المحتوى الرئيسى

اختباء السلحفاة

01/02 11:12

المشاعر الإنسانية كالتعاويذ السحرية، لها وقع وسحر وقوة وتأثير، عصاها صدق التعبير، لا يخطئها بصير، إنها تختصر المسافات وتقرب البعيد وتبعد القريب، بغمضة عين، بالضبط كما يلقي الساحر تعويذة فتفعل ما يمكن أن يستغرق أيامًا وشهورًا، ولكننا تمردنا على قوانا السحرية، واعتبرناها شعوذة ساذجة، وجهل وخيال ودربًا من أحلام اليقظة، لا تسمن ولا تغني من جوع، نفضل الأعمال الشاقة وضياع العمر هباء تزروه الرياح، نفضل أن نقضيه في الطرق الملتوية الطويلة البعيدة، ظنًا منا إثمًا، أنه لا يجب لأي طريق على الأرض أن يكون سهلًا يسيرًا.

خدعوك فقالوا أن الصدق لا يجدي، خدعوك فقالوا أن التحايل على الحقيقة والسير إليها من طريق جحا هو عين الحكمة، خدعوك فعرقلوا لك الطريق السالك، وزرعوا فيه الحفر والمطبات، خدعوك وصدقت الخدعة.

لا لشئ سوى الحفاظ علي مظهر سطحي قشري عقيم لا ينتمي حتى لأمم الحيوانات، التي لا يمنعها شئ قط عن التعبير، تلك القشرة السخيفة التي نصّر على التقوقع تحتها كسلحفاة مؤمنة بضعفها تختبئ داخل صدفة صلفة صلبة مصمتة، لا تنبض بالحياة، ليس لها عروق تجري فيها الدماء، حجرًا لا روح له “وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء” فإذا تخيلنا كيف للحجارة أن يتفجر منها الأنهار؟ لأدركنا أنها تهشمت أولًا وتخلت عن قوتها ولاّنت وضعفت فكان التعبير الملائم “يتفجر منه الانهار” فكونت منظرا خلابا.

أو كعصفور جميل محبوس بقفص ضيق، يملك صوتا بديعا يضفي عليه البهجة إذا غنى سعيدًا، أو يخف ألمه إن غرد بحزن، ولكنه أختار أن يكتمه، فكيف نقتل العصفور الجميل، حتى نحتفظ به بالتحنيط!

نخفي أجمل ما فينا، نخفي جمال ضعفنا البشري من حب وكره وفرح وحزن وغيره من المتغيرات الفطرية في الكون، الضعف الذي هو سر قوتنا وتميزنا عن سائر مخلوقات الله، لتصدير صورة وهمية لقوة وغطرسة فظة مقيتة، لندعي ما ليس فينا، لنكذب، فكيف نتوقع ان يجدي الكذب؟

كيف نطمس الطبيعة ونتوقع السعادة؟ّ! كيف نقتل الزهور والأشجار وحتى الصبار والحشائش؟!، كيف نشوه الخلقة لنشعر بالرضا؟! كيف نتعمد الخروج عن الطريق ونتوقع الوصول؟! وكيف نغرق في بحر الادعاء ونرفع لافتات الإخلاص؟!

إننا نبخل على أنفسنا بمتعة وزهو ورحمة وراحة إطلاق مشاعرنا، وخاصة الرقيقة منها المحملة بالحب والود والرحمة والشفقة والتقدير والعرفان والإعجاب، ما كل هذا الهوس بمحو إنسانتيتنا وبشريتنا؟ ما هذا العشق للظهور كأصنام شامخة عاليًا لا يمكنها الربت على قطة أو استنشاق الورد حتى لا تنحني.

إننا نرفض ما أودع الله بقلوبنا من روعة وعذوبة، نُعمي أعيينا ونُغمي بصائرنا عن قوة المحبة، القوة القاهرة، القوة المبهرة، قوة تصنع لمعتنقيها المعجزات، قوة تكفي لتغيير وجه الأرض، لا حياتنا فقط أو نفوسنا فقط، ونستمر حتى تنفلت يوما من بين أيدينا ونحن نأبى في تجاهل كاذب لإرادتنا الحقيقية أن نتشبث بها ونقبض عليها؟

وكذلك مشاعرنا السلبية، التي نخفيها حتى الموت، حد الانتحار، حد الذبح، ندفن الألم والحزن والضعف والهزيمة والخذلان وكأن الخزي والعار يلحق بنا ومعلقا بأعقابنا، وكأن على رؤوسنا كل “البطايح”، وكأن الضعف البشري وخفقاته قاطبة، قد أختُصرت في إحدانا دون سواه من البشر، فأبى أن يعترف بالإبتلاء به خشية نبذ الإختلاف، كمصابي الإيدز، ثم نتعجب من تكالب الأمراض على أجسادنا الضعيفة، وكأن ضعفنا قد أقسم على اللحاق بنا بعدما رفضناه وتنكرنا له، بل ونتشوق ليد تطبب جراحنا ونحن لا نزال نحبس أنفسنا مع السلحفاة داخل القوقعة الصلبة.

نرشح لك

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل