وفاء هلال تكتب: لورنس.. يد بريطانيا في الشرق | ساسة بوست
منذ 1 دقيقة، 13 يناير,2017
بعد عامين من نشوب الحرب العالمية الأولى ظهرت حركة تحررية جديدة في الجزيرة العربية، تنظر للعثمانيين بصفة المحتل الواجب طرده لنيل العرب حريتهم يتزعمها الشريف حسين شريف مكة وأبناؤه الأمراء الأربعة وأبرزهم الأميران عبد الله وفيصل .
توماس إدوارد لورنس، ضابط مخابرات إنجليزي، وعالم آثار ورسام خرائط، المثقف «بشدة» والكاسر «كثيرًا» للقواعد والمحترم «قليلًا» لرؤسائه كان يشكل خيارًا جيدًا لتحويل مسار الثورة الوليدة -التي تعاني صعوبة في الاستمرار- والتي يقوم بها بدو عشوائيون متصارعون، وتحويلهم لجيش منظم متحد يستطيع مجابهة الجيش التركي في الجزيرة العربية.
حسب الوعد البريطاني الذي تضمنته مراسلات «حسين – مكماهون» السرية والتي شملت عرضًا من الحكومة بلندن مفاده مساعدة العرب وإمدادهم بالدعم اللوجستي والعسكري وضمان حكم عربي ذاتي لأنفسهم في مقابل مساعدتها في حربها ضد الأتراك وتقليص رقعة حكمهم، وموافقة العرب على العرض ذهب لورنس وقدم نفسه للشريف وأبنائه بصفته التنفيذ الفعلي لهذا الوعد واندمج الضابط ذو العينين الزرقاوين في حرب الصحراء بين البدو؛ وحَدَهُم وقادهم بل زاد على ذلك أن ارتدى عباءة وعقالًا عربيين فتحا له أبواب العرب الموصدة .
صورة لورنس مع الأمير فيصل
الحرب التي خاضها لورنس مع العرب لم تكن هينة أبدًا، وكانت تمثل بشدة صدق بريطانيا تجاه العرب بأنها فقط تحتاج مساعدتهم ثم تتركهم بعد الحرب في حكم ذاتي، ولم يعلم أحد بأن ما ستعطيه لندن باليمين ستأخذه أضعافـًا باليسار.
في كتابه أعمدة الحكمة السبعة تحدث لورنس بتفصيل شديد عن حرب العرب التي قادهم فيها ضد الدولة العثمانية وآلاف الأميال التي قطعوها من أجل السيطرة على النقاط العسكرية الحساسة الخاصة بهم، مرورًا بتفجيرات خط «سكة حديد الحجاز» الذي كان الوسيلة العثمانية الأقوى في نقل الإمدادات والمعدات والجنود، وانتهاء بالسيطرة على العقبة ومن بعدها مباشرة دمشق .
تلك الحرب -رغم صعوبتها- خاضها العرب؛ أملًا في الاستقلال النهائي عن حكم الأتراك الذين كان الشريف حسين على اختلاف معهم، وخاصة بعد نفي الخليفة عبد الحميد الثاني، سيطرة حزب الاتحاد والترقي على دفة الأمور، وظهور النزعة العنصرية ضد العرب في تركيا «كانت لأول مرة تظهر عبارة بيس عرب ومعاناها عربي قذر».
على الطرف الآخر كانت بريطانيا ترغب وبشدة في القضاء نهائيًا على الدولة العثمانية خصوصًا بعد الهزيمة الكبرى التي مني بها الإنجليز في معركة جاليبولي الشهيرة، مخافة تأليب المسلمين في الحاميات البريطانية على لندن والحلفاء واستعمال النزعة الدينية في هذا الأمر، في الوقت نفسه الذي وضعت بريطانيا عينها على بقايا أملاك الرجل المريض من شام وعراق وحجاز و«فلسطين» .
إذن تعهدت بريطانيا للعرب بحكم ذاتي، وبذات الوقت على حين جهل من محاربي الصحراء وُقعت اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة بين لندن وباريس التي بمقتضاها قسمت أملاك الدولة العثمانية «ما بعد الحرب» في الجزيرة العربية وشمالها، وتم الاتفاق مع الأثرياء اليهود على ضمان وطن قومي لهم في فلسطين بعد طرد الأتراك منها مباشرة.
لورانس علم بشأن الاتفاقات المتضاربة التي أبرمتها حكومته «وعدها للشريف حسين ووعدها للجنة العربية ووعدها للحلفاء ووعدها لليهود»، ومع ذلك لم يوضح الأمر للأمير فيصل بشأن مآلات تلك الحرب التي غالبًا لن تعطي العرب ما يريدون .
قال نصًا في كتابه قائلًا: «الشريف حسين لم يأخذ منا أي عهود واضحة أو وعود ثابتة محددة المفاهيم والمعاني» .
ظل لورانس جنديًا إنجليزيًا تمامًا، حتى بعد نيله ثقة العرب تمامًا وانضمام رجال العشائر له وأبرزهم عودة أبو تايه وغيره، وبالرغم من ارتدائه العقال المذهب وركوبه الجمل؛ فقد كان أحد جنود «اللنبي» القائد الإنجليزي الشهير الذي بعث للندن إبان دك مدافعه فلسطين: «اقتحمنا بئر السبع وستكون القدس هدية عيد الميلاد»، وكان لورنس شاهدًا على تلك الوقائع.
تزامن ذلك تمامًا مع رفض الشريف حسين لأي سيطرة عربية على أراضٍ لا تشمل فلسطين.
مباشرة وبعد سقوط القدس طوق الجيش الإنجليزي بمعاونة الجيش العربي دمشق وفر الأتراك هاربين من آخر نقطة لهم، استعملت إنجلترا العرب لطرد الأتراك ثم انتهت صلاحية «وعد الاستقلال».
اعترف لورنس بالخيانة قائلًا: «كان من الأفضل أن ننتصر ونخلف وعدنا على أن ننهزم» .
أثناء الاحتفالات باحتلال البريطانيين للقدس يظهر في تسجيلات الأرشيف البريطاني لورنس مرتديًا زيًا عسكريًا إنجليزيًا كاملًا ويقف بين الجنود كبريطاني منتصر .
بالنسبة للعرب اعتبر فيصل فاتحًا، لكن بعد الاجتماع الذي جمع الحلفاء بالعرب اكتشف فيصل «سايكس بيكو» وأنه قد تم خداعهم، اعترض ومن ثم غادر.
تمت دعوة الأمير فيصل لباريس من أجل عرض طلبات العرب بشأن الوعد القديم والحكم الذاتي، تم ذلك بمحاولات من لورنس نفسه- بعد ما رفض تكريم الملك بقصر باكينجهام- إبان تجاهل الإنجليز للأمير العربي في لندن؛ مؤتمر باريس كان رهانًا ضعيفًا بالنسبة للعرب؛ فالفرنسيون أنفسهم يطمعون في دمشق ولا يرغبون بفيصل بل إنهم عرقلوا وصوله أصلًا للعاصمة، لكنه وصل .
في مؤتمر باريس حاول لورنس جعل مطالب العرب على جدول المهام، لكن عُقد المؤتمر ووقعت اتفاقية فرساي وعرضت النقاط الأربعة عشر للرئيس ويلسون وتمت الموافقة عليها، واستثني العرب من تطبيق أي من القرارات .
لكن وقعت في المؤتمر إحدى أهم الاتفاقيات التي ساهمت بشكل كبير في الوضع الحالي لفلسطين وهي اتفاقية «فيصل- وايزمان»، كان مهندسها لورانس نفسه، والتي خُدع فيها الأمير فيصل من قبل وايزمان وبمساعدة لورانس من أجل توقيعها دون الأخذ في الاعتبار باعتراضات فيصل ولا مساعدته بالترجمة الصحيحة.
وبحسب الموسوعة الفلسطينية؛ فإن نصوص هذه المعاهدة تلخص مطالب الصهيونية بشأن الهجرة والأراضي، وتجعل المادة الثالثة وعد بلفور أساسًا لدستور فلسطين ونظام حكومتها دون ذكر للعرب فيها، وأما استفادة الدولة العربية منها فمقصورة على «المساعدة الفنية».
اجتمع الحلفاء ورُسمت خرائط ما بعد الحرب العاملة الأولى، ووزعت الغنائم على المنتصرين، أخذت فرنسا دمشق وفازت إنجلترا بالجهة الغربية مشتملة على بلاد ما بين النهرين وتحت حكم الانتداب البريطاني بدأت فعليًا مراسم إنشاء «الوطن القومي لليهود» .
من المهم هنا ذكر أن العرب ولوا فيصل ملكـًا على دمشق، لكن بعد مدة وجيزة دخلت القوات الفرنسية وخُلع فيصل وهددت فرنسا إن قاومها العرب فستقصفهم بالطائرات؛ وقد كان.
ضمن محاولات لورنس تصحيح الأمور بعد مؤتمر القاهرة مباشرة عرض أن ينال العرب شيئًا من الوعد السابق؛ فعين عبد الله ملكـًا لإمارة شرق الأردن، وتولى فيصل العراق وظل حكم الأشراف عليها حتى العام 1958 وإعدام ابنه وعائلته بالكامل في الثورة .
لورنس لم يكن طفرة فريدة بذاتها، بل كان عاملًا من عدة عوامل استخدمتها بريطانيا من أجل مد سيطرتها ونفوذها ومضاعفة مستعمراتها .
Comments