المحتوى الرئيسى

كلنا محتكرون .. بل متفردون

01/14 13:09

“وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، من آيات الله في ملكه أنه خلق التباين والاختلاف في كل شيء، فلا يليق بالقادر الذي ليس كمثله شيء أن يخلق الكون من نسخ متطابقة، ولو تخيلنا الأمر إسقاطا على الإنسان، لكانت الحياة سلسلة متتالية من الاحتمالات الثابتة، وكانت الأحداث اليومية روتين من المواقف المتوقعة والمتشابهة، ولم يكن للتعجب والاندهاش والإعجاب والتميز والإبداع والابتكار والاختراع أي وجود، لك أن تتخيل كيف أنها حياة مملة تخلو من الشغف والأحلام والتجدد والاستمتاع، لأننا في تلك الحالة نسخ مستنسخة في الأفكار والمعتقدات والقدرات والخبرات، رغم أن حياة كتلك ستصبح أكثر هدوء فلا داعي للشجار ما دمنا نفكر بنفس المنطق، ولا داعي للقتال والعراك طالما ندين بنفس الدين والمعتقد، بل لا داعي للتغيير والتطور والاجتهاد طالما جميعنا على قدر متساو من كل شيء فلا مجال للتنافس سواء على المستوى الدنيوي أو الأخروي وبالتالي انتهى الصراع بين الخير والشر واسترحنا من البحث عن الحقيقة وانعدم السعي للصواب والمثالية وتجنب الخطأ، ولذلك كان الاختلاف رحمة وحكمة عظمى.

على الرغم من بشاعة هذا التخيل، إلا أننا جميعا نتمنى ذلك في قرارة أنفسنا، إن لم يكن دائما فقليلا أو بعض الوقت أو أحيانا وربما في لحظات اليأس فقط، ولكن هذا لا يتعدى كونه شيئا من الأنانية البشرية، وكلما زادت الأنانية في النفس زاد ميلها لتلك الأمنية، فمن يكره أن يكون الكون كله نسخا مستنسخه منه ومن فكره ومبادئه وطريقته في الحياة وظروفه بل ويعيشون جميعا نفس ما عاشه، من منا لا يرى في نفسه النموذج المثالي للإنسان كما يجب ان يكون ولو بنسبة بسيطة، فكلا منا يرى نفسه الكائن النموذجي، ويدافع بكل ما لديه من قوة عن هذا المعتقد الأبله، هذا النموذج الذي يدعوا له وكأنه دين جديد يتمنى أن يتبعه العالم ليعمه السلام، كلا منا يرى نفسه المخلص الكوني الفلتة الفت الفذ الألمعي الذي عرف أين يخفي القرد ابنه ومن أين تؤكل الكتف.

والحقيقة التي تتناساها، أنك مجرد نقطة ضئيلة تسير على الأرض في كون واسع هائل وعملاق ومستمر في تعملقه طول الوقت والى أن يشاء الله فيكتب له النهاية، لو تخيلت حجمك بالنسبة لأهل السماء أو حتى خارج الكرة الأرضية فقط فأنت لا شيء على الإطلاق، لا ترتقي لتصف نفسك حتى بالذرة أو حبة الرمل، وبالتالي لا فرق بينك كنقطة لا ترى بالعين وبين باقي النقاط الأخرى “باقي البشر”.

ومع ذلك، نحن خلفاء الله في الأرض، نفخ فينا من روحه، وفينا شيئا من القدسية الإلهية التي أوجدها الله فينا، لذلك فبنو آدم أجمعين من أعظمهم لأحقرهم ومن أكبر ساداتهم الي أقلهم شأنا وهوانا مرتبة تعلو على سائر الكائنات وهي رتبة البشرية ونحن جميعا متساوون فيها، وكانت تلك النفخة أو السر الأعظم شيئا من الله أي أن الله أودع في كل منا من روحه شيئا من الحقيقة، شيئا منها فقط، وليس كل الحقيقة، فكيف لنا أن ندعي احتكارها؟

لذلك فنحن البشر متفردون وأحاديون في كل شيء نفوسنا وأرواحنا وحيواتنا ومصائرنا وعقولنا وأجسادنا الي حد تفرد الـ دي إن إيه لكل منا وتفرد بصمات أصابعه وبصمة صوته وبصمة عينه، وهذا ما يؤكد أن فينا شيئا إلاهيا مقدسا جعل لنا شيئا من صفات الله ولكن بنطاق محدود اكتسبناه من نفخة الله في أبونا آدم، وكأن الله أراد بذلك أن نكتشف بتفردنا تفرد الخالق الذي استطاع أن يخلق هذا التفرد المتعدد المعجز في كل تلك المليارات من البشر، وكأننا نحن أكبر دليل على وجود الله دون أن نعي كما يقول عز وجل “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ”

إذا من اين تأتي مشكلة احتكار الصواب والحقيقة والعلم والصلاح والقدرة والنبوغ؟ التي يدعيها كل مدعي، وتكمن الإجابة في استيعاب الإنسان حقيقة تفرده بشكل خاطئ أناني متكبر، يستعلي فيها على طبيعته البشرية المضادة لصفة التفرد، وهي صفته المذنبة وعيبه ونقصه التي علمنا الله أيها فكل ابن ادم “خطاء” فنحن متفردون ولكن خطاؤون، تائبون وعائدون، عالمون وجاهلون، مدركون وغافلون، فكل منا يظن أثما أنه امتلك وحده التفرد والحقيقة، أنت بالفعل متفرد ولكن التفرد ليس حكرا عليك، فكل أبناء آدم مشتركون في صفة التفرد ومتساوون في تفردهم، بل أنهم  متساوون ومشتركون في اختلاف وتباين مفردات هذا التفرد، فذكاء هذا يختلف عن ذكاء هذا وموهبة هذا تختلف عن موهبة هذا ولا يقتصر الأمر على درجات الاختلاف وإنما جوهره وماهيته، فتلك الفتاه جميلة وتلك الفتاة جميلة أيضا بل قد تعجز عن التفضيل بينهم في درجة الجمال رغم اختلاف الملامح تماما، سبحان المعجز المهندس الأعظم.

لا تدعي العلم او المعرفة، لا تدعي امتلاك زمام الصواب والخطأ، لا تنتقد من اختلف في تفرده عن تفردك، لا تحتقر من تظن أنه لم يصل لما وصلت إليه فكلنا جزء من كل، ولا يوجد على الأرض من يملك الحقيقة المطلقة في أي شيء، كلما ادعيت احتكار الحق كلما كنت أبعد الناس عنه، تقبل الأخر باختلافه المختلف عن اختلافك، فالحقيقة المطلقة لا يملكها إلا الله، ولم يوجد على الأرض إنسان أكمل من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أنت لتدعي احتكار الحق؟

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل