المحتوى الرئيسى

السودان بعيون مصرية "3 - 5"

01/13 21:46

من عادتي دائماً أن أصطحب معي كتاباً أقرأه على وزن تأبط كتاباً، سواء كنت في باص أو سيارة أو حتى طائرة، وأعتقد لو ركبت صاروخاً يوماً ما وكان متوجهاً إلى القمر، فإني سأفكر أول ما أفكر بما سأحمله من كتب للقراءة، فإنها عادة غلَّابة، والكيف غلّاب، كما يقولون عندنا في مصر، فكَّرت طويلاً فلم أجد أمامي سوى كتاب "أجمل قصائد نزار قباني" السياسية والغزلية والوطنية التي قالها في المرأة أو الوطن العربي المتشظي، فكان يعتبرهما واحداً أو وجهين لعملة واحدة، طفقت أقطف من أشعاره "أصبح عندي الآن بندقية"، "المرأة المحايدة"، "بلقيس"، وكيف أنه كان يقول ذهبت إلى العراق بقصيدة فعدت بنخلة جميلة، وهي التي أصبحت زوجته وأمه وكل شيء في حياته.

3 ساعات بالضبط هي مقدار الرحلة من الدوحة إلى السودان، جلستها بفارغ الصبر كمن ينتظر نتيجته في اختبارات الثانوية العامة، وحين جاءت اللحظة وأعلن قائد الطائرة وصولنا للأجواء السودانية، فتحت الشباك لأجد هذا التراب الأحمر الساحر، دقائق وهبطت الطائرة وجاءت اللحظة الحاسمة حين أرى السودان بعيني المجردة، فلا يحجزها عني شبَّاك أو حتى حاجز حدودي لعين، خرجت بابتسامة المضيفة التي وقفت عند باب الطائرة وهي تقول لي بالإنكليزية أهلاً وسهلاً.

وقفت على سلم الطائرة وتنفَّست، فإذا بي أقول للوفد الذي أرافقه إنني أشم رائحة مصر يا أصدقائي، رائحة السودان مثل رائحة مصر تماماً لا فرق بينهما، كأن الهواء يرفض ما حدث من جريمة التقسيم التي كانت يوماً خنجراً في ظهرانينا جميعاً.

هبطنا لنجد وفداً سودانياً كان في انتظارنا وأخذونا إلى صالة كبار الزوار، وجلست أنظر إلى المطار وحركة الطائرات الخليجية التي لا تتوقف هناك، حتى استقبلنا حسن، وهو شاب سوداني له ابتسامة بصفاء النيل، بشوش ويضحك دائماً مع قوله "مرحب بيك"، بكسر الياء؛ لتخرج للوجود بلهجة سودانية أصيلة، حتى قدّم لنا اختراعاً سودانياً، وهو مشروب اسمه "تبلدي"، يستخلص من شجرة تزرع في جنوب السودان مثل جوز الهند تماماً، تأخذ شرابها بعد كسر القشرة الخارجية لها، وهو مفيد جداً لأمراض المعدة، ثم مرت دقائق وجاء بعصير آخر، وقال هذا "أرادب"، وهي شجرة تزرع في السودان أيضاً، ولكن في كل المناطق، وقد شربناها على أنغام إيقاعية سودانية للمطرب ترباس، وهو مطرب الشعب هناك، وأغانيه متداولة في كل الأماكن.

ثم خرجنا من المطار في حفاوة استقبال وابتسامات لا تنتهي لنا، وتزداد الابتسامة لك كلما عرفوا أنك مصري، وطفقت السيارة تخترق بنا شوارع الخرطوم، وأنا أنظر كطفل صغير يحاول أن يملأ عينيه من كل شيء، وبخفة دم قال لنا أخونا السوداني الذي معنا إن هذا الجسر المعلق والمتجه لجزيرة جميلة هناك في النيل هو جسر "توتي"، ومعناه اتنين شاي بالإنكليزية، ولكن الدكتور نشأت شرحها بطريقة أخرى، أن هذه التسمية من الممكن أنها جاءت من نسب شجرة التوت بالعربية، وهنا يشرح لنا هذا التلقي للمفردة عمق النظرة الجمالية للسودانيين والمصريين، فكلهم في حب الحياة سواء.

دقائق ووصلنا إلى فندق كورال في وسط العاصمة السودانية، وبالمناسبة شوارع الخرطوم مزروعة بالأشجار الكبيرة والسيولة المرورية فيها أكثر من رائعة، فلا تقف إلا نادراً كما أن دكاكينهم تشعر أن بعضها دكاكين قرى عتيقة في مصر، وهي تلك الدكاكين العامرة بالأصناف المختلفة رغم بساطة ديكوراتها وأبوابها الخشبية التي تتحدى الزمان، وصلنا إلى الفندق وشعرت حين دخلت إليه أنني داخل فعلاً إلى فندق إفريقي عريق، لا أعرف لماذا؟ وتذكرت فيلم محمد علي كلاي، وتلك الأجواء الإفريقية حين أقام مباراته مع فريزر.

وبدأت أشعر بأصوات الجمهور وهو يقول "اقتله يا علي"، دخلت وجلسنا ننتظر دورنا حتى سمعت كمانجا رقيقة تشدو بلحن رائع، اعتقدت أنه تسجيل حتى عرفت أن هنالك عازفاً سودانياً يجلس آخر قاعة الاستقبال؛ حيث الكافيتريا، اسمه أحمد التيجاني، والمشهور بأحمد باص، هو من يعزف هذا اللحن، وهو لمؤلف بريطاني أسلم، وهو المغني المشهور يوسف إسلام، وهذه المقطوعة مسماة بسادلينزا، تركته بعد أن حيّته على العزف الرائع؛ ليمتع الجمهور، وعدت إلى مكاني مرة أخرى حتى وجدته يغير اللحن الذي يعزفه؛ ليعزف لحناً مختلفاً وهو "أغداً ألقاك"، ووقفت متأملاً لأبيات شاعرنا التي يقول فيها: "قد يكون الغيب حلواً إنما الحاضر أحلى"، نعم أنا أعيش حاضراً أحلى.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل