المحتوى الرئيسى

المتصنّعين التديّن!

01/08 20:02

لطالما استهوتني الهالة الكبيرة التي تحيط بالأشخاص المتدينين (ظاهرياً)، ولطالما جعلتني أشعر بأن مَن أمامي إنسانٌ هو أقرب إلى الله مني، وأن دعاءه مستجاب أكثر مني، وأنه من الواجب عليَّ مضاعفة احترامي له أكثر من غيره وإن كان غيره متديّناً (باطنياً) أكثر منه بأضعاف كثيرة. وإنْ أحدُهم وجَّه لي تعليقاً، كنت أعتبره محقاً وإن كان ليس في محله؛ فقط لاعتباري أنه أفضل مني ديناً.

ربّونا في صغرنا على أنّ المحجبة -وللصراحة، لا؛ بل والمتجلْبِبة وقد تكون المنقبة- هي النقية والمصلية والمؤدّبة التي لا تُخطئ، والتي لا تأكل لحم غيرها في غيابه بالاستغابة والنميمة والفساد في الأرض، وأن هذه الأخطاء قد يقع فيها غير المسلمين أو المسلمون بالهوية فقط.. لكن الأيام كانت كفيلة بأن تصدمني بواقع مختلف عن ذلك الذي رسمته في خيالي؛ فما اكتشفته كان على النقيض تماماً.

كلما اتّسعت دائرة صداقاتي ومعارفي، اكتشفت أكثر أنه لا توجد قاعدة تنطبق على الجميع، فلكل شخص قاعدة تختلف عن الآخر، والذي لفت نظري أن صداقاتي بالأشخاص الأكثر إيحاءً بالتديّن (وليس المتدينين حقاً) بدأت تتقلص، خاصة بعد معاشرتهم؛ ذلك مما وجدت عندهم من تناقضات عجيبة!

التي تعطيني موعظة عن الغيبة في النهار، هي نفسها أول من يغتاب في المساء لو وجدتْ من تخوض معه وتتكلم، وتبدأ تقول في الشخص الذي فيه وليس فيه ونسيت قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، هذا في المسلم، فما بالك لو كان مؤمناً كما تدّعي!

والتي تقول بأن لا أحد يعلم أندخل الجنة أم النار؟ هي نفسها التي تعتبر نفسها من أهل الله وخاصته، نفسها التي تحدّثني عن الاحتشام وتعلّق على لباسي في الحفلات والجُمعات وأشعر بالاحترام لرأيها وأعتبر نفسي مخطئة، لكن التناقض أنها هي أيضاً نفسها التي بناتها حين كبرن أصبحن يرتدين ما كنت أرتدي، لا؛ بل وأكثر، ولا تعلّق؛ بل تفرح وتفتخر!

كما قد تجد الذي يصلي في المسجد هو نفسه الذي يخرج ليسب من كان يركن سيارته خلفه لعجلته للحاق بصلاة الجمعة! وقد يكون نفسه الذي يعطي موعظة لصديقه بالليل عن بر الوالدين ويحرم زوجته من زيارة أهلها وزيارتهم لها في النهار! ونفسه الذي يجعل زوجته تحتشم في لباسها إذا خرجت وهو نفسه الذي يفتح النت مساء على فيديوهات (أكبر من 18+)!

لكن في المقابل، وجدت بعضاً من غير الملتزمين (ظاهرياً) هم أقرب إلى القلب من أولئك المتصنّعين التديّن، يجعلونك تتقرب إلى الله بسلوك بسيط يصدر منهم أكثر من محاضرة قد تلقيها على مسمعك إحداهن.. قد تجدها أو تجده غير ملتزم خارجياً، لكن نقاء قلبه وحبه لله ورغبته في العودة إليه أكبر بكثير وأنقى وأصفى وأطهر من أولئك المدّعين النقاء وهم أبعد ما يكونون عنه!

أنا لا أعمم طبعاً؛ فمن الملتزمين الحقيقيين الكثير، وحولي منهم الكثير، ولولاهم لتشوّهت صورتي عن الملتزمين (ظاهرياً) أجمعين. لكن للأسف، من المنافقين أيضاً الكثيرون ممن شوّهوا صورة التديّن، فأصبح من الصعب على الإنسان أن يحكم على الشخص من أول مرة؛ بل أصبحت المواقف هي التي تكشف معادن الناس؛ فقد تعاشر إنساناً ولا تختبره في موقف حقيقي إلا بعد سنوات فتكون صدمتك أكبر؛ ذلك أن ما ظهر منه كان يوحي بشيء، والواقع والجوهر الذي انكشف لك لاحقاً قد أوحيا بشيء آخر مختلف تماماً.

اتقوا الله يا من تُظهرون التدين وتُضمرون الأحقاد، يا من تجعلون لسانكم أمام الناس حُلواً وقت الغداء ويكونون هم أنفسهم وجبتَكم الشهية وقت العشاء بالغيبة والنميمة! يا من تعدّون أنفسكم من أهل الجنة وغيركم في النار لعدم مجاراتهم لكم والاقتداء بكم.. ألم تدخل امرأة بغيٌّ الجنة في كلب لسقايتها الماء له وامرأة عابدة دخلت النار في هرة! فاتقوا الله يا من نفّرتم مَن حولكم من الدين لأنهم لم يروا أمثلة حولهم تمثّل الدين غيركم فكرهوكم وكرهوا الدين لأجلكم!

إذا كان الرسول قد خاطبه الله بقوله: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك"، هذا وهو النبي المعصوم، فكيف لو كان بشراً ويدّعي التديّن وأنه من أهل الله وهو أبعد ما يكون، فماذا سيكون رد فعل الناس من حوله؟! قد لا ينفضّون مِن حوله فحسب؛ بل قد يدعون عليه وعلى ذريته إلى يوم الدين! عندما قال رسول الله: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، كان قد جعل عندها الرحمة منهاج حياة وتعامل مع الإنسان والحيوان والنبات وجميع الكائنات، مع الكبير والصغير، مع السليم والمريض، مع الذي يستحق والذي لا يستحق، مع المسلم وغير المسلم، مع المتدين وغيره!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل