المحتوى الرئيسى

زوربا الحلبي!

12/23 01:33

الرحلة الأولى والأخيرة في القطار من حلب إلى دمشق كانت مع بداية الحرب في سوريا عام 2011، في الذهاب إلى الشهباء لم يتسنَّ لي تحقيق الحلم، لكن في العودة صممّتُ أن أستقل قطاراً صدمني بالحداثة! استذكرت مقولة أدونيس: «الوفرة لا تعني شيئاً». أجل هذه حقيقة لامستها، فالرخاء أحياناً أو مزيداً من الراحة والتدفئة والأثاث الجديد، لن تشعر بها إطلاقاً إن لم تجلس على مقاعد قديمة ويلسعك برد المحطات الرخامية في تلك المدينة. أمنيتي كانت محددة في قطار عتيق و «فركونات» سكنها الصدأ المعبّأ بأنفاس مَن ركبوا قطار الشمال السوري. أعلنتْ الصافرة مغادرة حاضرة «سيف الدولة» والعودة بي إلى رتابة الحياة اليومية والروتين القاتل، كان لا بدّ لي في البداية أن أُخرِجَ كتابي من الحقيبة حتى أبتعد عن التفكير والحديث مع أي متطفل يود أن يبدد الوقت في رحلته مع امرأة وحيدة تثير رومانسيات ممجوجة، وفعلاً نجحتُ في ذلك حتى شاهدتُ شاباً يتلمس طريقه بيديه بين الركاب النائمين خائفاً من أن يتعثر.

كان كفيفاً، فحاولتُ مساعدته ملتقطةً يده لأوصله إلى أقرب مقعد في الطرف الموازي لمكان جلوسي. شكرني الشاب بدماثة واعتذر، وما كان مني إلا أن عدتُ إلى مكاني أفكر بصعوبة فقدان البصر على رجل في ريعان شبابه لم أستطع إلا أن أتضامن معه وأحزن لأجل مصابه، لكن ما جدوى التضامن وأي شيء أحققه له في هذا التعاطف العابر؟ عادةً نتأثر بأي مشهد يوقظ إنسانيتنا لبضع لحظات، لكننا سرعان ما نعود إلى وقاحتنا في التعايش مع «جيفة الحياة». التفتُّ صوبَه فوجدتُه يرنو إليّ بعينيه الخامدتين، أو ربما ظننتُ ذلك، فالعميان كما عرفتُ عنهم في «العمى» (رواية جوزيه ساراماغو الرائعة)، غالباً ما ينظرون في نقطة وهمٍّ تبدو لنا نحن معشر المبصرين نظرةً طبيعية، لكن الشاب الأعمى أطال النظر نحوي من تحت عدستيه الملوّنتين، كانت حركة عينيه مطفأة كأن الغبار غطاها منذ سنوات. للوهلة الأولى كنتُ سأطلب منه أن يشيح نظره عني، لكن ماذا سيفعل المسكين؟ غالباً كان يوجّه رأسه صوب الممرّ لالتقاط أية حركة. نظرتُ مجدداً إليه حتى خجلتُ من نفسي... اعتقدتُ أنني أنا هي مَن تسترق النظر، فعدتُ إلى الكتاب المسرحي الذي اشتريته من أرصفة وبسطات المدينة قبل أن أغادر حلب قافلةً إلى العاصمة في هذا القطار العجيب.

«سبعة أصوات خشنة» لوليد إخلاصي كان عنوان كتابي، ومع أنه لا تستهويني مطالعة نصوص المسرحيات عادةً، إلا أن العنوان شدّني، خاصة أن المؤلف حلبي صميم، وقد عرفتُ وقتها عنه من صاحب بسطة الكتب، أكثر مما عرفتُ عنه من خلال مطالعتي أو أثناء مرحلة التعليم. كنت أودّ القراءة بصوتٍ عالٍ حتى أُبددَ وحشة المكان، وصوت زعيق عجلات القطار على السكة الحديدية، هذا الصوت الذي لاحظتُ أنه كان يزعج ذلك الشاب الضرير، كأنني لكن أنا هي من أخذته لنحو الجهة المقابلة من الحلم. «عطر امرأة» حضر أيضاً مشاهد منه، فالفيلم ما يزال راسخاً في مخيلتي أنا الشابة التي تحبّ قصص الحب في الأفلام، لا سيما براعة آل باتشينو في الشريط بلعب دور أجمل رجل أعمى في العالم.

هل هي صدفة أو توارد أفكار، ففي اللحظة ذاتها التي كنتُ أفكر أن أقرأ له؛ حاول الشاب النهوض فتعثر، ظننتُ أنه كان يريد الذهاب إلى «مقهى القطار» لتناول شيء ساخن، فساعدتُه على الوقوف. شكرني... كان لطيفاً جداً.. يا الله حين سألني وقتها بصوته العريض الحنون: «هل تسمحين لي أن أُحضر لكِ كوب شايٍ ساخن، أم تفضلين فنجان قهوة»؟

خجلتُ من نفسي في تلك الليلة القطارية، الشاب الضرير حاول أن يقدّم لي أي شيء، شعرتُ وكأنه كان يريد أن يردَّ لي الجميل! وبينما لم يخطر ببالي أن أسأله حتى إن كان يحتاج أي شيء، أمسكته من يده وسرتُ به نحو العربة الخاصة بتقديم المشروبات. جلسنا متقابلين تماماً، لحظات مرّت فيها رياح السرعة التي تنقلنا أنا وهذا الرجل إلى آخر محطة في العالم، لا ليست دمشق وجهتنا، للحظة شعرتُ أن ما من أحدٍ معنا في هذا القطار الهائج، شعرتُ أنني معه وحدنا في قطار بلا سائق، بلا محطات، وبلا مراقبي حركة قطارات، لقد خُيّل إليّ أن كل قطارات العالم هي الآن مثل هذا القطار، بلا وجهة، وعلى متنها رجال عميان ونساء عاطفيات!

المهم طلبتُ كوبين من الشاي بعد لحظاتي الأدبية هذه، لكن لم يكن في البوفيه ولا نوع من المشروبات التي تُقدّم، باستثناء عبوات الماء.. شاهدتُ وقتها على الرفّ أكياس «الشيبس» وعلب مناديل ورقية صغيرة، فاستهجنت فكرة أن يكون «البوفيه» فارغاً من كل شيء، حتى عامل البوفيه المسكين اعتذر لي عن عدم وجود أي شيء يقدّمه للزبائن تعيسي الحظ مثلي! حينها فقط أدركتُ لماذا لا يوجد أحد في تلك المقصورة غيرنا!

فاجأني عامل المقهى وعاد بفنجان قهوة ساخن، لكنه لم يقدّم للكفيف أي شيء، عاتبتُه بلطف مخبرةً أياه بأني طلبتُ كوبين من الشاي لا واحد، فأردف واعتذر عن وجود أي نوع من المشروبات، وحين سألته عن كوب الفنجان اليتيم الذي أمامي، قال: «آنستي البوفيه لم يُجهّز بعد، هذا من غير مقابل.. اعتبريه ضيافة! هو من قهوتي الخاصة بي حتى لا تقولي عن أهل حلب أنهم بخلاء»! لكنني طلبتُ منه فنجاناً آخر ضيافة للرجل الأعمى، فأردف ثانيةً: «هذا حلبي من زبائننا، ولا يشرب إلا الشاي»! لم أفهم شيء؟

شكرتُه وسألتُ رفيق السفر أن يأخذ فنجاني، لكنه أيضاً رفض، وأكّد أنه لا يشرب إلا الشاي، فالقهوة التي شربها مرة واحدة كلّفته حياته! زاد الطين بلةً بجوابه هذا.

صمتُّ قليلاً، واعتقدتُ أن القهوة سبب فقدان بصره، ودفعة واحدة شربتُ فنجاني، كأنني أردتُ أن أفقد بصري أنا الأخرى، وأتساوى مع هذا الغريب، أو أن أنتهي من هذه الغرابة التي أعجز عن وصفها حتى هذه اللحظة. وما هي سوى لحظات حتى التقط الشاب الضرير فنجاني وكأنه مبصر. سألني إن كنتُ أرغب بأن يقرأ لي بختي؟ ابتسمتُ حين اعتقدتُ أنه يحاول أن يتجاوز عجزه بكوميديا سوداء اختلقها كي يخرجني من تلك الحالة الغريبة، بصراحة لم أشأ أن أُحرجه وأرفض، أكون بذلك قد أكّدتُ على نقص ما ربما يشعر به إزاء مبصرةٍ عمياء مثلي، فوافقت أن يقرأ طالعي طالما أن الأمر إضاعة للوقت فقط، لكنه فعلاً قلب الفنجان على صحنه، وبعد أن حرّكه حركةً دائريةً من دون أن ينسكب من الفنجان نقطة واحدة، أدركتُ لحظتها أنه لا يمزح وأنه ماهر. طلبتُ منه أن يخلع نظارتيه السوداوين، فلم يمانع خلعهما، لكنه لم ينظر صوبي أبداً، بل كان يركّز على خطوط القهوة في قعر فنجاني فقط، وما هي إلا دقائق قليلة حتى بدأ يُخرج من الفنجان عفاريت وحساداً وأفاعٍي وساحرات ووصيفات وجنّ! أخبرني عن أخي الذي مات طفلاً، ولقد صدمني بأن ذكرني بأمور حتى أنا شخصياً لا أذكرها في حياتي. إذاً الكفيف لا يقرأ الطالع وحسب، بل شرع يسرد أحداثاً ووقائع مهمة من حياتي، وحتى تكتمل حيرتي وصدمتي بهذه الشخصية البورخيسية، صار يغني بهدوء: (إيدوا شمعة يا أحبّة ونورولي)! يا سلام! لم يعُد ينقصني سوى أغنية (الشيخ إمام) حتى تكتمل القصة.

كنت قد سمعت أن المغرب شهيرة بالعرّافين، لكن كيف يقرأ وهو لا يبصر، سألته أين تعلّم هذا الفن؟ فقال دون زيادة: (في القطار)! اعتقدتُ بدايةً أنه يمزح، فضحكتُ، أكّد أنه يستقل القطارات منذ كان عمره عشر سنوات، ويقرأ الفناجين للمسافرين. بدهشة كنت أسمع تفاصيل قصته، وأنظر في عيون الرجل الذي قدّم لي القهوة، فكان يومئ برأسه كتأكيد على صدق حديث الأعمى. لقد عاش هذا الشاب في القطار منذ كان طفلاً وكبُر على الطرقات حتى أصبح رجلاً.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل