المحتوى الرئيسى

تحقيق استقصائي بالصور والمستندات.. "تسريبات الإكس راي".. الموت تحت جهاز أشعة

12/25 13:50

جولة لـ"معد التحقيق" في 5 مستشفيات بـ4 محافظات تكشف عدم الالتزام بلائحة قانون 59 لسنة 60

10 مخالفات بأقسام الأشعة بـ"أبو الريش".. و4 حالات اشتباه بأمراض ظهرت بالمستشفى

واحد من كل 1600 فني يصاب بالسرطان سنويًا

فني:"إحنا بنسقط الواحد ورا التاني"

مستشفى بولاق: الأبواب مفتوحة أثناء التصوير.. والحاجز غير مرصص

المنشاوي العام: الأجهزة غير صالحة للاستخدام

"دمرو": وحدة التحكم تخالف اشتراطات الوقاية من الأشعة

"الطلبة" الجامعي: الفنيون لا يستخدمون أفلام قياس الأشعة.. وفني: من 2006 لم تجدد

عميد طب الأزهر: "الحسين" حصلت على الترخيص للالتزام بالقانون.. وجولة واستبيان: الفنيون لا يرتدون معدات الوقاية

استبيان إلكتروني شمل 141 فنيَا: 31,8% يعانون من أمراض ذات علاقة بالأشعة..80,4% ينفون التفتيش على القسم

الإدارة العامة للأشعة: عدد المفتشين 22 والتفتيش دوري..وتؤكد: مستشفيات الحكومة كلها مرخصة

بدأ ينتابه القلق بعد فقدانه تدريجيًا للوزن.. أصبح القلق لا يمكن مقاومته، عندما شعر بالهزل والإعياء، ثم وصل الأمر لذروته مع تضخم الغدد الليمفاوية.

"توجهت إلى الطبيب، بدأ في سؤالي عن عملي في الأشعة، وهل أرتدي معدات الوقابة والصحة المهنية أم لا.. هنا بدأ ينتابني القلق، وقطعت التحاليل الشك بيقين إصابتي بسرطان الغدد الليمفاوية".. يقول عبد الرحيم أحمد (48 عامًا)، فني الأشعة بمستشفى ملوي العام بالمنيا، متذكرًا تفاصيل اكتشافه مرضه قبل خمس سنوات، بعد 22 عامًا من العمل في قسم الأشعة بالمستشفى "بدون أي معدات وقاية من الأشعة".

عبد الرحيم تحمل صدمة إصابته بالمرض إلا أنه لم يتحمل العبء المالي بعد أن اكتشف أنه يحتاج إلى علاج تبلغ تكلفته 46 ألف جنيه سنويًا، في حين لم يكن مرتبه يتجاوز حينها 1200 جنيه، وبدل الوقاية من الأشعة 1,5 جنيه فقط لا غير.

يضيف عبدالرحيم: "لولا تدخل النقابة العامة للعلوم الصحية وضغطها على الهيئة العامة للتأمين الصحي للحصول على استثناء صرف العلاج، كان لم يكن بمقدوري أن أصرف العلاج".

حالة عبد الرحيم ليست الحالة الأولى التي أصابها السرطان بين فنيي الأشعة في محافظته، فنقيب العلوم الصحية بمحافظة المنيا أحمد صهيب يؤكد أن هناك ثلاثة فنيين أشعة توفوا بسبب السرطان من مستشفى واحد بالمنيا، خلال  السنوات العشر الماضية.

ومن المنيا إلى القاهرة، حيث توفى شوقي محمد، فني الأشعة بمستشفى الحسين الجامعي، في مطلع العام الماضي، بعد صراع له مع سرطان الدم، بحسب محمد عبد الرحمن، نقيب العلوم الصحية بالقاهرة، الذي أكد أنه قدم طلب إعانة علاج من النقابة بعد أن تبين أن مرضه جاء نتيجة لعمله في قسم الأشعة.

فيما يقدر نقيب النقابة العامة للعلوم الصحية، أحمد الدبيكي، عدد حالات الفنيين الذين تقدموا بشكوى أو طلبات علاج لإصابتهم بالسرطان، بمتوسط 10 حالات سنويًا منذ تأسيس النقابة منذ خمس سنوات، ووصل العدد في عام 2015 إلى 12 حالة.

عدد الحالات المصابة بين فنيي الأشعة يدخلهم في دائرة الفئات الأكثر إصابة بالأمراض وفقًا للعمليات الحسابية. فعدد الفنيين، بحسب نقيب العلوم الصحية، 16 ألف فني مسجلين في وزارة الصحة، وعندما يصاب منهم 10 سنويًا، فهذا يعني أن فني واحد من بين كل 1,600 فني يصاب بالسرطان سنويًا.

يشير أخصائي العلوم التطبيقية (وهي الوظيفة المختصة بتطبيق قواعد الوقاية من الإشعاع.. بموجب الوصف الوظيفي الذي أقرته الإدارة العامة للتنظيم والإدارة) والباحث في الوقاية من الأشعة بجامعة فاروس بالإسكندرية، مصطفى عبدالغني، إلى أن أغلب المستشفيات، خاصة الحكومية، لا تلتزم بمعايير الوقاية من الإشعاع التي أقرّها القانون، ما يعرض الفنيين لأكثر من جرعة الإشعاع المقررة دوليًا (20 ملي زيفرت في العام)، وهو ما يسبب الإصابة بأمراض أقلها الطفح الجلدي وأكثرها خطورة السرطان والعقم.

استشاري الباطنة العامة بوزارة الخارجية، الدكتور رأفت حافظ، هو الآخر يؤكد أن الأشعة من أخطر ما يمكن على الإنسان؛ لأنها محفز للأورام السرطانية، وتصيب بشكل تراكمي جهاز الدم والجهاز الهضمي والجهاز العصبي، على الترتيب.

في صحيفة وقائع (منشور تصدره منظمة الصحة العالمية) رقم 371 الصادرة في نوفمبر 2012، تحت عنوان "الإشعاع المؤين، آثاره الصحية وتدابير الوقاية منه"، تحذر منظمة الصحة العالمية، من زيادة جرعة التعرض للأشعة المؤينة، لما يسببه من أمراض.

وجاء في منشور المنظمة العالمية أنه "يمكن للإشعاع إذا تعدى حدودًا معينة أن يضعف وظائف الأنسجة أو الأعضاء، وأن يؤدي إلى آثار حادة مثل إحمرار الجلد وفقدان الشعر والحروق الإشعاعية ومتلازمة الإشعاع الحادة. وكلما زادت كمية الجرعات وارتفع معدل الجرعات زادت حدة الآثار. وعلى سبيل المثال فإن الجرعة الحدية لمتلازمة الإشعاع الحادة 1 زيفرت (1000 ميللي زيفرت)".

وتضيف المنظمة: "يزداد احتمال أن تنجح الخلايا التالفة في إصلاح نفسها في حالة انخفاض الجرعة التي يتلقاها الإنسان أو تعرضه لها على مدى فترة زمنية طويلة (انخفاض معدل الجرعة). ولكن هناك احتمال أن تحدث آثار طويلة الأجل أيضًا إذا كانت هناك أخطاء في عملية إصلاح الخلايا التالفة، فتتحول تلك الخلايا إلى خلايا مشعة لا تزال قادرة على الانقسام. وقد يؤدي هذا التحول إلى إصابة الإنسان بالسرطان بعد مرور سنوات أو حتى عقود".

حالات كثيرة واجهتني لفنيين مرضى أثناء إعداد هذا التحقيق الاستقصائي، وبعد اطلاعي على الشكاوى المقدمة من النقابة، والتواصل مع بعض المتضررين، بدأت هذا التحقيق الذي أثبت أن عددا كبيرا من المستشفيات لا تلتزم باشتراطات الوقاية من الأشعة المنصوص عليها في لائحة القانون رقم 59 لسنة 1960 الخاص بتنظيم العمل بالأشعة المؤينة والوقاية من أخطارها.

كما أنها لا توفر معدات الوقاية والسلامة المهنية للفنيين العاملين بأقسام الأشعة، وهي المعدات المنصوص عليها في اللائحة ذاتها، وسط غياب تام من جهة التفتيش المختصة متمثلة في المكتب التنفيذي للوقاية من خطر الإشعاع المندرج تحت الإدارة العامة للأشعة.

وأدرجت اللائحة التنفيذية الصادرة بقرار 630 لسنة 1962 لقانون 59 لسنة 1960 مواد صارمة لتحقيق الوقاية، تتفق مع أغلب ما أقرته اللجنة الدولية للوقاية الإشعاعية في تقريرها رقم 103 بعنوان "توصيات اللجنة الدولية للوقاية من الأشعة"، وتقرير 105 بعنوان "الوقاية الإشعاعية في مجال الطب"، وهما التقريران الصادران في عام 2007.

تنص المادة 20 من اللائحة على إجراء فحوصات على العاملين في المؤسسات التي تعمل بالأشعة المؤينة كل ستة أشهر على الأقل، والمادة 31 عن فحص الأماكن التي يمكن أن تصل إليها الأشعة المؤينة لتقرير مستوى الإشعاعات بها، والمادة 33 أوجبت توفير "جميع معدات الوقاية، وتكون دائمًا في حالة صالحة للاستعمال"، وتضافرت هذه المادة مع المادة التي تليها التي تنص على الفحص الدوري مرة كل ثلاثة أشهر على معدات الوقاية وتسجيل نتائج الفحص.

وجاء في المادة 39 أنه "يجب استخدام وسائل قياس الإشعاعات المؤينة كأفلام حساسة ودوزيمترات الجيب لكل من يعمل بالإشعاعات المؤينة وتبلغ نتائج القياس بصفة دورية إلى المكتب التنفيذي لشئون الوقاية"، كما نصت اللائحة في أكثر من موضع على تبطين الأبواب والجدران بألواح رصاص سمك 2مم، داخل حجرات الأشعة.

بعد الاطلاع على اللائحة، أعددت استبيانًا إلكترونيًا مقتبسًا من نصوصها.. إجابات أسئلة الاستبيان لا تحمل إلا معنى واحدا: "هذه اللائحة لا يتعدى حدود تأثيرها الورق الذي كتبت عليه".

شارك في الاستبيان 142 فني أشعة، يعمل ما لا يقل عن 90% منهم في القطاع الحكومي، ومنهم من يعمل في القطاعين العام والخاص.

أجاب 139 فنيًا على سؤال حول استخدام وسائل قياس التعرض للأشعة، نفى 69,1% منهم استخدامها مقابل 30,9%. ومن نسبة 30,9% التي أجابت بالإيجاب على استخدام وسائل القياس، نفى 80,4% إخبارهم بنتائج وسائل القياس.

يعمل 85,5% من المشاركين في الاستبيان في غرف مبطنة بالرصاص مقابل 14,5% .

كانت نسبة عدم ارتداء المريلة المرصصة والرقبة المرصصة (لحماية الغدد والجهاز التناسلي) 89,2%. فيما نفى 80,6% أن هناك تفتيشا من الجهات الرقابية على أقسام الأشعة التي يعملون بها.

ورد 79,9% من الـ134 الذين أجابوا عن هذا السؤال، بالنفي بشأن إجراء تحاليل لهم، مقابل 20,1%.

وكشفت نتائج تحاليل لـ17 فنيًا من عينة الاستبيان أن 10 منهم نتائج تحاليلهم طبيعية، مقابل 6 تنذرهم بالخطر، إذ أن كرات الدم أقل من 3 آلاف، وهيموجلوبين الدم 8، وحالة وصلت كرات الدم البيضاء لـ15000، وحالة مستوى الهيموجلوبين وصل إلى 6، وحالة أخرى 10، وحالة ثالثة 2.5، وحالة كتبت أن نتيجة التحليلات "مفبركة"، في إشارة إلى أن نتائج التحاليل غير صحيحة بشكل دائم.

فيما أجاب 31,5% من 130 مشاركة بالإيجاب على إصابتهم بالأمراض نتيجة عملهم بالأشعة، واشتملت قائمة أمراض الـ38 (نسبة 31.5%): نقص الصفائح الدموية، وانخفاض عدد كرات الدم البيضاء، ومرض نقص المناعة، وتأخر الإنجاب والعقم، وجفاف البصر، والأنيميا، وسرطان الدم، وحدوث ارتكاريا الجلد، وآلام بالمفاصل، وتساقط الشعر وحساسية الصدر بسبب رائحة الأحماض.

تتفق كل هذه الأمراض مع الأمراض الواردة في قرار وزير الصحة رقم 143 لسنة 1984 بشأن "تحديد الأمراض التي تنشأ عن الراديوم أو المواد ذات الإشعاع أو أشعة أكس".

ويحدد هذا القرار 10 أمراض تنتج عن التعرض الإشعاعي: ضمور كلي أو نوعي في خلايا النخاع، وما يتبعه من انخفاض في العدد المطلق لكرات الدم البيضاء والصفائح الدموية وكرات الدم الحمراء وظهور بعض خلايا الدم غير الطبيعية، العقم المؤقت أو الدائم عند الرجال والنساء، أمراض جلدية غير سرطانية، عتمات عدسة العين، الأعراض الناتجة عن التغيرات في نخاع العظام الهضمي والجهاز العصبي المركزي، سرطانات الدم الحادة والمزمنة، سرطانات الغدة الدرقية، سرطانات الرئة، سرطانات الجلد، سرطانات العظام.

يفسر الدكتور رأفت حافظ هذه النتائج واصفًا إياها بأنها "تدلل على أن المصاب تعرض لإشعاع أكثر بكثير من المسموح به وفقًا للمعايير الدولية والمحلية، ويكشف عن حجم المخالفات داخل أقسام الأشعة، وعلى ضرورة الالتفات لهذا الخطر الذي يصيب العاملين في أقسام الأشعة".

ويضيف استشاري أمراض الباطنة العامة أن أشعة "أكس" السينية المستخدمة في أقسام الأشعة تخترق الجلد وتصيب كرات الدم البيضاء فتنخفض عن معدلها الطبيعي الذي يتراوح من 4 آلاف إلى 11 ألفا أو يتجاوزه. وعندما يقل معدل كرات الدم البيضاء يصبح هذا مؤشرا خطرا بنقص المناعة، وعندما تزيد على معدلاتها الطبيعية يكون هذا مؤشرا لحدوث السرطان، ويجب حينها تحليل "دلالات أورام".

أما عن هيموجلوبين الدم، فيوضح حافظ أن نسبته الطبيعة من 12 إلى 15، وأقل من هذا يعد مؤشرًا على تكسير كرات الدم الحمراء، ما يسبب أنيميا التحلل الدموي، وما يصاحبها من إرهاق ووفقدان للوعي وشعور بالإجهاد، مشيرًا إلى أن الصفائح الدموية وكرات الدم البيضاء والحمراء مرتبطة ببعضها ويشكلون وحدات الجهاز الدموي وأي خلل بواحدة منهم يؤثرعلى الأخرى.

والغرض لارتداء المريلة الرصاص (الأفرول)، أن "الأشعة تصيب الحيوانات المنوية، وتسبب العقم"، وفقًا لطبيب الباطنة الذي أكد أن الأشعة خطر أيضًا على المرضعة لأنه يصيب الثدي.

أما عن سرطانات الجلد والغدد الدرقية واللميفاوية، فيقول الباحث في الوقاية من الأشعة، مصطفى عبد الغني، إن الأشعة تصيب كروموسومات الخلية، فتحدث فيها "طفرة"، وتغيّر من وظائفها الحيوية، فتحولها من خلية بناءة إلى خلية هدامة، ومن خلية حية إلى خلية سرطانية، ما يسبب الأورام السرطانية المختلفة في الجلد أو الغدد.

الاستبيان لا يعبر إلا عن واقع أكدته الزيارة الميدانية لأقسام الأشعة داخل 5 مستشفيات بأربع محافظات. ووقع الاختيار على هذه المستشفيات تحديدًا بعد ملاحظة تعدد الشكاوي منها، أثناء المناقشات التي حضرتها في النقابة العامة للعلوم الصحية أو داخل المجموعات التي تضم الفنيين على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أو من واقع الاستبيان الذي أجريته.

قامت لجنة الوقاية من الإشعاع بمستشفيات جامعة القاهرة (غرب العاصمة) في 19 يناير الماضي بالتفتيش على قسم الأشعة بمستشفى أبو الريش - المنيرة الجامعي (وسط القاهرة)، وأثبتت في تقريرها، الذي استطعنا الحصول على صورة منه، وجود 10 مخالفات، وبحسب مصدر بالمستشفى فإن حجرة الأشعة المقطعية التي تحتوي على 70% من مخالفات قسم الأشعة تعمل منذ خمس سنوات.

حجرة الأشعة المقطعية احتوت على 7 مخالفات، هي كالآتي، كما ورد في التقرير: الباب الموجود غير مرصص ويقوم بتسريب الأشعة على العاملين والمرضى، كانت القياسات الإشعاعية عالية جدًا خلف الباب وغير مناسبة لبيئة العمل وتتجاوز النسب المسموح بها مما يعرض العاملين لمخاطر الإشعاع، تم التنبيه وبشدة على العاملين داخل حجرة الكنترول بضرورة ارتداء مهمات الوقاية الإشعاعية متمثلة في المريلة الرصاص - البادجات الشخصية.

كما أن الزجاج المرصص غير مناسب ويحدث تسريبا للأشعة من خلاله ونوصي بتركيب لوح مزدوج مغطى بإطار رصاص من الداخل، مخاطبة الشركة التي تقوم بصيانة الجهاز لعمل هذه الإصلاحات، ملاحظة دخول سيدات حوامل أثناء التصوير وهذا مخالف للقوانين ولا توجد أية تعليمات توضح أنه يمنع دخول الحوامل أثناء التصوير، اللمبات الحمراء لا تعمل أثناء التصوير.

أما بخصوص وحدات الأشعة العادية، فاكتشفت اللجنة بها 3 مخالفات هي: أبواب الغرف تحتاج إلى صيانة حيث تلاحظ أنها لا تغلق أثناء التصوير، المرايل (ملابس الوقاية) الموجودة غير صالحة للاستخدام وكذلك لا يوجد واقٍ للغدة الدرقية، جميع اللمبات الحمراء تحتاج إلى صيانة لأنها لا تضيء أثناء التشغيل.

وبعرض التقرير على الباحث في علم الوقاية من الأشعة، مصطفى عبد الغني، لم يصدق ما طالعه، قائلًا إن أكثر ما أدهشه هو كم المخالفات داخل حجرة الأشعة المقطعية؛ لأن تركيزتها أعلى من الأشعة العادية 50 مرة، وأقل نوع تصوير باستخدام الأشعة مقطعية يبلغ 2,2 ملي زيفرت، وهو تصوير الرأس، أما الصدر والبطن فتصل الأشعة إلى 9,9 ملي زيفرت، بينما الحد الأقصى لتعرض الفني للأشعة تبلغ 20 ملي زيفرت في العام.

وهذا يعني أنه لو أجرى الفني داخل مستشفى المنيرة تصويرًا لحالتين فقط في اليوم، حالة صدر أو بطن وحالة رأس، سيختزن جسمه القيمة الإشعاعية المسموح بها عالميًا في العام، خلال يومين فقط من العمل.

أما فيما يخص المرضى، فإن المسموح به عالميًا في العام 1 ملي زيفرت، وتسريب هذا الكم من الإشعاع المبين في التقرير، يعد كارثة على حياة من يتعرض لها من المرضى، وفقًا لعبد الغني.

ويوضح أن الثابت علميًا بلا لم يدع مجالًا للشك أن المرأة الحامل إذا ما تعرضت لجرعة إشعاعية، فإنه يسبب تشوها في الأجنة.

واختتم عبد الغني كلامه قائلًا: "احتمال كبير أن يكون الفنيون وغيرهم من العاملين يعانون من الأمراض المتسبب فيها الإشعاع".

كان توقع عبد الغني في محله، فقد أسفر الاستبيان الذي أجريته في زيارة ميدانية لقسم الأشعة داخل مستشفى أبو الريش المنيرة، عن أن ثلاثة فنيين وممرضة واحدة يعانون من أمراض خاصة بالأشعة. فهناك حالة كتبت داخل الاستبيان أنها تعاني من ارتكاريا في الجلد، وحالة أخرى كشفت تحليل صورة دمها أن كرات الدم البيضاء أقل من معدلاتها الطبيعية، وحالة اشتباه بإصابة في الغدة الدرقية، وحالة اشتباه بإصابة في الثدي.

الأمراض التي بدأت تغزو الفنيين دفعتهم لرفض طلب إدارة المستشفى بالعودة للعمل في حجرة الأشعة المقطعية، كما يوضح فني أشعة، فضل عدم ذكر اسمه، مضيفًا: "إحنا بنسقط واحد ورا التاني، وهم مش همهم غير الشغل، فقررنا أننا نرفض العمل لحد ما تترصص الحجرة تاني، وكل القياسات تطلع بدون أي تسريب حتى لو قليل".

ما أسفر عنه الاستبيان الذي وافق خمسة من الفنيين في المستشفى أن يملؤه يسفر عن كارثة بالغة، حيث أجمعوا على أنه تم إجراء تفتيش مرتين خلال السنوات الخمس الماضية. فهل لم يكتشف أي تسريب، حتى ولو لدرجة قليلة، طوال هذه السنوات؟

ولماذا جاء اكتشاف التسريب بناء على تفتيش من لجنة الوقاية من الأشعة التابعة لمستشفيات جامعة القاهرة فقط، وليس من الجهة المختصة بالتفتيش على كل المستشفيات (المكتب التنفيذي للوقاية من الأشعة التابع لوزارة الصحة)؟ وهل ما يسري على مستشفى أبو الريش الجامعي من مخالفات يسري على غيرها؟

لم يكن بمقدوري إلا محاولة الإجابة عن السؤال الأخير، فتوجهت بعدها إلى مستشفى بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة (غرب القاهرة)، وقطعت تذكرة إجراء أشعة على اليد.

في غرفة بالدور الأرضي دخلت قسم الأشعة، لم يكن صعبًا أن تلتقط عيني المخالفات من أول نظرة داخل الحجرة التي يتناثر بها أجهزة متهالكة، فالفني لا يرتدي أي من معدات الوقاية، ولا يقف خلف الحاجز الوقائي الذي يبلغ سمكه 1 مم مكافئ رصاص، وفقًا للمادة 46 من اللائحة.

الحاجز نفسه كان مصنوعًا من الخشب، ولا يوجد أي ألواح رصاص مثبتة بالباب، أما المشكلة الأكبر فإنني كنت أتحدث مع فني الأشعة أثناء تصويره لمريض والباب مفتوح، ما يخالف اللائحة.

ومن مستشفى بولاق إلى مستشفى الطلبة الجامعي لا يختلف الأمر كثيرًا في توفير معدات الوقاية من الأشعة، وإن كان تبدو حالة الأجهزة جيدة بالمقارنة بأجهزة مستشفى بولاق.

ويكشف أحد الفنيين داخل مستشفى الطلبة، فضل عدم ذكر اسمه، أنه لا يرتدي فيلم بادج من شهر 12 لعام 2006، أي يعمل منذ ما يقرب من 9 سنوات ونصف بدون أي وسيلة لقياس الأشعة.

(فني يحمل فيلم بادج لم يقرأ منذ أكثر من 9 سنوات)

بعيدًا عن القاهرة والجيزة، توجهت إلى مستشفى المنشاوي العام بطنطا (دلتا مصر)، وصلت إلى المستشفى متأخرًا، فكان أغلب الفنيين انتهوا من عملهم، فلم ألاحظ مدى الالتزام بارتداء معدات الوقاية.

استطعت عبر أحد العاملين أن التقط صورة لحجرة الأشعة العادية، لكن لم أستطع الوصول لحجرة الأشعة المقطعية.

عرضت الصورة على مصطفى عبد الغني الذي كشف عن مفاجأة أخرى، بقوله إن جهاز أشعة الـ"أكس راي" بالمستشفى غير صالح للاستخدام.

ويرجع ذلك، بحسب عبدالغني، إلى افتقاد الجهاز لـ"محدد أشعة"، لتركيز الأشعة على الجزء المراد تصويره من جسم المريض، ما يجعل الإشعاعات تنتشر في محيط أوسع، ويتعرض لها المرضى والفنيين.

هذه علامة استفهام أخرى، فاللائحة تنص صراحة في مادتها رقم 42 على أنه "يجب إجراء معايرة لأجهزة الأشعة المستخدمة للعلاج تحت جميع الظروف التي يمكن أن يستخدم فيها الجهاز، وذلك بواسطة مقياس للجرعات وتحفظ نتيجة هذه المعايرة في سجل بالمؤسسة التي يستخدم فيها الجهاز ويجب التأكد من صحة هذه القياسات دورياً كل ثلاثة أشهر وكلما دعت الضرورة إلى ذلك".

ومن طنطا إلى المحلة (دلتا مصر)، حيث مستشفى قرية دمرو بالمحلة، انتظرت دوري داخل المستشفى لإجراء أشعة على أصابع اليد.

وخلال فترة انتظاري، لاحظت تطابق العديد من المخالفات التي وجدتها داخل المستشفيات الأخرى، الشئ الجديد الذي لاحظته هو الاقتراب المبالغ فيه لوحدة التحكم من جهاز الأشعة، كما أن النوافذ كلها مصنوعة من خشب يمكنه أن يسرب أشعة إلى الحجرة المجاورة.. التقطت سريعًا صورة أثناء تنظيم الفني خروج إحدى المريضات ودخول مريض آخر.

اقتراب وحدة التحكم من جهاز الأشعة يخالف "قواعد الوقاية من الأشعة" التي تعرف بمبادئ ALARA، واشتمل البند الثاني من المبادئ الموضوعة لـ"تقليل التعرض للإشعاع الخارجي" على أنه يجب توفير مسافة كافية بين جهاز الأشعة ووحدة التحكم، لا تقل عن مترين.

حصل مستشفى الحسين الجامعي، وسط القاهرة، على ترخيص قسم الأشعة بها في شهر 6 الماضي "بعد قيامه بتجديد وتطوير قسم الأشعة"، ووفقًا لما ورد إلىّ من أحد المصادر، فإن المستشفى بدأ يأخذ إجراءات جدية في تطوير قسم الأشعة، بعد تعرض أحد الفنيين الذين تم الإشارة لهم في بداية التحقيق للإصابة بسرطان الدم.

يقول الدكتور أحمد سالم، عميد كلية الطب جامعة الأزهر، إن مستشفى الحسين أخذ بملاحظات الإدارة العامة للأشعة التي قامت بالتفتيش مرتين قبل منح الترخيص الذي تبلغ مدة صلاحيته ثلاث سنوات، وبناءً عليه تم تجديد غرف الأشعة وطورت الأجهزة.

حرصت من خلال كلامي مع عميد كلية الطب على التركيز على مدى الالتزام بتوفير معدات الوقاية لفني الأشعة، فأجاب أن "المستشفى يوفر معدات الوقاية، وإدارة السلامة والصحة المهنية تفتش على الفنيين يوميًا لضمان ارتدائهم معدات الوقاية، وهذا بالتضافر مع تنظيم دورات تثقيفة لهم عن السلامة والصحة المهنية، كما أنه يتم إجراء تحليل صورة الدم لهم كل ستة أشهر".

تجولت داخل مستشفى الحسين لرؤية أوضاع الفنيين على الطبيعة، واتضح أن حالة الأجهزة والغرف جيدة، إلا أن الفنيين لم يكونوا يرتدون أي وسائل وقاية.

طلبت من الفنيين الموجودين الإجابة عن أسئلة الاستبيان، شارك 8 فنيين، وجاءت إجابتهم كالتالي:

7فنيين أجابوا بـ"لا" على ارتدائهم مريلة رصاص أو واقي رقبة مقابل فني أجاب بـ"نعم".

6 فنيين نفوا توزيع "فيلم بادج" عليهم مقابل 2، ووهما بدورهما نفا إجراء أي قراءة لـ"الفيلم".

3 فقط من أجريت لهم تحاليل طبية، مقابل 5. أجاب 4 فنيين بـ"نعم" على إجراء تفتيش على القسم، و4 نفوا ذلك. وجاء في خانة ملاحظات الاستبيان.. "التفتيش مرة كل 10 سنوات".

حملت كل ما وجدته من مخالفات وذهبت به إلى وزارة الصحة، وقدمت طلبًا للتحدث مع الدكتورة عبير المغازي، مساعد وزير الصحة للأشعة. وبعد أسبوع تلقيت اتصالًا بتحديد ميعاد مع الدكتورة سهير سعد، كبير الإخصائيين والمفتشين بوزارة الصحة، وحرصت أن أؤكد للمسئولين هناك أن ما ستقوله يمثل رأي الوزارة في التحقيق.

تمثلت المفاجأة في تأكيد سهير على أن "كل أقسام الأشعة بالمستشفيات الحكومية مرخصة"، جاء هذا بعد سؤالي خاصة عن ترخيص مستشفى أبوالريش المنيرة الجامعي، مشيرة إلى أنه طالما أن المستشفى مرخص فلا مجال لوجود مخالفات بها.

وهو ما ينفيه نقيب العلوم الصحية، أحمد الدبيكي، بقوله إن "أقسام الأشعة في أكبر المستشفيات الحكومية غير مرخصة، والمرخص توجد به مخالفات، وهو ما خاطبنا به الوزارة ولم ترد".

وتضيف كبيرة الإخصائيين أن كل ثلاث سنوات تجدد التراخيص، ويقوم المفتشون بالتفتيش على القسم للتأكد من الالتزام بالمعايير وشروط الوقاية المنصوص عليها.

وتوضح أن مفتشي المكتب التنفيذي يتواجدون في أربع مناطق، هي القاهرة وإسكندرية (شمال مصر) وأسيوط (جنوب مصر) ووسط الدلتا، ويقومون بالتفتيش على مختلف مستشفيات ومراكز الأشعة على مستوى الجمهورية.

وبالسؤال عن عدد الفنيين، وجدت أن عددهم 22 فنيًا فقط، علمًا أن هناك في مصر، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 632 مستشفى حكومي و937 مستشفى خاص، بجانب آلاف من المراكز الخاصة.

وهذا يعني أن مفتش واحد لكل 71 مستشفى تقريبًا، وهو عدد وصفته سهير بـ"الكافي"، بينما اعترض عليه نقيب العلوم الصحية أحمد الدبيكي واصفًا إياه بـ"الضعيف" وأن التفتيش الفعال يحتاج "جيشا من المفتشين".

وعن المخالفات التي اكتشفناها خلال التحقيق، تجيب مساعد وزير الصحة للأشعة أنه يجب التفرقة بين المخالفة التي تستدعي كتابة توصيات، ومخالفات تستدعي وقف الترخيص، فغلق الأبواب أثناء التصوير، أو عدم ترصيص الحاجز الوقائي أو عدم ارتداء الفنيين لمعدات الوقاية مخالفات تستدعي توصيات، أما الحالة الوحيدة لوقف العمل داخل أقسام الأشعة إذا ما ثبت أن هناك تسريبا إشعاعيا أكثر من المسموح به.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل