المحتوى الرئيسى

من أغنى دولة في الشرق الإفريقي إلى الأفقر..ما الذي يحدث في جنوب السودان؟ - ساسة بوست

12/28 21:36

منذ 1 دقيقة، 28 ديسمبر,2016

نالت السودان استقلالها عام 1956، وكان من المفترض – وفقًا للاتفاق – أن يشارك السودانيون في الجنوب في العملية السياسية، وهو ما لم يحدث. تعرضوا للتهميش والإبعاد عن أمور الحكم مع إهمال الخدمات؛ ومن ثم بدأت عمليات التمرد التي شكلت فترتين من أعنف فترات الصراع في القارة الإفريقية ما بين العامين 1955- 1972، و1983- 2005، قتل فيهما أكثر من 2,5 مليون شخص، معظمهم من المدنيين؛ بفعل المجاعات والفقر.

أفرزت محادثات السلام ـ فيما بعد ـ اتفاقية سلام شاملة، وتم توقيعها في يناير (كانون الثاني) 2005. وكان ينص جزء من هذه الاتفاقية على منح جنوب السودان حكمًا ذاتيًا لمدة 6 سنوات، على أن يعقبه استفتاء على الوضع النهائي الذي يحدد مصير الجنوب. مرت 6 سنوات سريعًا، وجاء الاستفتاء في يناير (كانون الثاني) 2011، وكان نتيجته أن صوت 98% لصالح الانفصال. ونالت جنوب السودان استقلالها في التاسع من يوليو (تموز) 2011؛ لتصبح أصغر دولة في العالم، والدولة الإفريقية رقم 55. بتعداد سكاني وصل في منتصف عام 2016 إلى 12.5 مليون نسمة. وأصبح «سلفا كير» رئيسًا لها.

نالت جنوب السودان استقلالها؛ كي تنعم بحياة مستقلة بعيدًا عن الجوع والفقر والمرض. تمتلك جنوب السودان موارد طبيعية ضخمة، أهمها النفط، الذي كانت تعتمد عليه السودان الموحدة في إيراداتها بشكل كلي. فبعد أن نالت جنوب السودان حكمًا ذاتيًا عام 2005، وجدت نفسها بين عشيَّة وضحاها أمام ملايين الدولارات التي لم تكن تحصل على ربعها قبل ذلك، حيث كانت ميزانيتها لا تتجاوز 6 أرقام، وإذ بها تصبح 1.7 مليار دولار عام 2006 وآخذه في الزيادة.

بعد الاستقلال أصبحت أغنى حكومة في شرق إفريقيا؛ بسبب الإيرادات النفطية، ولكن الصادرات النفطية كانت لابد أن تمر عبر أنابيب من شمال السودان، ووفقًا لاتفاق ما بين الشمال والجنوب، فإن شمال السودان يحصل على رسوم مقدارها حوالي 25دولار لكل برميل نفط يمر من هذه الأنابيب.

إلى هنا تبدو الأمور جيدة؛ فأسعار النفط كانت مرتفعة، والتدفقات النفطية تخرج بغزارة من آبار النفط في الجنوب، وتُمرر عبر الأنابيب، والعملة الصعبة تتدفق هي الأخرى على حكومة جنوب السودان. ظلت الأوضاع الاقتصادية مزدهرة حتى شهر يناير (كانون الثاني) 2012؛ حينما قررت الحكومة التوقف عن إنتاج النفط في أعقاب خلافات ثنائية مع الجارة في الشمال بخصوص الرسوم المفروضة على آبار النفط المارة عبر الأنابيب في الشمال. وبدأ مسلسل التدهور الاقتصادي منذ ذلك الوقت، والذي أججه الصراع فيما بعد. كانت العوائد النفطية يتم تقسيمها بين الرئيس والقوات الموالية له، وبين المعارضة بقيادة شخص يدعى «رياك مشار»، إلى أن تم إيقاف هذا التقسيم بعد نضوب مصادر الإيرادات عندما أوقفت جنوب السودان إنتاج النفط. وانهار التحالف بين الخصمين السياسيين.

الحرب الأهلية تضرب من جديد

في ديسمبر (كانون الأول) 2013 تصاعد انشقاق داخل قوات الأمن، وتحول إلى حركة تمرد يقودها رياك مشار. وبدأت منذ ذلك الحين الحرب الأهلية بين القوات الحكومية والمتمردين؛ وأدى هذا الصراع إلى مقتل الآلاف، مع أزمة إنسانية اقتربت من المجاعة لملايين السودانيين الجنوبيين النازحين، وانعدام الأمن الغذائي، وتهجير أكثر من مليونين.

ظلت الحرب مستعرَّة، حتى تمّ توقيع اتفاقية سلام بين القوات الموالية للرئيس سلفا كير والمتمردين بقيادة رياك مشَّار في أغسطس (آب) 2015، وتمّ الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية، وتعيين مشَّار نائبًا لرئيس جنوب السودان سلفا كير. لم يستمر الاتفاق كثيرًا؛ إذ تمّ نقضه وبدأ الصراع من جديد في يوليو (تموز) 2016 وهرب مشار من العاصمة الجنوب سودانية جوبا إلى الشمال السوداني، ليدير القتال من هناك.

في شهر يوليو (تموز) الماضي أعلن مكتب الإحصاء في جنوب السودان أن معدل التضخم قفز إلى أكثر من الضعف؛ ليبلغ 661%، بعد أن كان 310% في يونيو (حزيران)؛ وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات. لدرجة أن الأمم المتحدة قالت في شهر يونيو (حزيران) إن 4.8 مليون شخص في جنوب السودان يواجهون نقصًا حادًا في الغذاء، أي ما يقرب من نصف عدد السكان. وهو أعلى رقم من الأشخاص المعرضين لمجاعات منذ اندلاع الصراع في جنوب السودان.

حولت الحرب الأهلية جنوب السودان من أغنى دولة في شرق إفريقيا ـ عقب الاستقلال ـ إلى أفقر دولة. خفض القتال إنتاج النفط إلى أكثر من النصف، كما أن أسعار النفط قد تدهورت إلى النصف تقريبًا خلال العامين الماضيين، وفقد الجنيه السوداني ما يقرب من 90% من قيمته. كل ذلك ساهم في انسحاق الأحوال الاقتصادية.

خلال العامين الماضين، خفضت جنوب السودان ميزانيات الصحة والتعليم، بينما ينفقون بسخاء على الأسلحة. والأطباء مضربون عن العمل؛ لأنهم لم يحصلوا على رواتب منذ شهور. والعيادات العامة ليس بها دواء.

جنوب السودان هو البلد الأكثر اعتمادًا على النفط في العالم؛ حيث يشكل النفط مجمل الصادرات، والتي تشكل حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في عام 2014 حوالي 1111 دولار. وتتركز سبل كسب العيش خارج القطاع النفطي في الزراعة منخفضة الإنتاجية التي تمثل حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي. وبسبب الصراع الدائر فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي 2015/2016 بنسبة 6.3%.

مع تعطل إنتاج النفط، والإنتاج الزراعي أقل من المتوسط، فمن المتوقع أن يستمر الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي 2016/2017 أيضًا، ما يوسع من دائرة الأشخاص الذين يعانون من نقص الغذاء. ويرتفع العجز في الموازنة العامة، ففي عام 2013 بلغت الإيرادات العامة 437 مليون دولار فقط، بينما وصلت النفقات العامة 2.2 مليار دولار. ويستمر تصاعد الأسعار المحلية دون توقف. أما عن مستوى الفقر المدقع فقد ارتفع حتى وصل إلى 65.9% أي أن ما يقرب من ثلثي السكان في حالة فقر مدقع.

وحدث انخفاض كبير في عائدات الصادرات التي تتكون في معظمها من النفط؛ وذلك بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية، وانخفاض إنتاج النفط جراء الحرب الأهلية، فهناك العديد من حقول النفط تم السيطرة عليها من قبل قوات المتمردين، وهناك حقول أخرى تم تدميرها. فقد انخفض إنتاج النفط إلى 120 ألف برميل يوميًا بعد أن كان 165 ألف برميل في عام 2014، وبعد أن وصل لأعلى مستوى له قبيل الاستقلال بإجمالي 350 ألف برميل يوميًا في عام 2011. وتمثل عائدات النفط حوالي 98% من الإيرادات الحكومية. وما يزيد الأمر سوءً، هو أنه ينبغي لحكومة جنوب السودان أن تدفع للجارة السودان لنقل النفط عبر خطوط أنابيبها، وذلك كجزء من الاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال محادثات الاستقلال.

يقول «لول دينج» الخبير الاقتصادي الجنوب سوداني لـ BBC عن هذا الاتفاق الذي يراه مجحفًا «أنا لا أريد أن أخيف الناس، ولكن الحكومة الجنوب سودانية تحصل على أقل مما ينبغي أن تحصل عليه مع كل برميل يمر عبر السودان، تحصل الأخيرة على 24.1 دولار للبرميل. حتى لو أصبح ثمن النفط 30 دولارًا للبرميل؛ فإن حكومة جنوب السودان ستحصل على 5.9 دولار  فقط».

وانخفضت قيمة الجنيه الجنوب سوداني من 18 جنيه لكل واحد دولار أمريكي في السوق الموازية في ديسمبر (كانون الثاني) 2015 إلى 80 جنيهًا لكل واحد دولار في سبتمبر (أيلول) 2016. أما عن معدلات التضخم فقد عانقت السماء؛ حيث ارتفعت من 661% في يوليو (تموز) 2016 إلى 730% في أغسطس (آب) 2016. ويمثل ارتفاع أسعار الطعام ونقص الغذاء والجوع انهيارًا اقتصاديًا تامًا في البلاد.

ارتفاع أسعار المواد الغذائية وضع الكثير من الأسر في المناطق الحضرية والريفية في موقف صعب للغاية، كما أنهم لا يملكون الحد الأدنى من الغذاء الذي يبقيهم على قيد الحياة. وطبقًا لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في جنوب السودان، فإن البنك المركزي ليس لديه احتياطات، وأنفق العائدات النفطية وغير النفطية على سداد قروض الدفاع والأمن. حالات الفقر ارتفعت من 44.7% في عام 2011 إلى 66% عام 2015 مع زيادة مماثلة في شدة الفقر.

التنمية البشرية هي الأسوأ عالميًا

وإذا كان الحال كذلك، فملف التنمية البشرية لن يكون أفضل حالًا هو الآخر. حوالي ثلثي السكان تحت سن 30 عامًا، فالدولة فتية، ولكن تمزقها الحروب. ووفقًا للمسح الأسري الوطني عام 2009، فإن 27% فقط من السكان الذين تترواح أعمارهم بين 15 سنة وما فوق؛ يعرفون القراءة والكتابة. ومعدل وفيات الرضع مرتفع جدًا، إذ بلغ 105 لكل 1000 مولود حي، ومعدل وفيات الأمهات هو  2054 لكل 100 ألف ولادة.

17% فقط من الأطفال يتم تحصينهم تحصينًا كاملًا. و55% من السكان لديهم مصادر مقبولة لمياه الشرب. وحوالي 38% من السكان يضطرون للمشي لمدة أكثر من 30 دقيقة ذهابًا فقط؛ ليحصلوا على مياه الشرب. و80% من الجنوب سودانيين لا يستطيعون الوصول إلى مرفق حمام عمومي. ومن ثم فمؤشرات التنمية البشرية هي الأسوأ على الإطلاق على مستوى العالم.

الصراع بين القوات الموالية للرئيس وبين المتمردين لم يكن وجه العملة الوحيد المُسبب للانهيار  الاقتصادي، ولكن هناك وجهًا آخر  ربما يكون أكثر تطرفًا هو الفساد.

في 12 سبتمبر (أيلول) الماضي، أصدرت منظمة «سنتري» – منظمة غير حكومية مقرها في واشنطن أسسها كل من الممثل «جورج كلوني»، و«جون برندر غاست»، وناشطين في حقوق الإنسان؛ من أجل تعقب التمويل غير المشروع للحروب في إفريقيا، وتسعى لفضح الفساد في إفريقيا – تقريرًا صادمًا بخصوص الفساد في جنوب السودان. ويتهم التقرير الذي تم العمل عليه لمدة عامين؛ الرئيس سلفا كير والشخصيات الأخرى المشاركة في الحرب، وعلى رأسهم أيضًا زعيم المتمردين رياك مشار، اتهمهم بالتحريض على العنف من أجل جمع الثروة غير المشروعة. وقال التقرير إن الأقارب والمقربين من الرئيس سلفا كير، وكذلك خصمه السياسي رياك مشار، نائب الرئيس السابق، قاموا بإثراء أنفسهم، والإفلات من العقاب. وأكد أن قادة كلا الجانبين قد أججوا الكراهية العرقية، ونفذوا أعمالًا وحشية، بما في ذلك الاغتصاب المنتظم والقتل، كذريعة للاستيلاء على المزيد من الثروات في جنوب السودان. وقال معدو التقرير إنه مدعم بالمعلومات والوثائق التي أخذ جمعها سنتين.

وخلص التقرير إلى أن الخصوم الرئيسين في جنوب السودان وشركاءهم «قد استفادوا ماليًا من استمرار الحرب، وضمنوا بشكل فعال أنه لا يوجد مساءلة عن الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان والجرائم المالية».

التفاصيل التي وصل إليها التقرير دامغة. فبينما تستمر جيوش الرئيس سلفا كير  وزعيم المتمردين رياك مشار في تمزيق البلاد، فقد أبعدوا أسرهم في عقارات فخمة في نيروبي بكينيا، وكمبالا بأوغندا. ويمتلك نجل الرئيس الذي يبلغ من العمر 12 عامًا حصة مقدارها 25% في شركة قابضة مربحة، بينما يمتلك أطفال كير الآخرون وزوجته أجزاء من العديد من الشركات الكبرى في البلاد.

هذا الفساد يساهم بشكل مباشر في معاناة شعب جنوب السودان. أحد الأمثلة الصارخة على ذلك هي قضية الجنرال «بول مالونج أوان»، الذي جند مليشيات مسؤولة عن عمليات القتل الجماعي في جوبا العاصمة، في عام 2013. وفي عام 2015، وضعت الولايات المتحدة مشروع قرار للأمم المتحدة من أجل وضع مالونج على قائمة الأفراد المعاقبين الذين انتهكوا وقف إطلاق النار في جنوب السودان، ولكن تم عرقلة صدور القرار من قبل كل من روسيا وأنجولا. فيقول التقرير «إن مالونج اتخذ أكثر من 80 زوجة، وأنجب أكثر من 100 طفل. العديد من هؤلاء الأطفال تم تمليكهم حصصًا في الشركات الكبرى، ولاسيما في في ولاية شمال بحر الغزال، حيث يشغل حاكمًا عليها. ووجد التقرير أن مالونج أو عائلته يمتلكون اثنين من العقارات الفخمة في أوغندا، وقصر بقيمة 2 مليون دولار في نيروبي، كل ذلك، تاركين الشعب الجنوب سوداني على شفا المجاعة، في وضع من البؤس لم يصلوا إليه من قبل».

ففي حواره مع بلومبيرج، قال «جون برندر غاست»، أحد مؤسسي المنظمة «إن الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة والبنك الدولي والمؤسسات الغربية الأخرى لم يكن الضغط من أجل استقلال جنوب السودان، وإنما فشلهم في التحقق من الفساد المستشري لدى القادة السياسيين والعسكريين في جنوب السودان». ويستكمل «استثمرت الولايات المتحدة بشكل كبير في بناء قدرات الدولة، دون التعامل مع الأسباب الجذرية للصراع. إنه هذا الفساد المستشري».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل