المحتوى الرئيسى

وداعاً الفنان جميل شفيق "مؤنسن" الطبيعة

12/24 16:24

تفاجئ الوسط التشكيلي أمس بخبر وفاة الفنان جميل شفيق، أحد أبرز فناني مصر، الذي أثرى الساحة الفنية بعدد كبير من أعماله سواء كانت في فن الرسم أو النحت او التصوير بالألوان المائية والأكريليك وغيرها.

وقد توفي الفنان “الجميل”، كما اطلق عليه الفنانين المصريين، أمس أثناء زيارته لملتقى الأقصر الدولي لفن التصوير؛ حيث كان يحل ضيفاً عليه ممارساً إبداعه الفني الذي حقق فيه نجاحا ملحوظا وبصمة خاصة في الحركة التشكيلية المصرية، كما انه أقام آخر معرض له الشهر الماضي مع ثلاثة من الفنانين في جاليري “بيكاسو إيست” بعنوان “رباعيات مصرية”.

قدم شفيق العام الماضي في “جاليري مصر” نحتا تصويريا على الخشب في تجربة رائعة جمع فيها بين الرسم والنحت، ولم تكن تلك التجربة الأولى للفنان في هذا المعرض، بل قدم تلك الفكرة في ثلاثة معارض أخرى سابقة، وبنفس العنوان “طرح بحر”؛ فكانت التجربة الأولى في مركز الجزيرة للفنون عام 1999، وأخرى في قاعة “أكسترا” عام 2008؛ حيث عمل وقتها الفنان على هذه الفكرة ثم قام بتطويرها، وتناولها بشكل مختلف في كل معرض.

كان الناقد الكبير محمود بقشيش أول من قال عن هذه التجربة للفنان أنها فن جديد يسمى “نحوير” أي بين النحت والتصوير. واستطاع “جميل” أن يقدم  نحتاً كاملاً ذات “الفورم” الكامل، وليست كما تعودنا عليه كمصور أو كرسام، أو محاولا المزج بين النحت والتصوير؛ حيث كون “الفورم” بحسب شكل الخشب الذي كان يستخدمه، فهو يكيفه تبعاً لموضوعه الذي يتناوله؛ فالفنان يعثر على الخشب الذي يقوم بنحته من البحر، والذي ينثره البحر على الشاطئ، فيجففه لمدة عام كامل في الشمس حتى يجف تماما من المياه ويستطيع نحته، كما كان الفنان يستخدم أحيانا خشب السرسوع. ومن مميزات خشب البحر تلك النتوءات والآثار التي تطبع على سطحه من تراكمات الزمن، كالسوس والقواقع العلاقة به وغيرها؛ حيث يتم تعطينه في البحر مما يعطي تأثيرا جميلا من ملمس ولون، وخطوطه المتنوعة كالمنحنية والمتعرجة وغيرها التي تعطي شكلا وإحساسا مبهرا للخشب.

تناول الفنان في أعماله موضوعات مرتبطة بالبيئة والأشخاص من حوله، فطبيعة الفنان السكندرية جعلته يتعلق في بعض لوحاته بالسمكة والبحر الذي نراهما في موضوعاته في كل عمل منهم في تكوين مختلف يحكم حبكته، كما تناول الفنان الأسرة المصرية سواء في الريف أو الصيادين وخلافه بأساليب مختلفة، فتارة نجدها أبيض وأسود بالقلم، وتارة أخرى بأصابع الفحم، وغيرها بالخشب؛ ولذلك فموضوعاته لم تكن محددة بقدر العالم الذي عاش فيه وأعطاه إيحاءات ومخزون معين، فمثلا في لوحة السيدات اللاتي يجلسن بالسمك استوحاها من “برج البرلس”؛ حيث وجد السيدات هن من يبيعن السمك وليست الرجال؛ ولذلك استرجع الفنان ذلك المشهد الذي رآه واحتفظت به ذاكرته كي يعبر عنه في اللوحة، فالفنان يستغل مخزونه من الطبيعة ليخرج بشكل غير مباشر على أعماله.

واشتهر جميل شفيق بلوحاته الرسم التي استخدم فيها الحبر الشيني “الاتشينج” والذي ميزه طيلة مراحله الفنية السابقة عن تناوله فن النحت، والذي استطاع خلاله أن يوصل للمتلقي نفس تأثير تلك اللوحات ولكن بالفحم، ففور تقع عين المتلقي على اللوحة يخدع في الوهلة الأولى ويظن أن الأعمال بالحبر الشيني، إلا أنه يفاجئ بعد النظر إليها جيدا إنها بالفحم ولكن لها نفس التأثير والإحساس الذي يتميز به الفنان. فالفنان اضطر لأن يترك تلك الخامة “الحبر الشيني” في أعوامه الأخيره لأنه لم يكن لديه القدرة البصرية التي كان يتمتع بها سابقا لاستخدام تلك الخامة فعوض عنها باستخدام الفحم، مستخدما نفس العالم وموضوعاته بتناول مختلف.

وكانت أعماله في مجال الرسم بالأبيض والأسود لها مذاق خاص؛ حيث يمتلك أسلوبا مميزا في تناول هذه الأعمال، وهو الملمس الذي يظهر في جميع لوحاته التي يستخدم فيها الحبر الشيني، ويتحكم به ليبرز موضوعه فيما بين الغامق والفاتح.

كان الفنان يترك نفسه ليعمل في الخامة التي تستهويه في وقت معين، فقد التحق بدورة حفر على الخشب لكنه لم يطبع أعماله الحفر منذ أكثر من عشر سنوات، وكان السبب في بعده عن هذا المجال أنه أحب خامة الفحم فترك الحفر، ثم استهواه النحت فترك الفحم.

تناول “شفيق” الحيوانات في أعماله برؤية مختلفة أظهرت جمال القطع الخشبية التي استخدمها في النحت، فنجد البقرة والغزالة والمعزة والحمار وبعض الطيور، والسمكة، كما تناول الأشخاص، وقدم الراقصة والعازف. ومنهم أشخاص استوحاهم من الفن الفرعوني يحملون السمك فوق رؤسهم، وغيرهم يظهرون بشكل ثنائي كأسرة مكونة من رجل وامرأة يحملان سمكة. 

وفي بعض المنحوتات رسم الفنان بورتريهاته على تلك القطع الصغيرة من الخشب، لتذكرنا في بعضها بفن الأيقونات ووجوه الفيوم ذات العيون الواسعة، فهو ينحت عشرات الوجوه التي يعبر كل منها عن حالة معينة، ويترك فيها جميعا ملمس الخشب الطبيعي على سجيته ليعطي تأثيرا ظاهرا على الوجوه، فتبدو مناطق معينة من الوجه قاتمة اللون، وغيرها فاتحة اللون، كما تظهر ملامسه في بعض الأحيان وكأنها تهشيرات القلم الرصاص الذي يظلل به الفنان الوجوه، لتعكس أسلوبه الذي يتبعه في الرسم، كما يترك الفنان قطع الخشب كما هي بطبيعتها، فأطرافها متعرجة لم تكن متساوية في بعض الأحيان، وفي أحيانا أخرى تكون شبة مستطيلة، أو شبة دائرية، بها انحناءات، وقطع صغيرة تظهر وكأن الفنان يأخذ مقاطع معينة من الوجه ليصوره.

صور الحصان في عدة أعمال على علاقة وطيدة بالإنسان الذي يظهر معه في نفس العمل وكأنهما صديقان يتناجيان، يتراقصان أحيانا، ويلعبان في أحيان أخرى. وقد فرغ الفنان في بعض أعماله الخلفيات؛ لتظل الأشكال وحدها هي العمل الأساسي، وما حولها هو خلفية المكان.

في مجمل أعماله يشعر المتلقي بمدى إحساسه بطبيعة الأنثى الحالمة، وينعكس وجدانه في الإحساس بسحر حواء، وكأنها أصل الجمال، وتمثل فتاه أحلامه، وتثير هذه الأعمال تساؤلا عند المتلقي، من خلال التطور والتنوع المستمر في إبداعات الفنان جميل شفيق، وتناوله الجريء في استخدام الخامات المختلفة، والتي قد تبدو في الوهلة الأولى وكأنها متناقضة تماما، إلا أنه يصالح فيما بينها بأسلوبه المميز الذي يعكس إحساسه الصادق بالعمل.

والجميل في ممارسة “جميل” في الفن، أنه يعتزل المجتمع تماما، ويتفرغ للخيال والإبداع على شاطئ البحر؛ حيث الأفق البعيد، الذي يثير الخيال، ويصله بأبعاد لا نهائية.

قال الفنان في حوار سابق له مع ”محيط”: “خامة الخشب خامة حنونة.. ليست كخامات النحت الأخرى.. مريحة.. بها إنسانية، وهذا الانطباع الأساسي عند الجمهور، وأنا عشقي على الدوام أنسنة الأشياء، فأعبر عن الحصان، السمكة، والأشياء التي يكون بينها وبين البشر ترابط”.

جميل شفيق لم يمارس الفن وحسب، ولكنه اعتبر الفن مسألة ” مزاج ” ومتعة تشكل غذاء لوجدانه وتحقق له بهجة الحياة؛ ولذلك مارس أنواعا متنوعة من الفنون، جميعها تحمل رؤيته وبصمته الخاصة التي لا تنفصل عن شخصيته واسلوبه واحساسه بالعمل في كل منهم.

قال “شفيق” عن لوحاته “الأبيض والأسود”: “لوحاتي الأبيض والأسود تأخذ وقتا طويلا جدا في عملها، فلو كنت ارسم بالفرشاة لأنتجت عشرة أعمال في الوقت الذي استغرقه في إبداع لوحة واحدة أبيض وأسود، فأنا شخصيا استمتع

بالعمل، وحتى الآن فأنا اعتبر نفسي فنانا هاويا ولم احترف، وهذا ما يجعلني اتنقل من اتجاه لآخر”.

أما عن تجربه الخشب فقال الفنان: ” تجربة الخشب جاءت لي عندما كنت امشي على البحر مرات عديدة وأجد قطع أو ألواح خشبية ذات أشكال جميلة، فكنت

احتفظ بها وأضعها في حقيبتي وأحملها للمنزل، وظللت اجمع في الخشب قرابة عشرة أعوام. كان وقتها يعجبني ملمس الخشب وشكله والفورم الخاص به، ولكني لم اكن اعرف ماذا سأفعل به، فأنا عندي بيتا على البحر وأجلس أمامه في الساحل لفترات طويلة . بدأت وقتها أصنع بابا للبيت من خشب البحر، وكذلك الأرفف ومناضد المنزل، وتبقت قطع صغيرة من الخشب، فبدأت ألعب بها، واحدث نفسي، هذا يصلح كي يكون بورتريها، وهذا فورم لشخص .

قمت بالرسم على الخشب وبدأت آخذ أجزاء من الخشب لأصنع منه بروازا للوحة ليكون أيضا من خشب البحر، فهنا وجدت هذا التشكيل جيد من تركيبات الخشب، فقلت لنفسي أنني يمكن أن أضع فوق هذا التشكيل شمعة وقمت بتوظيفها،

فأدخلت الشمعدان، واللوحة، والبرواز، واستخدمت قطع متنوعة من الخشب منها الفاتح والقاتم أو الذي يبدو فيه السوس، فكلها أشياء تكمل بعضها البعض، وجميعها خامات طبيعية لم تكن تقليدية. أما عن الخلفيات فهي بطانات

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل