المحتوى الرئيسى

المعارضة السودانية.. رهانات التغيير

12/28 21:18

رغم محاولة الحكومة السودانية التقليل من دعوات العصيان المدني الذي تحقق بصورة جزئية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فإنه شكّل أكبر تحدٍّ شعبي لحكومة الرئيس عمر البشير منذ توليها السلطة في يونيو/حزيران 1989. بيد أن الدعوة الثانية للعصيان المدني في يوم 19 ديسمبر/كانون الأول الحالي -والتي حاولت المعارضة التقليدية اختطافها من الشباب- لم تحظ إلا باستجابة وصفت بالمحدودة.

واستبقت الحكومة -التي بدت مرتبكة لأول مرة- موعد العصيان بتصريحات تشير إلى فشله. وقد نتفهم هذه التصريحات باعتبارها نوعا من الدفاع والحرب الكلامية، إلا أن الحكومة تخطئ إن لم تدرس ما حدث بعقلانية وروية، لأن الحراك قامت به في الأساس فئة شبابية غير حزبية وهنا تكمن الخطورة؛ فالمعركة مع المعارضة التقليدية بعللها محسومة، لكن المعركة مع هذه الفئة لا يمكن النظر إليها بأقل من أنها تحدٍّ خطير.  

والداعون إلى العصيان يعلمون أنه من أبرز أدبيات الحركة السياسية في السودان، ويعود له الفضل في خلع الرئيس الأسبق جعفر نميري الذي حكم ما بين 1969 و1985. وكان العصيان محوريا أيضا في المقاومة الشعبية التي أسقطت حكومة الرئيس الأسبق إبراهيم عبود الذي حكم ما بين 1958 و1964.

ويتجسد التحدي أمام الحكومة في بروز معارضة شعبية لمنهج الحكومة في التعاطي مع القضايا الاقتصادية على وجه الخصوص. وبلغت هذه المعارضة حدا تجاوزت به كونها اختلافا عارضا حول السياسات والاقتصادية، بل أضحت حالة وعي شاملة انتظمت قطاعات كبيرة من المجتمع الشبابي، استلهمت تجربة الربيع العربي في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

إن ما يعزز المخاوف من مصير مظلم للبلاد -بغض النظر عن قصد الحكومة وإعلامها التخويف من مصير سوريا وليبيا واليمن- هو هشاشة الاقتصاد السوداني، ووهن النسيج الاجتماعي، وضعف الأحزاب والقوى السياسية وارتباكها.

ورغم أن الحراك الحالي ليس للمعارضة الحزبية التقليدية يد فيه فإنها رفعت صوتها مغالية بلهجة خطاب سياسي تصعيدي، متوعدة الحكومة وأنصارها بالمشانق والسحل في الشوارع. ومن المؤكد أن الحكومة وحزبها وأنصارها لن يترددوا في الدفاع عن أنفسهم بكل السبل، وحينها ستعم الفوضى وتسيل الدماء عيونا وأنهارا.

في الوقت نفسه فإن تجربة المعارضات العربية لا تبشر بخير؛ فالمعارضات القادمة للسلطة إما عبر دبابة المحتل أو عبر دعمه السياسي كانت سبب تدهور الأوضاع المريع في العراق وسوريا واليمن وليبيا. واتضح أن الدكتاتورية في العراق كانت أفضل من الديمقراطية الأميركية التي جاءت على ظهور الدبابات. وهكذا الحال في ليبيا واليمن.

قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة كانت المعارضة العراقية بكل فصائلها الجهوية والمذهبية تقف مؤيدة وداعمة للاحتلال الأميركي للعراق. ولم يفتح الله عليها بكلمة حق، بل أخذ عداؤها الشديد لنظام صدام حسين كل عقلها. وجاءت جحافل المعارضة على ظهور الدبابات الأميركية من المنافي في طهران ولندن وواشنطن وباريس.

وكان ما عُرف بـ"مؤتمر لندن" -الذي عقد بتوجيه أميركي في ديسمبر/كانون الأول 2002- قد أسس لأسوأ سيناريو يمكن أن تفعله أي معارضة في العالم ببلدها وشعبها، حيث أُقرّت محاصّة سياسية لغنائم ركام الدولة العراقية ومؤسساتها الأمنية، على أساس طائفي وعرقي.

وتحوّل العراق اليوم إلى بركة دماء في ظل اقتتال طائفي شرس بين السنة والشيعة، وعرقي بين العرب والأكراد، وديني بين المسلمين والمسيحيين، وأصبحت إيران اللاعب الرئيس في هذا البلد المتواري في لُجة التدخلات الأجنبية.

أما في ليبيا فقد استعانت المعارضة كذلك بالقوات الأميركية وحلف الناتو لإسقاط القذافي، وانتهى الأمر إلى ما عليه البلاد اليوم من دمار وخراب وكانتونات ودويلات، بسبب تناقضاتها واختلافاتها، وعدم إلمامها بالعمل السياسي وغياب الرؤية السياسية. وفي كلتا الحالتين (العراق وليبيا) لم يتحول الحكم الشمولي إلى ديمقراطية زاهية، ولم يحافظ حتى على ما تحقق في السابق من تنمية واستقرار.

وربما لا نقول شططا إن قلنا إن المعارضات العربية تنقض غزلها بيدها، وهي سبب فشل مشاريعها السياسية بعد سقوط الدكتاتوريات. فهي تصب جل اهتمامها على نقد الحكومات القائمة والتشهير بها وفضح فسادها، فضلا عن إدمان الشعارات والخطب الديماغوجية، دون أن يكون لها مشروع بديل للحكم والإصلاح حال وصولها إلى سدة الحكم.

لقد كان الربيع العربي فرصةً تاريخية للمعارضات العربية لإثبات ذاتها وقد جاءتها الفرصة سانحة، إذ لم تكن لها يد في حراك بدأ شبابيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها لم تجتز امتحاناً سياسياً جد عسير.

أما بالنسبة للمعارضة السودانية التي تتطفل اليوم على حراك يصنعه الشباب؛ فإن المراقبين لا يكتفون بأسئلة من قبيل: كيف سيكون إسقاط النظام؟ وما هو البديل الذي يريده الشعب؟ بل هناك سؤال جوهري ومهم وهو: ما الخطّ الفاصل بين إسقاط النظام دم إغراق الوطن في الدماء والفوضى وربما إزالته من خريطة العالم؟

ويأتي فشل العصيان قياسا على أهداف المعارضة التقليدية لأنها لم تصنع الفكرة من أساسها، بل حاولت بشكل انتهازي سرقة الفكرة وتبنيها والوصول إلى السلطة عبر عرق الغير. فهي لا تملك إستراتيجية كلية للتعامل مع النظام حتى من الناحية النظرية، كما لا يمكن أن نتصور وجود أدنى درجة من التنسيق بين أطرافها بشقيها العسكري والمدني.

وكان للمعارضة في الفترة من 1990 إلى 2005 تجربة تنسيقية في جسم واحد باسم التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان يتخذ من مصر وإريتريا مقرا له، لكن هذا التجمع فشل في إسقاط النظام وانهار تماما مع توقيع أحد أقوى أطرافه المسلحة اتفاقية سلام مع الحكومة، وهو الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق.

فتركت الحركة التجمع يتيما واقتسمت السلطة مع حكومة البشير حتى تم انفصال جنوب البلاد في يوليو/تموز 2011، ثم تحول لدولة فاشلة بسبب انتقال أدواء المعارضة للدولة الوليدة، حيث تحولت الحركة إلى حركات عرقية يقاتل بعضها البعض.

واليوم المعارضة إما حركات مسلحة متمردة أو قوى مدنية، وهي أحزاب تقليدية مرتبطة بمصالح مع النظام لكنها تمسك عصا المعارضة من المنتصف، أبرزها حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، والاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني. وفي الشق المسلح نجد حركات دارفور والحركة الشعبية/قطاع الشمال؛ وأصاب داء الانشطار حركات دارفور فضعفت فعاليتها الميدانية.

وبعد نحو 13 عاما من تاريخ تأسيس أولى الحركات المسلحة في دارفور، تناسلت هذه الحركات من رحم حركتين رئيسيتين هما "العدل والمساواة" و"تحرير السودان"، ليبلغ عددها رقما فلكيا متجاوزا أربعين حركة عبر أكثر من 30 انقساما.

أما الحركة الشعبية فهي لا تستطيع إخفاء ارتباطها بدولة الجنوب وهذا في حد ذاته طامة كبرى، فضلا عن أنها تحمل فيروسات الفوضى الأمنية الموجودة في دولة الجنوب المنهارة. وسبق أن كوّنت المعارضة المسلحة ما أسمته "الجبهة الثورية"، لكنها سرعان ما انهارت بسبب خلافات حول الرئاسة، إذ اتهمت حركات دارفور الحركة الشعبية بالاستئثار برئاسة الجبهة.  

ومن أطراف المعارضة الحزب الشيوعي السوداني، الذي ظل يتسلق الأحزاب الأخرى ويزرع كوادره فيها، وهو ما يبدو ظاهرا في الحركة الشعبية/قطاع الشمال التي يعتبر أمينها العام كادرا شيوعيا معروفا منذ المرحلة الجامعية.

والتاريخ يروي أن هذا الحزب دبَّر مع فصائل أخرى من اليسار انقلاب مايو/أيار 1969، ثم انقلب على نظام مايو بمشاركته في انقلاب يوليو/تموز 1971، وعرف السودان في ظل حكمه أبشع المذابح خاصة ما عرف بـ"مذبحة بيت الضيافة".

وتجدر الإشارة إلى أن زعيم حزب الأمة المعارض -الذي يقيم في القاهرة منذ نحو ثلاث سنوات- أعلن قبل ساعات من موعد العصيان الثاني فشله "فشلا ذريعا"، ملقيا باللائمة على الحزب الشيوعي. وأكد أن ظهور اسم الحزب الشيوعي وشعاراته الانتهازية كفيل بجعل الشعب السوداني يقاطع كل أعمال المعارضة، ويفر منها فرار الصحيح من المجذوم.

هل تستوعب الحكومة والمعارضة درس الأيام الماضية؟ الحكمة تقول إن الأخطاء الصغيرة في السياسة تلد الأخطاء الكبيرة. وإن كان ممكنا إصلاح الأخطاء الصغيرة في مهدها، فإنه يستعصىي إصلاح الكبير منها، وبينما يرتكب السياسيون الأخطاء الصغيرة تدفع الشعوب ثمن الأخطاء الكبيرة.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل