المحتوى الرئيسى

إلا مسلمو الإيغور.. لماذا تمانع الصين في وجود نزعات انفصالية لهذه الطائفة بالذات؟

12/17 20:15

لم يستطع "ما شين" العثور على المسجد السلفي. كنَّا نسير في ضاحية تشاوسيهو التي تقع شمال غرب المدينة، وهي منطقة أغلب سكانها من الأقلية المسلمة.

تعهَّد ما، وهو صيني مسلم يبلغ من العمر 24 عاماً وتخرّج مؤخراً في الجامعة وكان يعمل لدى إحدى شركات عصير الفاكهة الحلال، بأن يصطحبني يوماً إلى أحد المساجد الملتزمة بتعاليم المذهب السلفي.

خلف شارع تسوُّقٍ مزدحمٍ، وجدنا كومةً من الحطام، ما زالت آثار كلمة "هدم" مكتوبةٍ باللون الأحمر على الحوائط نصف المهدمة للمبنى المهجور مؤخراً. لكن ما بدا وكأنَّه حملة قمعية، اتضح أنّه العكس. على بعد دقائق من كومة الحطام، قابلنا حسين، البالغ من العمر 38 عاماً الذي يعمل مدرِّس لغة عربية في مدرسةٍ ملحقة بالمسجد، والتي أُسست بشكل مؤقت في مقطورات متنقلة، بحسب تقرير لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية.

كانت الطائفة المسلمة هي من قررت هدم المسجد، فقد قال حسين لنا "لقد سبق تجديد المسجد 3 مرات بالفعل. يموّل كل شيء عن طريق التبرعات الخاصة. ويسعون حالياً إلى إعادة بناء المبنى وتوسيعه، لإتاحة مساحة لحوالي 60 طالباً في المدرسة الإسلامية واستيعاب عدد أكبر من المصلين.

درس حسين اللغة العربية لمدة عامين في جامعة الملك سعود بالرياض ويُدرس حالياً اللغة العربية لتفسير النصوص الدينية للمراهقين المنتمين إلى قومية "هوي"، وهم أقلية عرقية دينية تشكِّل حوالي نصف عدد المسلمين الصينيين البالغ عددهم 23 مليون نسمة.

عندما سُئل "ما" إذا ما كانت مدرستهم تواجه مشاكل في ممارسة نشاطها بسبب ارتباطها بالمذهب السلفي، رد حسين عابساً: "يخلط الإعلام الأميركي الأوراق عندما يطلق على السلفيين لقب متطرفين. لا تتدخل الحكومة في شؤوننا".

إنَّ تجربة حسين مع إحجام الدولة عن التدخل في شؤون الطائفة الإسلامية أمرٌ مفاجئ نظراً للسياق التاريخي المتشابك لبكين مع الإسلام وخطابها الحديث عن مناهضة التطرف عبر التحكم الأيديولوجي.

ولطالما ربطت السلطات الصينية الدين بدعوات الانفصال العرقية، والنفوذ الأجنبي غير المرغوب فيه، والاضطراب المحلي على مر التاريخ. ففي القرن التاسع عشر أدَّت مواجهات طائفية إسلامية وثورة مدمرة للطائفة المسيحية إلى مقتل ملايين الأشخاص في جنوب وغرب البلاد.

ومع ارتفاع نزعات التطرف العنيفة والحركات الجهادية المتطرفة في مختلف أنحاء العالم مؤخراً، باتت الصين تصارع حوادثها الإرهابية أيضاً مثل حادث الهجوم باستخدام السكين في محطة قطار كونمينغ في 2014 والهجوم الآخر في منجم فحم بمدينة أكسو عام 2015 وتفجير سيارة عند السفارة الصينية في قرغيزستان خلال الخريف الحالي.

وفي أبريل/نيسان الماضي، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في مؤتمر وطني عن الدين: "يجب حماية الأديان من أي اختراقٍ خارجي والالتزام بالفهم الوسطي للعقيدة، الذي يمزج ما بين التعاليم الدينية والثقافة الصينية".

وفي المؤتمر الوطني العاشر للجمعية الإسلامية الصينية الذي عقد ببكين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حذر وانغ زوان، رئيس هيئة إدارة الدولة للشؤون الدينية من انتشار التطرف في شرق ووسط الصين. وقال وانغ: "يجب على رجال الدين الإسلامي الوقوف في الجبهات الأمامية لمحاربة التطرف الديني"، وأكد ضرورة "تغيير عقلية" الشعب لمواجهة التطرف والعنف المحتمل.

لكن الأيديولوجيات المرتبطة بالتطرف تزدهر في العديد من المناطق الصينية، وتسبَّب المذهب السلفي -وفقاً للمجلة- في إثارة القلق العالمي بسبب تبنّي جماعات متطرفة، كتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة، بعض التعاليم التي نسبوها إلى المذهب السلفي.

وفي الصين، يتوقف حجم السيطرة التي تحاول الدولة فرضها على الأنشطة الدينية على عوامل عرقية وجغرافية وليست أيديولوجية.

وتسعى سياسات مكافحة الإرهاب، التي تتبنّاها الحكومة الصينية، إلى فرض سيطرتها على أقليات ومناطق محددة وبالتحديد على أقلية "الإيغور"، وهي أقلية عرقية مسلمة تعيش في المناطق الغربية بالصين خاصة في إقليم شينغيانغ الحدودي الضخم والمضطرب.

وقد تسبب القمع الحكومي الوحشي والمتواصل في إشعال التوتر العرقي والمقاومة العنيفة بالإقليم. وتتحدث السلطات الصينية عن كون الإرهاب أزمة أيديولوجية لكنها تتعامل معه كمشكلة عرقية، إذ تحاول تحجيم نفوذه في إقليم شينغيانغ دون الاعتراف بتمييزها ضد أقلية "الإيغور". ولهذا، ستجد شخصاً سلفياً منخرطاً في العمل الدعوي من قومية "هوي" بمدينة لانتشو يتمتع بحرية أكبر من شخص علماني ينتمي لأقلية "الإيغور" في مدينة كاشغر.

كانت إحدى نتائج هذا الاختلاف بين السياسة والتطبيق، انسلاخ أقلية "الإيغور" من قومية "هوي"، الذين يسعون للنأي بأنفسهم عن الإيغور للنجاة من قمع الدولة. وكان من بين النتائج الأخرى، تحقق نبوءة تطرف الإيغور. فقد دفعتهم المعاملة التمييزية ضدهم إلى سلوك نهج التطرف.

في إقليم يونان الجنوبي الحدودي، دفعت الحادثة المعروفة إعلامياً باسم "3.01"، التي وقعت في عام 2014 وقتل خلالها 29 مدنياً على يد 8 مُعتدين يحملون سكاكين في محطة قطار كونمينغ، الحكومة إلى شن حملة قمع ضد المؤسسات الدينية بالإقليم.

وحددت السلطات المهاجمين الثمانية بأنهم ينتمون إلى أقلية "الإيغور" العرقية وأنًّ شخصاً واحداً منهم على الأقل ظل يدرس في مدرسة سلفية لمدة 6 أشهر في مدينة شاديان. وتملك هذه المدينة الصغيرة تاريخاً من الصراع الإسلامي، لكنها تعد الآن نموذجاً للتآلف الديني.

وخلال الأشهر التي تلت الهجوم، أصدرت إدارة الشؤون الدينية سياسة تمنع الطلاب والمدرسين غير المحليين من التعلّم أو التدريس في إقليم يونان.

وبعد مقاومة شيوخ المساجد المحلية، عدلت إدارة الشؤون الدينية هذه السياسة بأن سمحت للطلاب من خارج الإقليم بالدراسة، لكن بشرط حصولهم على تصاريح من إدارة الأمن العام بمنطقتهم وبإقليم يونان ومن مكاتب الشؤون الدينية.

وكانت نتيجة هذه السياسات ما وصفه السكان المحليون بـ"المسح المضاعف"، إذا غادر الكثير من الطلاب والمدرسين غير المحليين الإقليم. فقد تراجع عدد الطلاب بالمدرسة الملحقة بمسجد شاديان الكبير من 450 إلى 200 طالب. بعد عامين، عاد بعض الطلاب لكن طلاب "الإيغور" لم يكونوا من بينهم.

وقال رسلان يوسوبوف، طالب الدكتوراه في الإنثروبولوجيا (علم الإنسانيات) في الجامعة الصينية بهونغ كونغ، الذي عاش لعامين في مدينة شاديان، إن سياسة الرد على حادثة "3.01" عكست النهج الإقليمي (في أقاليمها ومقاطعتها) للحكومة الصينية في المعالجة المحسوبة لمسألة التطرُّف.

وأوضح يوسبوف أن شرطة من شينغيانغ، وليست قوات محلية، هي التي نفَّذت عملية طرد الطلاب غير المحليين في شاديان. مؤكداً أن "المسألة برمَّتها ليست مشكلة قومية، لكنها مشكلة جغرافية. ولم تعرف حكومة إقليم يونان كيف تتعامل معها. الفكرة كانت أن هذه مسألة تخص منطقة شينغيانغ، ويجب علينا أن نعهد بها إليهم". ويكاد لا يوجد اليوم أي فرد من الإيغور في إقليم يونان.

وخلال زيارتي إلى شاديان في أبريل/نيسان، أطلعني شخصٌ من قومية الهان تحوَّل إلى الإسلام على مجلة دينية محظورة كان ينشرها لسنواتٍ. وقد أوقفته الشرطة إحدى المرات لأن المجلة، بحسب قوله، كانت آخذة بالانتشار في شينغيانغ. وبمجرد أن توقَّف عن نشرها، لم يعد يتعرَّض له أحد.

وعلى نحوٍ مماثل، أخبرني إمامٌ درس في المملكة العربية السعودية بأنَّه قد درَّس صفوفاً إسلاميةً غير رسمية في جامعة لانتشو وجامعة الشمال الغربي للقوميات أو “Northwest University for Nationalitios” لخمس سنواتٍ. ولم يواجه أية مشكلةٍ حتى عام 2015، حين اعتُقِل واحتُجِز في شينغيانغ لعدة أشهر لأنَّ السلطات وجدت أنَّ عدداً قليلاً من الطلاب الإيغور بدأوا يحضرون دروس آخر الأسبوع التي يلقيها. وقد تفاوضت سلطات مقاطعة قانسو على إعادة الإمام لمكانه، لكن دون أن يقوم بالتدريس ودون أن يحضر مزيدٌ من الإيغور في مسجده.

وأحد الأسباب التي تجعل بكين تضع قضية النزعات الانفصالية للإيغور في مقدمة أولوياتها باعتبارها تهديداً أكبر من النزعات الطائفية للهوي هو أن استقلال شينغيانغ احتمالٌ حقيقيٌ، وتحقق بالفعل لفترات وجيزة في الماضي، في الثلاثينيات والأربعينيات.

فالإيغور يتحدَّثون لغةً تركيةً وهم يتميزون عرقياً ولغوياً عن قومية الهان الصينية. ولديهم حسٌ عالٍ بهويتهم كأمة/دولة مستقلة عن الصين وهو ما فاقمته الممارسات الأمنية القاسية لبكين في مختلف أنحاء شينغيانغ.

أمَّا قومية الهوي فعلى النقيض من ذلك، ليس لديها طموحاتٍ انفصالية. ورغم أنَّ الهوي نظرياً مسلمون يشتركون في الجذور مع الأعراق الموجودة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فإنَّ معظمهم اندمجوا بشكلٍ واضحٍ مع قومية الهان الصينية الغالبة وأصبح من غير الممكن تمييزهم منها. فهم متشابهون، يتحدَّثون نفس اللغة، ويميلون إلى اعتناق نموذجٍ إيماني لا تمتزج به السياسة. وأخبرني حسين، المعلِّم العربي السلفي: "إنّنا أقليِّة، لا نحاول إقامة قانونٍ أو دولةِ نابعة من ديننا". وأردف: "إنَّنا حتى لا نفكر بإدخال الدين في السياسة. إنَّ هذا غير واقعي".

ويعتقد البعض بأنَّ بكين ترحِّب فعلاً بانشقاق جماعاتٍ إسلاميةٍ من غير الإيغور، حتى إذا تحولوا إلى طوائف لديها نزوع للعنف؛ لأنَّ ذلك يعيق مسلمي الصين عن التكتُّل معاً. ويقول محمد السديري، طالب الدكتوراه في جامعة هونغ كونغ، الذي بحث في العلاقة بين مسلمي الهوي والسلفيين السعوديين شمال غرب الصين، إنَّه وجد أنَّ مدارس عديدة هناك تستخدم كتباً دراسية من الخارج.

وأخبرني السديري بأنَّ "العديد من المدارس في مقاطعة غوانغ ومدينة لينشيا (وهي مدينة ذات أغلبية مسلمة في مقاطعة قانسو) كانوا يستخدمون كتب المرحلة الثانوية في السعودية. إنَّها نفس كتب الفقه والتوحيد وغيرها من الكتب التي نشأنا عليها في السعودية، ربما أُحضِرت وطُبِعت بواسطة طلاب صينيين كانوا في جامعة المدينة المنورة".

وقال السديري: "مسلمو الصين في النهاية يحاولون استيعاب الواقع الصيني من حيث: الطائفية، دولة الحزب الواحد، سعي الدولة لإثبات أصالتها، والمذهب المادي المستشري، إنَّهم (المجموعات المسلمة) يختارون وينتقون ما يريدونه. فليس هناك حركة واحدة مترابطة".

وأخبرني شانغ واي شين، المدير السابق لإحدى المدارس العربية في مدينة لينشيا، بأنَّ كثيراً من المجموعات في شمال غرب الصين يمارسون التكفير. لكن، وعلى عكس المجموعات التكفيرية المعروفة مثل تنظيميْ القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام، تهتم الجماعات الأصولية الصينية بالتنافس على القوة المادية المحلية والجدال حول الخلافات العقائدية بشكل أكبر من اهتمامها بتحدِّي سلطة الحزب الشيوعي أو إقامة مجتمع تحكمه الشريعة. وقال شانغ، الذي يترأس إحدى الجماعات المحافِظة التي لا تشكِّل تهديداً للسلطة: "معظم الناس هنا يتبعون فَهماً سطحياً للتراث".

لكن لم تَعُد المحافَظة خياراً متاحاً بالنسبة للإيغور، فأي إشارةٍ على اهتمامٍ منهم بالإسلام تُقرأ من السلطة على أنَّها تهديدٌ محتملٌ. وتواصل الدولة إحكام الرقابة الاجتماعية على الإيغور، ومنعهم من إطلاق لحاهم أو ارتداء الحجاب في المجال العام، ومنع القُصَّر منهم كذلك من دخول الأماكن الدينية، وإلزام أطفالهم الذين شاركوا في نشاطات دينية بالخضوع إلى "إعادة تقويم" في المدارس الخاصة، بل وكذلك مصادرة جوازات السفر من جميع سكان شينغيانغ.

والمفارقة هنا أنَّ هذا هو ما يجعل التطرُّف العنيف أكثر جاذبيةً لشباب الإيغور، ما ينتج عنه "تجذُّر" حركات التطرُّف الإيغورية، التي تضم أعضاء كُثُراً يقاتلون في سوريا وتحمِّل هذه الجماعات مسؤولية جنوحها للمقاومة العنيفة وخوض الحرب المقدسة بشكل مباشر إلى الاضطهاد الذي تمارسه السلطات الصينية بحقهم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل