المحتوى الرئيسى

النازحون من جحيم الشيخ زويد.. تجاهلتهم الدولة بين أنياب الشتاء

12/25 13:50

بحذائه البلاستيكي المهترئ، يتقافز الطفل "سلمان" أمام قافلة شعبية كانت قد وصلت للتو لمنطقة "المسمى" غرب العريش حيث يقيم مع اسرته التي نزحت قبل أسابيع من جنوب مدينة الشيخ زويد.

"سلمان " ذو السنوات السبع، تهلل وجهه فرحا بعدما استلم بضعة دفاتر وعلبة ألوان وأقلاما ليتابع دراسته التي حرم منها قسريا بفعل النزوح عن منزله ومدرسته، ولم يضيع وقتا حيث جلس على الأرض وفتح علبة الألوان وأخذ يرسم بيتهم الجديد المكون من عشة بدائية بسيطة يحيط بها سياج من جريد النخل.

لكن الفرحة التي علت وجه سلمان لم تكن ذاتها على وجوه بقية أسرته وجيرانهم الذين ارتسمت عليهم ملامح الوجوم والترقب في انتظار دورهم لاستلام بعض المساعدات التي حملتها لهم قافلة شعبية لمساعدتهم على مواجهة الظروف الإنسانية الصعبة التي يعيشونها بعد أن تركوا بيوتهم التي كانت تحميهم من قيظ الصيف وزمهرير الشتاء.

أسرة سلمان وجيرانهم جزء من أهالي وأبناء قبائل سيناء، جميعهم يتشابهون في البؤس؛ بعد أن تركوا منازلهم خشية أن تغتالهم القذائف المجهولة المحملة بالموت ليلا كبعض جيرانهم الذين تحولت بيوتهم لأكوام من الحطام، دفن تحتها أصحابها من الرجال والنساء والأطفال وتحول، هنا، ليلهم ونهارهم إلى جولات من الصبر، أملا في تحسن الأحوال ليعودوا إلى ديارهم المغلقة والمحاطة بالنار ورائحة البارود.

ما لنا غير الله والمسئولون ما فيهم رجاء

يمسك العم "سالم" بكرتونة تضم بعض المواد التموينية استلمها من أحد شباب القافلة الشعبية، وهو ينظر إلى الأرض خجلا، قائلا: "الله يا ربي يحمي هالشباب اللي كلهم نخوة وهمة ورجولة، ساعدونا ووقفوا جنبنا وما تركونا في محنتنا، اما الدولة الله يخزيها اتخلت عنا وما سأل عنا لا محافظ ولا غيره".

يصمت الرجل الستيني لدقيقة ويواصل حديثه قائلا: "إيش بدي أقول يا ولدي.. ما لنا غير الله رب العالمين وهدول الشباب الله يرضي عليهم، وأما غيرهم ما فيهم رجاء وحسبي الله ونعم الوكيل".

حاملاً حقيبة مليئة بالكتب والكراسات، يذهب الطفل محمد إلى أحد شباب القافلة مناشدا إياه بمساعدته في مواصلة دراسته حتى لا يضيع عليه العام الدراسي الحالي: "يا استاذ ودي أروح عالمدرسة، ساعدني ما ودي تروح عليّ السنة وارجع تاني للصف الثالث".

يعده الشاب إسلام بذلك ويخبره أنه حل مشكلته هو وزملائه في أداء امتحان نصف العام بإحدى مدارس الفصل الواحد، ويطمئنه بأن السنة الدراسية لن تفوته كما يخشى.

وفي حجرة واحدة مبينة من جريد النخيل مساحتها لا تتجاوز خمسة أمتار مربعة تعيش الحاجة "فرحانة" وأولادها الخمسة تحت سقف من أشجار الصحراء المحيطة بها.

فرحانة.. مات زوجها وتركت بيتها

تعيش "فرحانة" التي ليس لها من اسمها أي نصيب دون أدنى متطلبات الحياة الإنسانية حيث لا ثلاجة ولا بوتاجاز أو غسالة، فقط شعلة موصلة بأنبوبة بوتاجاز تبرع لها بها أحد الخيرين وحلة كبيرة وأخرى صغيرة وبعض الأطباق البلاستيكية و3 جراكن بلاستيكية لتخزين مياه الشرب كانت هذه كل الأدوات التي تستخدمها لإطعام أولادها، "3 فتيات وولدان أكبرهما يبلغ من العمر 9 سنوات".

تقول الحاجة "فرحانة" مات زوجي قبل 7 أشهر برصاصة "مجهولة" أصابته وهو أمام منزلنا بقرية "الشلاق" -جنوب الشيخ زويد-وبعده ساءت أحوالنا: "عشنا ظروفًا صعبة بعد المرحوم، وما ضل لنا شيء بالقرية من بعده، خفت على أولادي لتصيبنا قنبلة من اللي بطيح (تسقط) على البيوت وهجينا (رحلنا) مع ناس من جيراننا، وزي ما أنت شايف قاعدين بعشوش (عشش) وتركنا دارنا، وان شالله تهدى الدنيا ونعاود (نرجع) لها مرة ثانية".

وفي منطقة الكيلو 17 غرب مدينة العريش، تقيم عدة أسر بدوية نزحت من قرى جنوب الشيخ زويد على مسافات متباعدة، في عشش بدائية صنعت من بعض الـخشاب المعززة بأشجار من نباتات الصحراء متباعدة عن بعضها، حيث تحرص العائلات البدوية بصفة عامة على أن تقيم مساكنها متباعدة بدافع العادات والتقاليد وحفاظا على حرمة الديار وأهلها.

خلف سياج مبني من سعف النخيل وأشجار الصحراء يقال عنه "الشق" او المقعد يجلس قرابة 7 رجال يتحلقون حول نار الشتاء باحثين عن الدفء وسط أجواء شتوية باردة وبداخل النار دلة تتصاعد منها رائحة القهوة الممتزجة بالهيل، وإلى جوارها إبريق نحاسي يحتوي على الشاي المختلط بنكهة الزعتر البري.

بعد التحية والسلام يجلس الضيف محاطا بالاهتمام والكرم رغم ضيق الحالة وقلة المال يقدمون له القهوة ومن بعدها الشاي ويلحون في السؤال لتقديم الطعام، مهللة أساريرهم سعداء بمن يزورهم، ويسأل عن حالهم وأحوالهم في أماكن متفرقة ارتحلوا إليها وسكنوها مفترشين الأرض وملتحفين السماء.

يعقد "أبو حسن" كلتا يديه ببعضهما ويضغط عليهما بقوة كأنما يكتم ضيقه، فيما تنساب الكلمات المتثاقلة بالخجل والممزوجة بالمرارة قائلا: "والله يا ولدي احنا كنا بخير وما بدنا غير الستر والسلامة، لكن ما لذنا (أجبرنا) على المر غير الأمر منه، والله يجيب ما فيه الخير للبلاد والعباد".

وحول تركه لمنزله بقرية "الثومة" وسكنه بمنطقة الكيلو 20 يقول: "تركت بيتي وأرضي للحفاظ على حياة أولادي، فأنا لا أريد الحياة ولا أسعى لها، ولكن حرصا على ألا يحاسبني الله على عدم سعيي لتوفير الملاذ الآمن لأولادي".

ويكمل: "للأسف الشديد تخلت عنا الدولة، ولم يسأل عنا أحد ونحن لا نطالبهم بأشياء مستحيلة لنعيش ولكن فقط نحتاج بطاطين لأننا نعاني من انخفاض درجة الحرارة والشتاء القارص ومياه وطعام لهؤلاء الصغار".

ويلتقط "أبو سعيد" طرف الحوار بانفعال شديد: "على الجهات المعنية إنقاذنا، نحن لم نترك ديارنا اختياريا ولكن كان ذلك اضطراريا، فأسرنا وأطفالنا يعيشون في أماكن غير آمنة والموت يأتينا ليلا من حيث لا ندري".

ويواصل أبو سعيد قائلا: "نحن نقيم على مسافة ليست بعيدة عن مدينة العريش ومكاتب المسئولين الذين لم يكلفوا خاطرهم لزيارتنا وتفقد أحوالنا، نحن مصريون ننتمي إلى تراب هذه البلاد أم أنهم لهم رأي غير ذلك؟".

ويتابع: "نحن لا نطلب سوى مساعدتنا على الحياة هنا بصورة مؤقتة حتى تستقر الأوضاع الأمنية في قرانا لنعود من جديد الى بيوتنا، وجميعنا هنا لا نعمل ونعاني من نقص السلع الغذائية والمواد التموينية وأحوالنا في تدهور مستمر".

جهة وحيدة فقط هي التي اصبحت بمثابة اليد الحانية على هؤلاء الاهالي الذين ينامون في العراء، لا بواكي لهم ولا معين سوى الله ومجموعة من الشباب الذين شكلوا مبادرة أهلية وشعبية باسم "مبادرة أهالينا في سيناء"، تضم عدد من الشباب والفتيات، تحركوا بكل اتجاه واستطاعوا جمع كميات من المساعدات الغذائية والعينية وتحركوا إلى التجمعات التي تقيم بها العائلات النازحة من جحيم القذائف.

أحد شباب مبادرة "أهالينا في سيناء" –رفض ذكر اسمه بدعوى أنهم يتحدثون بروح الفريق دون الأسماء–يقول لـ "مصر العربية" إنه تم تأسيس المبادرة بعد نزوح العائلات لمناطق غرب العريش وبقائهم وحدهم في مهب الريح دون أن تساعدهم الجهات الرسمية بالمحافظة، فقمنا بتشكيل المبادرة على الفور وأخذنا نتواصل مع جهات شعبية ورجال أعمال حتى استطعنا توفير أساسيات الاحتياجات الخاصة لإعانة الأهالي على مواصلة حياتهم بأقل الإمكانيات.

ويضيف قائلا: "قمنا بزيارات عديدة للمسؤولين والتقينا محافظ شمال سيناء في مكتبه عدة مرات ولم تكن هناك أي استجابة لمطالب المبادرة لمساعدة الأهالي، إلى أن بدأنا حملة إعلامية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" وفضحنا تقاعس المسئولين عن مساعدة أهالي الشيخ زويد، وعلى استحياء طلب المحافظ من مدير عام التموين صرف نصف طن دقيق، ومجموعة من الكراتين التي تحتوي على مواد غذائية قدمتها مديرية التضامن الاجتماعي للمبادرة وبدورنا قمنا بتوزيعها على الأهالي.

ويشير عضو مبادرة "أهالينا في سيناء" إلى أن آخر قافلة قمنا بتسييرها كان يرافقها مدير عام الشباب والرياضة ومدير عام التموين ومدير عام التضامن الاجتماعي، وقد حضروا بشكل روتيني وتركونا وانسحبوا عند أول تجمع للنازحين خشية مواجهتهم، ورؤية معاناتهم على الطبيعة وعادت سيارات التضامن الاجتماعي محملة بالكراتين للمخازن مرة أخرى، بعد رفض الموظفين توزيعها بحجة أن النساء لا تحمل بطاقات رقم قومي.

ويكشف الشاب أن هذه الكراتين كانت مخزنة منذ شهر رمضان الماضي وهي مقدمة كمساعدات من جمعية الأورمان وليس لمديرية التضامن الاجتماعي أي فضل علي الناس لأنها لم تقدم شيئا من عندها للناس؛ ورغم ذلك رفض الموظفون توزيع كراتين المواد الغذائية وفضلوا إعادتها للمخازن لتسريبها لمنازلهم أو بقائها حتى تنتهي صلاحيتها دون أن يستفيد منها النازحون رغم حاجتهم لها.

وفي رده على سؤال "مصر العربية" حول مسؤولية مديرية التضامن الاجتماعي تجاه أهالي مناطق جنوب الشيخ زويد المهجرين بمناطق غرب العريش، يقول عطية محسن مدير عام التضامن الاجتماعي بمحافظة شمال سيناء إنه لم يتقدم أحد من الأهالي النازحين بأي طلب للتضامن الاجتماعي حتى الآن لبحث طلبه، واختيار الآلية المناسبة للمساعدة، مشيرا إلى أن اللواء السيد حرحور محافظ شمال سيناء قد أصدر تعليماته مؤخرا بصرف مساعدات غذائية وبطاطين للنازحين وتم توزيعها عليهم.

إلا أنه أكد على صعوبة تخصيص إعانة شهرية "مادية أو عينية" للأسر النازحة، بدعوى أن هذا الإجراء غير قانوني، ويحتاج الأمر لموافقات من وزارة التضامن الاجتماعي بالقاهرة، ولكن ما تستطيع المديرية تقديمه لهم هو مناشدة الجمعيات الأهلية ذات الاختصاص لتقديم مساعداتها لتلك الأسر.

ومن جانبه أكد مصدر مسئول بمديرية الإسكان بالعريش –رفض ذكر اسمه– في رده المقتضب على سؤال "مصر العربية" حول إمكانية تسكين الأسر النازحة بمساكن تؤويهم من برودة الطقس ولو بصورة مؤقتة قائلا: لا توجد أي إمكانية تقديم أي مساعدة من قبل مديرية الإسكان بشمال سيناء للأسر النازحة بدعوى عدم وجود أي شقق فارغة بمدينة العريش لاستيعابهم ولو حتى بصورة مؤقتة.

ويشكل النازحون والمهجرون من ديارهم قسريا بشمال سيناء ضحايا غير مرئيين ومنسيين للظروف الراهنة الخطرة بمنطقة جنوب الشيخ زويد-ج، فهم بعيدون عن الأضواء ووسائل الإعلام والمنظمات وأعين المجتمع الدولي بعد أن غابت عنهم عدسات الصحافة والإعلام، حيث ترفض الصحف القومية والمستقلة أيضا نشر مأساتهم أو تسليط الضوء عليها، وتحجم عدسات الفضائيات عن زيارتهم ونقل معاناتهم للمسئولين.

وتستمر مأساة النازحين منذ عدة شهور دون أن تمثل ولو وخزًا لضمير الإنسانية لدى المسئولين بمحافظة شمال سيناء بقليل من الاستحياء لهذه المأساة المستمرة حتى باتت صور النزوح والتهجير واقعا مألوفا لمسئولين بدا وكأنهم لا يحترمون لمواطنيهم حقا ولا يعرفون لهم إنسانية.

وكانت منطقة شرق العريش وخاصة منطقة جنوب الشيخ زويد (التومة، والفيتات، والزوارعة، والشلاق وكرم القواديس) قد تعرضت إلى العديد من الأحداث الخطيرة إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا، ما أدى إلى نزوح أهالي تلك القرى بعيدا عن نيران الحرب المزدوجة، وهروبا من جحيم القذائف المجهولة التي تتساقط في عتمة الليل فوق البيوت.

وسقطت عدة قذائف مجهولة على نحو 8 بيوت بعدة قرى، ما أسفر عن تدميرها ومقتل وإصابة العشرات من الأهالي بينهم أطفال أبرياء، بمناطق "الجورة والمقاطعة والشلاق" جنوب الشيخ زويد و"المطلة والمهدية" جنوب رفح.

وكان الخيار الصعب هو النزوح القسري لقرابة 43 أسرة، حتى الآن، باتجاه مناطق غرب العريش، حيث استقرت نحو 21 أسرة بمناطق الكيلو 17 والكيلو 20، وبمنطقة المسمى 15 أسرة، وبحي السمران 7 أسر بإجمالي قرابة 220 شخصًا من النساء والرجال والأطفال، اختاروا العيش خارج ديارهم، تحت ظروف إنسانية صعبة ومعقدة وفقدان الشعور بالأمان والأمل لدى أفراد تلحق الأسر التي تفترش الأرض والتحفت السماء.

ورغم أن الموجات المستمرة من النازحين تنذر بعواقب كارثية على كل المستويات، اجتماعيا وتعليميا واقتصاديا وسياسيا، إلا أنه لا خيار لهؤلاء الأهالي الذي غادروا قراهم وربوع قبائلهم ولم يفارقوها، فهي، على حسب قولهم، معهم بين حنايا صدورهم ينبضون بها، ويعيشون على أمل العودة.

أمل يبدو بعيدا (ولو مؤقتًا) على رجال وأطفال أطفأت نيران المجهول بريق عيونهم، وغابت بين أصوات الرصاص صيحاتهم، وأمسى عدُّ النجوم المترامية في سماء الشيخ زويد -البعيدة عنهم اليوم- من ذكرياتهم الممزوجة بليالي القتل والدمار.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل