المحتوى الرئيسى

سيكولوجية الأمل عبر التاريخ

12/29 23:05

التاريخ البشري إنما هو تاريخ امتزاج دافع الأمل بمعطيات التطور المادي للتاريخ، فالتطور الاجتماعي للحضارة برمتها مشهد يعكس في بُعده الخاص والعام رحلة الإنسان المكافح من أجل بناء تاريخه الإنساني الحضاري، ولا شك أن مثل هذه الغاية المتلازمة مع تلك الرحلة وذلك الكفاح تمثل في واقع الأمر القاسمَ المشتركَ لقرون من التطلعات الإنسانية، يمكن تحديد بدايتها مع بداية التاريخ وحتى هذه اللحظة.

ولذا فإن قراءة الدلالات التي ينطوي عليها ذلك القاسم المشترك تؤكد حياة الأمة المتجددة وفاعليتها المتواصلة، بغض النظر عن تضاريس الزمان والمكان، ولذلك لا يجدر الكف عن التفاؤل الهادئ أمام مشاهد التاريخ التي تخبرنا بأن تاريخ الأمم يدرك بكثير من الجهد والأمل، وللوقت مدلوله النفسي وانعكاسه على أحوالنا الاجتماعية، خصوصاً أنه في العقود الأخيرة أصبحت الأحداث تتسارع وتأخذ منحى أكثر عمقاً ويؤثر في سلوكياتنا ونمط حياتنا.

إن الشعوب والأمم تحتاج إلى الأمل كما الفرد، فليس الفرد فقط هو من يعيش بالأمل، بل الشعوب أيضاً، فالأمل هو عنصر حاسم في أي محاولة لإحداث تغير اجتماعي يتسم بالوعي والتنظيم، وقوة أساسية في حياة البشرية، فهو من أقدم الفضائل وأكثرها أهمية في حياة البشر؛ إذ يجعلهم ينظرون إلى العالم على أنه مكان يستحق أن يعيشوا فيه، وبالتالي يصعب عليهم العيش من دونها.

يقول فيلسوف الأمل "أرنست": الغد يحيا في اليوم، والناس تتطلع إليه على الدوام؛ إذ يرى أن البشر كانوا دوماً يتحركون بتأثير فكرة، وأن أفضل ما يرجونه من أوضاع لم يتحقق بعد، وأن تاريخهم إنما هو تاريخ امتزاج دافع الأمل بمعطيات التطور المادي للتاريخ.

اليأس مثل الأمل يصنع التغيير أيضاً، فكلاهما صنعا التقدم البشري، هذه الجدلية النادرة باتت تتفاعل اليوم في التاريخ الحاضر للأمة العربية على نحو جديد وغير متوقع، فاليأس يفتح سيكولوجياً بوابة إلى الأمل، بل إلى التحدي، وهذا ما بدأ ينمو اليوم، فالأمل ليس هاجساً، بل هو مبدأ أخلاقي موضوعي فاعل في كل معادلات التغيير وبناء الأمم عبر التاريخ، فالشواهد التاريخية والنفسية تدفع الإنسان والأمم إلى الأمل بعد اليأس لتصنع تاريخاً جديداً.

فلقد أمدّ القرآن أممه بهذا الشّعور بأسلوب يَخرج من الأمة الميتة أمة كلّها حياة وهمة وأمل وعزم، ولقد عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الذين يُنفرون الناس، ويَضعونهم في موقع الدونية والهزيمة النفسية، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل: هَلك الناس، فهو أهلَكهم".

إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثةَ، لكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، إن الدواء ليس في بكاء الأطلال وندب الحُظوظ، وإنما يكون في الترفع عن الواقع ومحاولة تحويل عوامل الضعف إلى قوة، واليأس إلى أمل، والهدم إلى بناء ونهوض وتعمير.

إنَّ قراءة التاريخ في أيام الأزمات تمنحنا الأمل بأن الواقع سوف يتغير، فقد نجَّا الله موسى وقومَه بعد صبر وجَلد، وهجرة ومطاردة، "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أصحاب مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ".

ولقد بين لنا القرآن الكريم نموذجاً آخر من هذا الأمل في قصة يوسف عليه السلام؛ حيث لم ينقطع الأمل عن يعقوب عليه السلام لما فقد يوسف، وازداد أمله في الله حين فقد الابن الثاني، فقال: "عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً"، وعسى عند أهل اللغة تفيد الرجاء واليقين.

محمد رسول الله، نبي الأمل إلى الإنسانية كلها، هُجر من أرضه وهاجر قومه إلى الحبشة وإلى المدينة، هاجروا لبناء تاريخ لا يأس ولا جمود فيه، وعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فاتحاً، وعاد أصحابه مفاتيح نور وحياة وأمل وتجديد، عادوا فاتحين مُبشرين بأمل جديد وبنفوس تحمل البناء والعفو.

فلو قُدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم حوصر -عليه الصلاة والسلام- في الغار، ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم أُحد، ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم الخندق، يوم الأحزاب، المعركة التي لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب وبقاء وبشائر بالفتح، ولو قُدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم توفي النبي عليه الصلاة والسلام، ولو قُدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم الرِّدَّة، يوم تخلت العرب عن دينها وعادة لجاهليتها، لولا ثبات الصديق وإيمانه بسمو مبادئ الرسالة الأعظم في تاريخ الحياة.

ولو قُدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم اجتاح التتار بغداد، يومها كانوا كما اليوم في حلب الفيحاء، يمارسون تدمير المدن، وخراب العمران، يومها عملوا في الأمة ما لم يعمله أحد قبلهم، أسقطوا الخِلافة، وعطلوا الصلوات، وألقوا الكتب في نهر دِجلة، حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال مِن مِداد الكُتب، حينها قال المؤرخ ابن الأثير: "ليتَ أمي لم تلدني، ليتني مِت قبل هذا وكنت نسياً منسياً".

ولو قُدِّر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم اجتاح القرامطة مكة، وذبحوا الطائفين حول بيت الله، واقتلع زعيمهم يومها الحجر الأسود من الكعبة، ووقف يصرخ بأعلى صوته في ساحة الكعبة "أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟"، فالتاريخ يعيد نفسه اليوم في حلب بصور مختلفة.

لو قُدر لهذه الأمة أن تموت لماتت في الجزائر على أيدي الفرنسيين، ولماتت في البوسنة على أيدي الصرب، ولماتت في الشيشان على أيدي الروس، ولماتت في بغداد، وفي حلب، لكنها أُمةٌ لا تموت لأنها أمة الاستخلاف في الأرض والتمكين.

فالأمل الموضوعي القائم على اعتبارات عملية تنبع من الجُهد الإنساني يعتبر أساسياً في تنشيط حركة التاريخ وتسريعها، وجعلها تتغلب بيسر على ما يعترضها من صعوبات ومعوقات، يرفض الواقع التجريبي الحافل بالمعوقات نحو مستقبل مثالي مشروط بالعمل، ومن وجهة نظر سيكولوجية يمنح الأمل الإنسان شعوراً أكثر من مجرد المواساة وسط الأحزان، فالإنسان يعيش في الحاضر مشدوداً بين وترَين، الماضي والمستقبل، فهو يحمل الماضي في وعيه، وفي ذاكرته، وفي تركيب جسده، مثقلاً بأحزانه وأفراحه، ومخاوفه وآماله، مندفعاً بها نحو المستقبل، بل يؤدي دوراً فاعلاً في الحياة بصورة مدهشة، فالأمل يرتبط إيجابياً بالثبات الانفعالي والصلابة النفسية والرضا عن الحياة.

إن الإحساس بالأمل أحد العوامل المهمة والمؤثرة في تحقيق الاستمرار في الحياة الحضارية، فالأمم تحتاج إلى الأمل كما الفرد، فليس الفرد فقط هو من يعيش بالأمل، بل الشعوب أيضا، فالأمل هو عنصر حاسم في أي محاولة لإحداث تغير اجتماعي يتسم بالوعي والتنظيم، وقوة أساسية في حياة البشرية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل