المحتوى الرئيسى

غاب المحترفون.. فتعثر الهواة.. فى مجلس الأمن والبرلمان! | المصري اليوم

01/02 01:59

تمتلك مصر مدرستين عريقتين تؤسسان لقوتها الناعمة وحضارتها ومكانتها السياسية والاجتماعية (الدبلوماسية والقضاء)، هما كيانان انتصرا لمصر فى أحلك الأزمات، ورسخا أهم مبادئ استقلال الإرادة المصرية ورفعتها وعزتها.. انهزمنا فى 1967 وانكسرت شوكتنا وغرورنا الناصرى.. وأبت الخارجية المصرية أن تستسلم.. دافعت عن العرين والأرض العربية المحتلة كلها، وجاهدت ضد أمواج الإمبريالية الأمريكية، وصاغت القرار رقم 242 بمساعده اللورد كارادون، مندوب بريطانيا الدائم فى مجلس الأمن.

الدبلوماسية المصرية لم تهتز فى عصور ناصر والسادات ومبارك.. قدمت العون الفنى والسياسى والاقتصادى لمؤسسة الرئاسة.. رجالها خدموا بإخلاص ووطنية وتجرد فى مكاتب رؤساء مصر حتى 2010.. الأسماء اللامعة مثل أسامة الباز ومحمود عزمى والسفراء د. مصطفى الفقى وماجد عبدالفتاح ورضا شتا والمبدع الرائع سليمان عواد- قدموا خبراتهم التراكمية لمصر طيلة أكثر من 60 عاما.. إذا ما استشاروا يخلصون.. وإذا ما تم إيفادهم فى مهمة حرجة ينجزونها كأفضل ما يكون.. تم تدريبهم على أن الأولوية القصوى للوطن.. لمصر.. لم يستجيبوا لضغوط من قوى كبرى.. قارعوا الصهاينة والأمريكيين فى مساجلات شهيرة، أستحضر منها الدرس المؤلم الذى أعطاه عمرو موسى، وزير الخارجية الأسبق، لشمعون بيريز فى منتدى البتراء بالأردن عام 2008، وأجبره على الاعتذار.. ولا أنسى الراحل أحمد ماهر «أحرف» من صاغ المذكرات المصرية، والذى شغل منصب وزير الخارجية، بعد عمرو موسى، عندما وصف مجلس الوزراء الإسرائيلى بأنه «عصابة» أمام الكاميرات.. حتى أمين الجامعة العربية الحالى أحمد أبوالغيط قال لكوندليزا رايس فى أسوان عام 2006 عند محاولتها الحصول على امتيازات من مصر: «دماغنا أصلب من أحجار الجرانيت التى ترينها أمامك من شرفة فندق كتراكت».

المقدمة ضرورية، للتأكيد على أن الارتباك المصرى الذى يحدث أحيانا الآن يرجع إلى قلة الخبرة وعدم التمرس أو للنزول على رغبة القيادة السياسية التى يبدو أن لها حسابات أخرى فيما يتعلق بالقضايا الدولية وعلى رأسها القضية الفلسطينية التى لم يخلص لها أحد ويضحى من أجلها مثلما فعل المصريون وقدمنا شهداء مثل السفير إيهاب الشريف الذى اغتالته القاعدة فى العراق، عام 2005 وأحمد أحمدين، السكرتير الثانى بالسفارة المصرية، بإسلام أباد، بباكستان، فى نوفمبر 1995 والذى اغتاله إرهابيون كانوا يستهدفون السفير نعمان جلال، لكنه كان خارج السفارة وقتها.. الدم الدبلوماسى الذى سال يرجع إلى استمرار المحادثات مع إسرائيل من أجل إقامة الدولة الفلسطينية وهو ما ترفضه بعض فصائل المقاومة التى سينقطع تمويلها لو تم حل الصراع العربى الإسرائيلى.

وقائع ما جرى فى مجلس الأمن بشأن مشروع القرار الذى وزعته مصر ثم سحبته ثم وافقت عليه فى بضع ساعات لم يقنعنى رغم كل التبريرات والتفسيرات التى صدرت عن الخارجية والحكومة والرئاسة.

أكثر ما آلمنى أن مصر ذات التاريخ الدبلوماسى الناصع ظهرت ضعيفة ومهتزة فى مجلس الأمن رغم كونها عضوا غير دائم به.. مصر القائدة.. الرائدة.. ظهرت تابعة تنتظر الضوء الأخضر من حليف قررت أن تراهن عليه.. الدبلوماسية لها معايير أخلاقية وسياسية تأتى دوما قبل المصالح التى هى- بلا شك- مهمة ومؤثرة.

ما حدث أن مصر وزعت مشروع قرار لإدانة الاستيطان الإسرائيلى، كان مقررا أن تصوت عليه الدول الخمس دائمة العضوية، الخميس قبل الماضى.. تسربت أنباء أن أوباما المنتهية ولايته سيمتنع عن التصويت، ولن يستخدم حق الفيتو.. استنجد نتنياهو بصديقه دونالد ترامب الذى اتصل بدوره بالرئيس السيسى، ونصحه بسحب القرار، بحجة إجراء مزيد من المشاورات حوله.. استجاب الرئيس السيسى لمطلب ترامب، لكن الحقيقة أنه استجاب لموقف إسرائيل التى أعلن ترامب أن هذا القرار ليس عادلا ويضعها فى موقف تفاوضى ضعيف!! ترامب بالمناسبة سينقل سفارة واشنطن للقدس!

إن مصر التى تكلمت عن دبلوماسيتها وجهودها وتضحيتها للقضية الفلسطينية ظهرت للأسف لأول مرة فى تاريخها المشرف والطويل تعانى من انتكاسة دبلوماسية وفضيحة أخلاقية.. وما ضاعف الأمر أن أربع دول ليس من بينها دولة عربية واحدة (السنغال وماليزيا وفنزويلا ونيوزيلندا) هددت مصر بأنها ستقدم القرار إذا أصرت مصر على سحبه.. وقد كان.. قدم المشروع وطرح فى مجلس الأمن ووافقت عليه 14 دولة بعد امتناع الولايات المتحدة عن التصويت.. الطريف أن القاهرة وافقت على القرار!! عفوا مع احترامى الكامل للرئيس وفريقه الدبلوماسى.. فهذا تصرف هواة.. كيف تقدم مشروعا ثم تسحبه ثم توافق عليه فى 24 ساعة؟!

إن مبارك الذى اتهموه بأنه عميل لأمريكا وإسرائيل لم يرضخ يوما لضغط أو يتنازل عن حق لمصر.. لم ترتبط السياسة الخارجية المصرية أبدا بإملاءات أو محاباة أو ما يمكن أن يقال عنه قدم السبت حتى يجد الأحد.. لا أعتقد أن العقيدة العسكرية التى يمثلها الرئيس السيسى أو الدبلوماسية التى يعبر عنها الوزير سامح شكرى قد تغيرت.. فما زالت إسرائيل هى العدو التقليدى.. والوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية هو لصالح الجغرافيا والتاريخ والأمن القومى العربى والأخلاق.. هذا لا علاقة له بخيانات حماس لمصر طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة.

وإذا كانت الخارجية بررت موقفها بأنها اتخذت قرار الانسحاب ثم الموافقة بأنه يدخل فى إطار ضمان حرية حركتها وقدرتها على التأثير فى المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية القادمة التى ستتم برعاية مصرية أمريكية فإننى لا أستطيع أن أتقبل مناورة وحرية حركة ومراهنة فى قضايا جوهرية ورئيسية ومبادئ أخلاقية.. هل كانت مصر تخشى مثلا أن يتم سحب السفير الإسرائيلى من القاهرة إذا تقدمت هى بالقرار، كما حدث مع السنغال ونيوزيلندا؟! لو كان هذا صحيحا سيتأكد أن اللاعبين المصريين هواة!

ينبغى على مصر ألا تنسى أن انتخابها عضوا غير دائم فى مجلس الأمن يلقى عليها مسؤوليات جساما، لا تحتمل ترددا أو إمساكا بالعصا من النصف.. ولنتذكر جميعا المعلقات التى دبجها الإعلام وقصائد المدح التى قيلت فى الرئيس السيسى وقتها.. من فضلكم أعيدوا بعض المحترفين إلى ملفاتكم الشائكة.

المدرسة الثانية هى القضاء.. صاحب المقام الرفيع الوحيد فى مصر، كما كان يلقبه السادات.. وقف فى وجه عبدالناصر بعد مذبحة القضاء الشهيرة عام 1969، عندما أراد ضم أعضائه للاتحاد الاشتراكى.. ووقفوا أمام السادات فى محاكمات 18، 19 يناير، وعارضوا مبارك رغم أن تدخلاته القضائية كادت تكون منعدمة.. الآن يبدو أن البرلمان بتعليمات أو توجيهات قرر أن يعاقب ويؤدب القضاة، ويسن قانونا جديدا للهيئات القضائية، ويغير ما استقر عليه العرف القضائى، منذ عشرات السنين.. القضاء فى مصر ظل بعيدا عن تدخل البرلمان طوال عهود.. التدخلات كانت فى معظمها من حكومة تقترح قانونا على مجلس الشعب أو النواب فيوافق عليه حزب الأغلبية أيا كان اسمه.. حدث ذلك أيام السادات فى برلمان سيد مرعى رغم المعارضة القوية من ممتاز نصار ومحمود القاضى وأحمد طه وغيرهم. وحدث أحيانا فى عهد مبارك، وكانت أغلبية الحزب الوطنى توافق كما حدث فى تعديل بحبس الصحفيين عام 2008 حيث وافق المجلس وألغى الرئيس القانون.

لكنها المرة الأولى فى تاريخ البرلمان المصرى أن يتقدم أحد أعضائه بمشروع قانون جديد يشمل تعديلات على قوانين السلطة القضائية فى اعتداء صريح من السلطة التشريعية على السلطة القضائية، الأمر الذى أثار غضب القضاة بكافة تخصصاتهم، مؤكدين أن الاختيار بالأقدمية المطلقة من الثوابت والأعراف القضائية، ومعيار موضوعى لا تتدخل فيه الأهواء.

إن النائب أحمد حلمى الشريف اعتدى على القضاء وهو يقدم مشروع القانون حيث ينص الدستور على أن السلطة القضائية مستقلة والتدخل فى شؤونها جريمة لا تسقط بالتقادم، وكل جهة وهيئة قضائية تقوم على شؤونها، ويؤخذ رأيها فى مشروعات القوانين. مرة أخرى يتقدم الهواة إلى المشهد السياسى، مبدين استعدادهم لمجاملة الرئيس ومعاقبة خصومه.

للأسف، فى مصر فقط يفصل القانون، ويحاك بدرجة يسهل معها على العامة معرفة الشخص الذى أعد القانون من أجله فكما سبق أن أعد وزير العدل السابق المستشار أحمد الزند قانونا للنيل من خصمه هشام جنينة، ها هو الآن المستشار مجدى العجاتى، وزير الشؤون القانونية ومجلس النواب، يعد قانونا للإطاحة بخصمه المستشار يحيى راغب دكرورى من رئاسة مجلس الدولة، والمحكمة الإدارية العليا ليبقى لنا أن نتساءل، ونتعجب من الكيفية التى يورط فيها الوزراء رئيس الجمهورية فى قوانين تصرخ موادها بالانحياز والترتيب المسبق للإطاحة بأشخاص بعينهم.

Comments

عاجل