المحتوى الرئيسى

الجورنالجى وصاحبة العصمة

12/19 01:17

«هيكل ــ أم كلثوم» علاقة خاصة مع الفلاحة الأصيلة لم يكتب عنها الأستاذ كثيرًا

الأستاذ يقارن بين كوكب الشرق وموسيقار الأجيال: كانت فلاحة مصرية من عمق القرية.. وعبدالوهاب قاهرى من قاع الحارة

بعد خروجى من «الأهرام» اتصلت بى لتشعرنى بوقوفها إلى جانبى.. ولم أسمع صوت عبدالوهاب إلا بعد إعلان ترشحى لمنصب نائب رئيس الوزراء

سألت رئيس الوزراء عن أحوال البلد.. وبعدها قالت ساخرة: الفاتحة لله إن ربنا يصلح الأحوال

أم كلثوم تقيم حفلاً خاصًا لهيكل بمناسبة زواجه.. وتطلب منه مغادرة المسرح مبكرًا: «أنا عارفاك بتتعذب يا ولداه»

هيكل يسأل أم كلثوم: ما الذى قلتيه أمام قبر النبى.. وكوكب الشرق ترد: ولا كلمة وبعد ما خرجت رددت: «ولما أشوفك يروح منى الكلام وأنساه»

لم تنجح السياسة ولا الصحافة فى احتلال كامل فكر ووجدان «الأستاذ»، ولم تتمكن الأحداث الجسام التى عاصرها، ولا الأحداث المتلاحقة التى عايشها، وكان راصدا لها تارة، ومشاركا فى صنعها تارة أخرى فى احتلال ذلك الحيز من روحه، والذى احتلته الموسيقى كمكون رئيسى لثقافته وتكوينه.

فمحمد حسنين هيكل، الذى جذبته «حلاوة موزارت»، و«بناء بيتهوفن»، وهام مع موسيقى «هايدن» الذى اعتبره «سيد الكل»؛ كان مولعا منذ شبابه بالموسيقى الكلاسيكية، والتى كان يتابعها ويحرص على السفر كل عام إلى فيينا للاستماع إلى ما يحب فى مهرجان الموسيقى الكلاسيكية السنوى. غير أن افتنان الأستاذ بهذا الشكل «الارستقراطى من الموسيقى» لم يحل أبدا دون أن يكون بينه وبين كوكب الشرق، سيد الغناء العربى أم كلثوم «غرام»، على حد وصفه فى أحد حواراته التليفزيونية.

الغريب أن هيكل الذى وصف علاقته بصاحبة العصمة «سيدة الغناء العربى قائلا: «أنا عندى غرام معاها كصديق»، لم يكتب عنها بالقدر الذى يتناسب مع حجم علاقتهما الطويلة والممتدة والعميقة، اللهم إلا القدر النذير».

«باستثناء إشارات عابرة لـ«أم كلثوم» فى بعض ما كتب، خاصة فى سنواته الأولى، أو فيما روى على شاشات الفضائيات؛ فإنه لم يكتب عنها بقدر ما اقترب منها.. إذا جاز لى أن أحدد فنانا باسمه هو الأقرب إليه فإنها «أم كلثوم»، ولا أحد آخر قبلها.. وقفت بجواره حين خذله آخرون، وفيها «شهامة الريف المصرى، حسب وصفه..

هذا ما كتبه الصحفى الكبير ــ المقرب من هيكل ــ عبدالله السناوى، واصفا تلك العلاقة الخاصة (جدا) التى جمعت الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، وكوكب الشرق، ناقلا عن أستاذه تلك الشهادة: «كانت سيدة الغناء العربى أم كلثوم، وجلال صوتها يهز الوجدان العربى من محيطه إلى خليجه، تكاد أن تهوى من فرط قلقها قبل أن تدخل على خشبة المسرح، كأنها تدخل اختبارا جديدا قد تخفق فيه، أو كأنها تعلمت للتو أبجديات الغناء، لكنها ما أن تبدأ فى الشدو تبدو ملكة على عرشها».

وبسبب تلك الأهمية التى تمثلها أم كلثوم لهيكل، نتيجة لندرة ما ورد عنه من أحاديث عنها، باتت مهمة استخلاص شهادته عن كوكب الشرق، ورصد طبيعة العلاقة بينهما، مهمة أشبه بتجميع لوحة فسيفساء، مكوناتها مقطع صوتى هنا، وتسجيل فيديو هناك، وأجزاء من حوار، وسطور فى مقال، علها تضع إطارا يليق بتلك الصداقة المتميزة بين هرمين أثريا حياتنا، وأرخا لمرحلة مهمة من تاريخ مصر والمنطقة العربية.

يعد الكتاب الذى أصدرته «دار الشروق» تحت عنوان «محمد حسنين هيكل يتذكر ــ عبدالناصر والمثقفون والثقافة» للكاتب الكبير يوسف القعيد، كنزا من الحوارات الصحفية، إذ يتناول لقاءات مع هيكل استمرت ــ بحسب القعيد ــ خمس سنوات تكلم وحكى فى جلسات صباحية مبكرة، ليكون من بين حكاياته نصيبا ليس بالقليل لكوكب الشرق.

وكذلك من حسن الحظ أن هيكل قد أمهله القدر ليسجل كما لا بأس به من سلسلة حلقات تليفزيونية مع الإعلامية لميس الحديدى، علاوة على حوارات عدة مع الكثير من الصحف، خرج خلالها بعض الوقت من أسوار السياسة والصحافة، وتناول حياته وعلاقاته الإنسانية، لتتكون من كل تلك اللقاءات، صورة لصداقته بكوكب الشرق.

الملاحظ فى كل حديث للأستاذ عن أم كلثوم، هو الإسهاب فى سرد صفاتها، فيقول هيكل فى أحد حواراته: «إنها أم كلثوم التى لم يعرفها أحد أبدا».

لقد تعامل الجميع مع النجمة الكبيرة. لكن المعرفة الحقيقية بها كانت من الأمور الغائبة. تستطيع أن تقول إن أم كلثوم قرأت الشعر. وقد أمضت سنوات عمرها الأولى، وهى ترتل القرآن الكريم والتواشيح القديمة. لقد حفظت القرآن الكريم، وقرأت السيرة النبوية، وقرأت دواوين شعر كثيرة حتى تختار منها ما تغنيه، أو ما يمكن أن تغنيه، وساعدها فى ذلك مثقفون، يقف فى المقدمة منهم أحمد رامى.

وما من حديث عن أم كلثوم، إلا وتحدث فيه هيكل عن صفتها الأبرز «فلاحة أصيلة»، والملاحظ كذلك أنه لا يرد ذكرها إلا وكان مرتبطا بمقارنة مع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، حتى فى معرض حديثه عن مشاعر جمال عبدالناصر نحوهما.

ويقول هيكل فى هذا الصدد: كان جمال عبدالناصر يحب أم كلثوم بدون حدود، ولكن موقفه العاطفى والإنسانى من عبدالوهاب كان فى إطاره.

أم كلثوم كانت فلاحة مصرية من عمق القرية، وعبدالوهاب قاهرى من قاع الحارة، وهناك خلاف بين الحالتين. كل منهما له أصله وأصالته.

ويروى هيكل فى لقاء تليفزيونى عن تلك «الفلاحة الحكيمة»، عائدا إلى عام 1949، وكان حينئذ فى مكتب على أمين فى «أخبار اليوم»، والذى كان يعقد ما يشبه الصالون الأسبوعى، مستضيفا كبار رجال الدولة.

فى هذه الفترة، كانت البلاد شهدت مصرع النقراشى باشا، والأوضاع فى مصر مرتبكة، وكانت الجلسة تضم، رئيس وزراء مصر أنذاك، إبراهيم باشا عبدالهادى، وكامل بك الشناوى، إضافة إلى على أمين، وهيكل.

وبحسب هيكل، دخلت أم كلثوم إلى مكتب على أمين، وبعدما رحب بها الجميع، سألت رئيس الوزراء: إية اللى بيحصل فى البلد ياباشا. لينطلق عبدالهادى شارحا الأوضاع والملابسات التى تمر بها مصر، ويتبارى على أمين وهيكل والشناوى فى الإضافة والتوضيح والشرح لكوكب الشرح، والتى أنتظرت حتى أنتهى الجميع من حديثهم، وبدأت تروى لهم عن عادة اعتاد عليها كبار رجال قريتها (طماى الزهايرة)، وقالت: كانوا يجلسون ليتباحثوا أحوال البلد حول أحدهم، الذى أمسك بجريدة الأهرام ليقرأ عليهم ما يجرى: «فلان اشترى الترومواى، وفلان قتل زوجته، وفلان قتل أمه»، وبعد أن يجد الرجال أنفسهم عاجزين عن التصرف وإصلاح الأحوال، يبادر أحدهم ويقول: «الفاتحة يا إخونا إن ربنا يصلح الأحوال»، لينصرف بعدها الرجال وتنفض الجلسة، وأنهت أم كلثوم حديثها بذات العبارة: «الفاتحة يا إخونا إن ربنا يصلح الأحوال»، وغادرت المكتب على الفور.

ونعود مقارنات هيكل بين كوكب الشرق ومحمد عبدالوهاب:

عندما اختلفت مع الرئيس أنور السادات، وعرف الكل ما جرى. فى اليوم التالى لخروجى من الأهرام، اتصلت بى أم كلثوم، قاصدة إشعارى بالوقوف معى، وبأنها تريد أن تعبر عن ذلك، وقد وصلتنى رسالتها غير المباشرة فعلا، شعرت من هذا الاتصال أنها تريد الوقوف معى، وأنها تريد أن تعبر عن ذلك.

عبدالوهاب مثلا لم يفعل ما فعلته أم كلثوم.. عبدالوهاب اختفى. لم أسمع صوته. وظل صمته مستمرا. إلى أن نشر فى الصحف أننى معروض على منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام، وكان ذلك فى وزارة ممدوح سالم التى اعتذرت عن دخولها. كلمنى محمد عبدالوهاب فى ذلك الصباح، قال فورا، بعد السلام والتحيات والأشواق:

أهلا يا ألف مبروك.. بقيت وزير تانى؟

قالى لى: إيه يا أخويا؟

قلت له: أنا اعتذرت عن الوزارة.

قالى لى: يعنى إيه اعتذرت عن الوزارة؟

قلت له: مش داخل الوزارة

ثم قال لى: غريبة قوى.. إزاى كده؟

ولم أسمع صوته بعد ذلك لسنوات.

ويشيد هيكل بأم كلثوم فى تلقائيتها وبساطتها وثقتها فى نفسها، حتى فى تعاملها مع الرئيس جمال عبدالناصر، فيقول: كانت تجلس (مع الرئيس)، وتتكلم معه باندفاع وتلقائية فى كل الموضوعات، التى يمكن أن تخطر على البال. تقول مثلا: الدكتور الفلانى حصل له كذا.. كانت تتصرف تصرف محاور حقيقى وتتكلم فى كل الأمور.

وعلى ذكر شخصية المحاور التى اتسمت بها أم كلثوم، يتذكر هيكل فى لقاء مع الإعلامية لميس الحديدى، ذلك الحوار الإذاعى الذى أدارته أم كلثوم، وحل فيه هيكل ضيفا، حيث كان فكرة البرنامج أن يتبادل النجوم المقاعد مع الإعلاميين، ويحتل الإعلامى مقعد الضيف.

ويقول هيكل إن أم كلثوم «كانت محاورة تهتم بأدق التفاصيل إلى درجة أنها كانت تصيب معاونيها فى إعداد الحلقة بالإرهاق»، ويقول عنها أيضا إنها «كانت قيمة بديعة.. كانت أقوى كتيبة فى قوة مصر الناعمة».

وفى موضع آخر من حواره المطول مع الأديب يوسف القعيد يعدد هيكل من جديد خصال كوكب الشرق: «كانت موجودة فى أوساط ناس كثيرين، صحفيين، مثقفين، ناس من الدرجة الأولى، أم كلثوم تعرضت ثقافيا لمؤثرات أولية، بدء من المؤثرات التقليدية وأولها ترتيل القرآن الكريم، وكانت لها تجربة عريضة فى الحياة».

مثلا كانت تذهب إلى طبيبها الخاص، فيقول بعض الأمور عن المستشفيات والأوضاع، التى فيها والعلاج والحلول المطلوبة، فتتكلم مع الرئيس حول هذا الأمر وتناقشه فيه.

وكانت تلتقى بعض أقربائها من الريف وتسمع عن بعض الأوضاع، وترى بعض الأوضاع، وتعود من البلد، وعندها ما تريد قوله عن قريتها وعن الريف عموما، فتقوله للرئيس.

وعلى غير عادته، يتحدث الاستاذ فى أحد حواراته عن أمر يتعلق بحياته الشخصية التى حرص دوما أن تكون بعيدة عن الأضواء:

أم كلثوم كانت صديقة وهذا يكفى.. يوم زواجى، أم كلثوم أرادت أن تحيى فرحنا، والمشكلة إنه لم يكن هناك احتفال، لأننا نحن الاثنين لا نحب حكاية الأفراح، واقترحت إنه إذا أرادت أم كلثوم أن تهدينا حفلا، فليكن لصالح جمعية، وهى جمعية النور والأمل، التى كنت عضوا نشيطا فيها، وكانت تهتم بالفتيات الكفيفات.

أقيمت الحفلة التى أحيتها أم كلثوم فى سينما راديو. جلسنا فى الصف الأول. كنا أصحاب الحفل طبعا. أخذت هدايت وذهبنا إليها ــ إلى أم كلثوم طبعا ــ بعد الوصلة الأولى فى الاستراحة، فقالت لى:

اسمع بقى. إنت قعدت الوصلة بحالها. أنا عارفاك بتتعذب يا ولداه.

قلت لها: انا مستمتع جدا.

فقالت لى: معلش.. عشان خاطرى روح بقى. كفاية عليك الوصلة الأولانية.

كنت قد سمعت بما فيه الكفاية فى هذه الوصلة، وكانت هى تعرف صعوبة الاستمرار بالنسبة لى، خاصة عندما تكون الأغنية الواحدة ساعة ونصف ساعة أو ربما ساعتين.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل