المحتوى الرئيسى

اللغة والإبداع

12/24 21:15

نحن نفكر باللغة، ونعبر بالفكر كما قال دي سوسير، فعملية التفكير لا تتم خارج إطار اللغة.

هناك نوعان من الأطروحات التي تتناول علاقة اللغة بالفكر، فتلك التي تعتبر اللغة والفكر متطابقين، وتلك التي تعتبرهما منفصلين، أعتقد أنه لا تناقض بينهما، فالاتجاه الذي يرى أن اللغة والفكر منفصلان ينظر إلى أن ما بداخلنا هو أكبر مما نستطيع أن نعبر عنه باللغة المنطوقة؛ حيث يرى برغسون أننا نملك أفكاراً أكثر مما نملك أصواتاً، وأن المتحدث حينما يتوقف لحظة حتى يعثر على العبارة المناسبة لأفكاره هو دليل عجز اللغة عن مواكبة الفكر، ومن هذا المنظور اعتبر أن اللغة مستقلة عن الفكر، وفي رأيي فهذا الاتجاه فلسفي أكثر منه عملياً، ويمكننا الرد عليه بأن عملية التفكير لا تتم خارج اللغة، وهذا ما يؤكده الاتجاه الثاني بأن اللغة والفكر متطابقان، وأنه بدون اللغة لا نستطيع التفكير، كما يعبر عن ذلك جون لوك بقوله: اللغة علامات حسية معينة تدل على الأفكار الموجودة بداخلنا، حتى إن أرسطو نفسه قال: ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية، وفي الدراسات الحديثة ما يثبت أن كل لغة تشكل فكر أهلها بطريقة معينة، اعتماداً على ما تملكه من أنماط ورموز ومعجم.

معرفة اللغة المعينة "اللسان" يساعد على توليد الأفكار وتطويرها، وبالتالي فتطوير العلم، أو بالأحرى فهمه ابتداء، يتوقف على مدى الكفاءة اللغوية، وهنا تبرز معضلة التأخر العلمي والحضاري، والسبب تدريس معظم العلوم التجريبية في جامعاتنا العربية باللغات الأجنبية، يقول الدكتور عثمان سعدى في مقال، حديث له: "إن اكتساب علم العصر يمر بثلاث مراحل: مرحلة المضغ، ومرحلة الهضم، ومرحلة التمثّل، يمكن لأمة أن تمضغ علوم عصرها بلغة أجنبية، يمكن لها أن تمضغ نصف الهضم، وليس الهضم كله بلغة أجنبية، لكن لا يمكن أن تتمثّل علم عصرها إلا باللغة القومية، والتمثّل هو الذي يولّد الإبداع. كل البلدان التي نجحت بها تنمية اقتصادية واجتماعية تم ذلك بلغتها القومية، مثل: الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وغيرها".

فتعريب العلوم وسيلة التقدم، وهذا يبين دور الجامعات ومجمع اللغة العربية تحديداً، ويكشف في الوقت ذاته انحسار دوره، وكما ذكر الدكتور رمضان عبد التواب أن المجمع لا يجيز كلمة إلا بعد انتشارها وشهرتها.

ومثال ذلك العلوم الإسلامية لم يبدع فيها في بيئة أجنبية فعلى مدار التاريخ الإسلامي كان النمو والازدهار للعلوم الإسلامية ينحصر في البيئة التي تنطق بالعربية، والتي هي في الغالب كل البلاد التي دخلت في الإسلام في فتراته الأولى، بسبب أن الفاتحين العرب عملوا أول شيء على تعليم العربية لهؤلاء الأعاجم، ورغبة الأعاجم أنفسهم في تعلم العربية شوقاً لمعرفة الدين الجديد، فصاروا بمثابة أهل اللغة أنفسهم، ونشأ بالتالي جيل أبنائهم الذي لا يعرف سوى العربية لغة، حتى إننا نرى في القرنين الأولين للإسلام علماء مبدعين كانوا أئمة في العلوم، مع أن أصولهم لم تكن عربية، ويكفي أن نعرف أسماء كالبخاري ومسلم وأبي حنيفة وسيبويه وغيرهم لم تكن أصولهم عربية، فلما عاش سيبويه في البيئة العربية استطاع أن يؤلف كتاباً في قواعد تلك اللغة لم يسبقه إليه أهل اللغة أنفسهم، والسبب الرئيسي هو أن القرآن عربي، ولا بد لفهمه من إجادة العربية، فاللغة شرط في الفهم ابتداء، ثم هي شرط في الاجتهاد والإبداع؛ لذا فلم نجد في البيئات المسلمة غير الناطقة بالعربية إبداعاً في الجانب الديني بسبب حاجز اللغة، ففي الفترة العثمانية لم تكن هناك أمور ذات بال في الشأن الإسلامي، ليس فقط بسبب الجهل باللغة، بل تبنى العثمانيون نشر لغتهم التركية في الدول العربية، بل على العكس وجدنا تعصباً نشطاً في تلك الفترة، وعطل الاجتهاد، ونشب الصراع بين المذاهب الفقهية، كل ذلك بسبب حاجز اللغة، فما سمعنا عن غلق باب الاجتهاد وتلاوة آراء الفقهاء كالقرآن ومحاربة الجديد والتمذهب الذي يحرم زواج الحنفي من المالكية ونحوها إلا في تلك العصور.

نعم كانت اللغة العربية جزءاً من المكون الثقافي العثماني، وهذا طبيعي بسبب الدين، لكنها لم تتجاوز حفظ القرآن والحديث ومعرفتها للترجمة إلى العثمانية، فكانت بمثابة لغة ثانية، ربما كانت لغة تعليم تتصدر التدريس في المدارس، وذلك لأن العلوم كانت عربية، مثلما يحدث الآن من تعليم العلوم التجريبية باللغات الأجنبية في الجامعات لا أكثر، لكن اللغة السائدة كانت التركية، بل ودأبت الدولة العثمانية على نشرها في البلدان العربية، وبالتالي من الصعوبة بمكان اعتبار العربية لغة تفكير عند الأتراك العثمانيين، وانعكس ذلك على البلدان العربية نفسها، ففرض التركية كلغة الحكومة الرسمية وجمودهم على أنماط معينة أثر بالتالي على البلدان العربية، وكما يقال في المثل الناس على دين ملوكهم، فضلاً عن أن النظام التعليمي في الدولة العثمانية أنشئ لخدمة الدولة وتخريج عاملين في المؤسسات القضائية والدينية كالقضاة والمدرسين والمفتين والعسكريين وموظفي السراي والدواوين.

وما يحدث اليوم حيث كل العلوم العملية كالطب والهندسة وغيرها تدرس باللغات الأجنبية، وبالتالي فتواجه الطالب صعوبات وعقبات كثيرة، أولاها الفهم الصحيح أو الدقيق وليس مجمل الفهم، بل معرفة المقصود تحديداً دون أي تشويش، ثم هضم المادة، ثم الإبداع فيها باللغة الأجنبية، وهذا لا يتاح لمعظم دارسي تلك العلوم بسبب البيئة وصعوبة نقل الآلاف من الطلبة لبيئات أجنبية لممارسة اللغة، ودليله أننا نرى تفوقاً ملحوظاً لعلماء العرب في العلوم التجريبية الذين ذهبوا وعاشوا في الغرب، فاستطاعوا أن يمارسوا اللغة حتى أتقنوها، وعرفوا معانيها الدقيقة، وبالتالي أتى الإبداع والتفوق.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل