقي بالانفتاح على الحياة الشعبية بكل مفرداتها وبجميع مستوياتها الاجتماعية والتاريخية والمكانية.

ويرى شلبي أن يحيى حقي كان “صاحب رسالة نورانية مقدسة”، وأفنى حياته في إعادة صوغ البشر وغسل أنفسهم وعلاجها من سوء التنشئة.

ويذكر الأديب يوسف القعيد أن له تجربة مع حقي وفق ما كتبه حمدي رزق، ويقول عنها : في أواخر الستينيات قدمت له قصة عن قاتل، لينشرها في مجلة (المجلة) التي كان يرأس تحريرها، فرفض أن ينشرها، لأن رأيه كان أنه لا يجوز للأدب أن يمجد قاتلاً، وقتها حزنت.. لكن بعد سنوات وبعدما نضجت تجربتي اكتشفت مدى صحة ما قاله لي يحيى حقي.

لقد كان حقي مولعاً بالطبقة الوسطى وممارساتها وتقاليدها وتفاصيل حياتها وأحاديثها، حتى في نزواتها وصور ضعفها لا تلقى منه سوى الفهم والإشفاق، هم (ملح الأرض)، يصنعون حياة ويعيشونها، مقبلين على حلوها ويشفقون من مرها، وهو ـ رغم انتمائه للطبقة الوسطى ـ صديق الفقراء والضائعين والمسحوقين والمجاذيب والدراويش، كل تلك الثمار التي سقطت من شجرة الحياة، وأخذت في قلبه أعز الأماكن.

نهى ابنة يحيى حقي الوحيدة تصف علاقتها بأبيها بأنها “علاقة عجيبة”. تقول: “توفيت والدتي وعمري ستة أشهر فقط، فغاص أبي بداخلي وصادقني، وعلمني أن الأفعال ـ لا الأقوال ـ هي أساس العلاقة الإنسانية، وعلمني أن الكلمة الصادقة تخرج من القلب لتستقر في القلب ببساطة”.

وكان يقول: “حينما تكتبون اقفلوا أفواهكم، واربطوا ألسنتكم، ولا تحركونها، لأن هناك كثيرا من الألفاظ ستخدعكم بموسيقاها”.

وعن أسراره أثناء الكتابة، يقول حقي: “لا أستطيع أن أكتب بقلم رصاص”.

تحت عنوان “ابن القباقيبي” يروي حقي في كتابه “صفحات من تاريخ مصر” عن ثورة 1919 أنها ‏ كانت ثورة الشعب كله، لذلك كان حنقنا شديدا ونحن نسير في المظاهرات أن نجد الصحف الأوروبية‏,‏ وبالأخص الإنجليزية تصف هذا الشعب الثائر بأنه من الغوغاء.

لاشك أن كل إنسان كان حاله مثل حالي‏,‏ شعور متقد يطلب الشفاء‏,‏ يطلب بطلا يخرج من صفوف الشعب‏,‏ ولم يكن يدور بخلدي ان هذا البطل سوف يكون صبيا يقيم بالقرب من داري كان في مثل عمري‏14‏ سنة‏..‏ الفارق أنني ببدلة فوق قميص وهو بجلابية على اللحم‏,‏ وأنا ألبس حذاء وهو حاف‏,‏ رغم أن مهنة أبيه هي صناعة القباقيب‏.‏

يواصل حقي: كنت أعرف دكانه وأمر به‏,‏ كلما ذهبت لزيارة السيدة سكينة والسيدة نفيسة‏.‏ دكان مظلم طويل عريض‏.‏ ولصاحب الدكان ولد وحيد‏,‏ هو كل أمله واعتماده إذا أعجزته الشيخوخة‏,‏ وقع الاختيار على هذا الولد الوحيد‏.‏ سقط قتيلا برصاص الإنجليز في مظاهرة أمام الدكان فسار معها يردد هتافاتها‏,‏ فخرجت له جنازة مشهورة في تاريخ الثورة بأنها جنازة ابن القباقيبي سار فيها الشعب كله‏,‏ من مستشارين وقضاة ومحامين‏,‏ إلى الطلبة الكبار والتلاميذ الصغار‏,‏ إلى صفوف غفيرة أخرى من أبناء الشعب‏.‏ كنا نريد بهذه الجنازة أن نقول لصحافة الإنجليز‏:‏ الرعاع يشيعون بطل الرعاع‏.‏ وهذه الجنازة لم تشبهها جنازة أخرى طوال الثورة‏.‏

ويختتم حكايته فيقول: ماذا كان اسمه؟ اين قبره؟‏.‏ لا أحد يدري‏.‏ كم عدد شهداء ثوره‏1919‏ ؟ لم يجر إلى اليوم إحصاؤهم مع الأسف‏,‏ ولا تخليد أسمائهم في سجل شرف‏,‏ دع عنك إقامة نصب تذكاري يفي بحقهم علينا‏.‏ تمنيت أن يقام هذا التمثال‏,‏ وأن يكون تمثالا لصبي بجلابية يمسك في يده المرتفعة فردة قبقاب‏!‏

لماذا غضب عبد الناصر عليه؟

يروي الراحل رجاء النقاش في أحد مقالاته وفقاً لما ورد في مذكرات الدكتور ثروت عكاشة: أن الرئيس عبد الناصر غضب على يحيي حقي بسبب حضوره لجلسة تعرض فيها عبد الناصر لهجوم شديد‏,‏ واستطاع ثروت عكاشة بجهد استثنائي كبير أن ينقذ يحيي حقي من الاستغناء عنه‏,‏ والاكتفاء بنقله من منصبه الكبير كمدير لما كان يسمى باسم مصلحة الفنون إلى العمل كمستشار لدار الكتب‏,‏ ثم أصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير مجلة “المجلة” وظل يرأس تحريرها من سنه‏1962‏ إلى أن أصدر الدكتور عبد القادر حاتم قرارا باغلاق هذه المجلة فور توليه لمسئوليه الاعلام والثقافه في منتصف سنه‏1971.‏

بعد كتابته “قنديل أم هاشم” رأى البعض أن في هذه القصة تعبيرا عن مشاعر عدائية ضد شعب مصر‏,‏ مما يشير إلى أن يحيي حقي يكره المصريين ولا يشعر نحوهم بأي حب أو تعاطف‏,‏ ومن المدهش حقا أن يحيي حقي تأثر بهذه الآراء فانتقد نفسه نقدا بالغ القسوة والعنف‏,‏ وجاء ذلك علي لسانه في حوار إذاعي طويل أجراه معه المذيع عادل النادي بتاريخ‏25‏ إبريل عام ‏1991,‏ يقول فيه عن نفسه‏:‏

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل