المحتوى الرئيسى

رسالة إلى صديقي.. لن أكتبَ عن ترامب

01/13 21:46

تكثرُ في نفسي التساؤلات، وتتدافعُ إليَّ الأحداث، على هيئة كلماتٍ في أبهى حُلَّتِها تراود قلمي عن هواه، بل عن شغفه، تُغريه بجزيل الثواب إن قبل، وتعده بسيلٍ من الإعجابات والثناء على صَنيعه، وتُبشِّره بأنَّ كلَّ جميلٍ ينتظره.

أتراكَ تقبلُ بهذا يا قلمي؟! هل شغفي للتدوين سيدفعني لكي أواكب عجلة الأحداث وما درج على ألسِنة الكُتَّاب والمدونين وما تصدَّرَ عناوين الرأي العام؟ أتراك ترضى بأن تقتادك الظروف وموازين القوة حيث أرادت لك أن تكون؟ اثبُت قلمي! فإنّ هناك جراحاً تنزف وأرواحاً تئِنّ كنتَ أنت الصوت الذي يصدح بالحقِّ باسمها علّ جرحها يلتئم ويصيرُ أنينُها نداءاتٍ للحرية تُسمع، هي أَولى بك من ضجيج الشهرة وأضواء الكلمات، اثبُت وقلّ لهم: "لن أكتب عن ترامب".

تتسارع عجلة الحياة، وتتسارع معها الأحداث، ومع التكنولوجيا الحديثة فإنّ أخبار العالم تتسابقُ إلى مُتلقِّيها لِتتلقَّفها أقلامُ الكُتَّاب والمدونين، سعياً منها لمواكبة كل جديد، ورغبةً منها بإيصال رسالتها تعليقاً على كل حدث وحادثة، ولكن ألا يجدرُ بأقلامنا أن تُرتب أولوياتِها؟ أن تتأنّى وتكتبَ عمّا ينفعُ الناس لا عمّا يشغلُ بالهم؟ أن تختارَ جيداً من هو بها أحقّ وأولى؟

نعم.. شغل فوز المرشح الجمهوري والرئيس الأميركيّ الفائز "دونالد ترامب" الرأي العام وأثار جدلاً واسعاً وصل صداه بقوّة لمواقع التواصل الاجتماعي التي ضجّت به، واختلفت الآراء حول مستقبل أميركا والعالم بعد هذا الفوز المفاجئ، ولكن أن يَحوزَ على ذلك القدر من اهتمام الأقلام الكاتبة وأن تنشغلَ به كثيرٌ من المدونات، كان مما أصابني بالضجر حقاً، وزاد من إصراري: "لن أكتبَ عن ترامب".

أعجبتني مقولة تقول: "فاز أبو لهب على حمّالة الحطب"، ولهذه المقولة أبعاد كثيرة وأبرزُها: أنّه لا فرق! وما يعجبني فيها حقاً هو صِغَرُ الجملة وعِظَمُ التعبير، سِتُّ كلماتٍ كانت كافيةً تماماً للتعبير عن مجريات انتخابات الرئاسة الأميركية لمن كان له قلب يبصر وعقلٌ يُدرك.

ومن هنا فإنّ إيلاءَ أيّ قضيةٍ مهما صَغُرَ شأنُها أهميةً بالغة كتلك التي حظي بها "ترامب" يجعلُ منها تبدو عظيمةً ذات قيمة، وإن كانت لا تعدو كونها قضيةَ رأي عام أميركي خاصة، ولكن كان لآلة الإعلام الحديث المرئِيِّ والمَسموع دور جلي في تأثيرها المباشر والواضح على العالم العربيّ والإسلاميّ؛ لتتصدَّر قضاياهم ومشاغلَهم في مشهدٍ مضحكٍ مبكٍ في آن، مشهدٌ يُجسِّد واقعاً صعباً يعيشه الإنسان العربيُّ والمسلم يتناسى فيه أبرز قضاياه، ورغبةً في الهروب من مشاكله وكثرة همومه؛ ليِعُزِيَّ نفسَه بمصيبة أميركا القادمة -على حدّ زعمه- فمصائبُ قومٍ عند قومٍ فضائِلُ، ولكن لن أكون متشائماً وسأقول: عساها تكون كذلك.

لا يخفى على عاقلٍ أو ذي بصيرة أن الواقع العربيّ المسلم يُشكِّلُ بيئة خصبة لكلّ قلمٍ يريد أن يكتب ويبدع، هذا الواقعُ الصعب المليء بالآلام والمآسي، هذا الواقع الذي بات لا يعرف إلا الحروب والنزاعات، والذي بات فيه صراع العقل والروح والدين صراعاً واضحاً لا يمكن غضُّ الطرفِ عنه، وأن كثيراً من شبابنا وأقلامنا كذلك باتوا مستهدفين وبكل الوسائل المُتاحة، فإنّ كثيراً من المؤامرات ونوايا بالإفساد باتت تتهدَّدُنا باسم الثقافة والانفتاح على الآخر، نعم؛ فإنّ انسلاخنا عن هويتنا وقضايانا حلمٌ يتوق له الكثير من المتكالبين على أمتنا، كيف لا ونحن مركز الأحداث في هذا العالم، وبنا ينشغل العالمُ أجمع، وإنّي لأحسبهم أكثر انشغالاً منّا نحنُ، فرغم التقدم والازدهار والوعي الذي نحسبُ أنفسنا عليه نحنُ الجيلُ الحاليّ، فإنّ قصورَنا عن قراءة الواقع أو ادَّعاءَنا هذا القصور لمن العجائب، فحين تعود للجدِّة الفلسطينية التي رغم "أُميَّتِها" تجدها صاحبة نظرة بعيدة، إذ كانت تقول: "سلاحك شرفك، إِن صُنته صانك وإن خُنته خانك"، وكأنها ترغبُ بأن تقول: "قلمُك هذا الذي بين يديك ليس مُستأجراً ولا طالب شُهرة، بل هو جنديٌّ صاحب كرامة لا يقبل ضيماً أو ذُلاً، ولا يشغلُه بالدرجة الأولى إلا دينُه وطنُه وأهلُه، فيا ذا القلم، كن أهلاً له".

أهلَ القلم.. أيُّها المدوِّنون ويا أيُّها الكُتّّاب، ليس حديثي حديث معاتب، ولستُ أقولُ إنّ فوزَ ترامب ليست قضيةً ذا أهميّة، ولكنّ أولويتها ليست تُذكر إذا ما قورنت بقضايا أمتنا الراهنة، فكثيرٌ من الشباب تشغلُهم كينونتهم، دينُهم، فكرهم، إلى أين ينتمون؟ كيف ينجحون في حياتهم الاجتماعية والأكاديمية والمهنية، أليس أولى بأهل القلمِ أن يعيدوا صقل هذه الشخصيّة، أليس أهلُ القلم هم الحريصين، الساهرين على قضايا أبناء جلدتهم، الباحثين عن الحقيقة؟! فحريٌّ بنا ضبطُ بوصلة أقلامنا نحوَ تقدُّم شعوبنا وازدهارها، أن يكون شعارُها: "هي لله هي لله، لا للسلطة لا للجاه"، حتى تستطيع النهوض بهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الظالمين إلى عدل أهل الحقِّ والموقِف.

وأخيراً أقول: ما دفعني لكتابة هذه المدوّنة هو سؤال أحدِ أصدقائي لي: "لماذا لا تكتب عن ترامب؟ في ذلك الوقت يا صديقي لزمتُ الصمت ولم أجبك، ولكنني أقول لك الآن:

كيف أكتبُ عن ترامب والجرحُ في أمتي غائر ليس يلتئم وليس الدمُ فيه يتخثَّر؟! كيف أكتبُ عن ترامب والطفلُ من سوريا يعيش تحت الركام وبين أنقاض المنازل وعلى وقع قصف الطائرات؟! كيف أكتب عن ترامب وعِراقُنا يُدنّس وتُسلب خيراتُه ويُهجرُ أهله؟! كيف أكتبُ عن ترامب ويَمَنُنا جريح يكابد؟! كيف أكتبُ عن ترامب ومصرُ الحبيبة تُجوّع وخيراتُها تُنهب ويسوسها ظالم؟! هل ضاقت بنا القضايا والهموم لنبحث عمّا نؤرِّقُ به أقلامنا لتكتب؟ أليست جراحاتُ فلسطين أحقّ؟ أليس أن يُقيم فينا مجرمٌ قاتل متعطشٌ للدماء أولى؟ قل لي بربّك: كيف أكتب عن ترامب وأرضي كلَّ يومٍ تُغتصب، وإخوتي يُؤسرون ويُنكَّلُ بهم؟! كيف أكتبُ عن ترامب وهناك جنديٌّ لا يقربُه نعاس يترقب المسجد الأقصى.. يتوق للُقياه ويقدم دمه صداقاً؟! المسجُد الأقصى يعاني، يُدنّس، يُحاصر، يُهدم رويداً رويداً، حتى إنّهم منعوه أبسط حقوقه بأن يتكلم، كيف أكتب عن ترامب وهم يريدون أن يُصمِتوا الله أكبر؟

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل