المحتوى الرئيسى

"قتلى الكباب".. قصَّة المحاكمة التي كشفت أفظع أسرار النازية الجديدة في ألمانيا

12/17 03:37

في البدء كانوا يعرفون بـ"داي دونرمورد" أي: قتلى الكباب. لم تكن ثمة قواسم مشتركة كثيرة تجمع الضحايا، سوى كونهم من أصول مُهاجرة وأنهم كانوا يديرون شركات متواضعة. كان أول من مات أنور شيمشك، وهو رجل تركي-ألماني يبلغ من العمر 38 عاماً، يدير شركة استيراد زهور في مدينة نورمبرغ جنوب ألمانيا. أطلق مسلحان اثنان الرصاص على إنفر داخل شاحنته، ليموت في المستشفى بعد ذلك بيومين.

قتل عبدالرحيم أوزودوغرو، في المدينة ذاتها في يونيو/حزيران، برصاصتين بينما كان يساعد في متجر خياط بعد ساعات العمل. بعد ذلك بأسبوعين، أُصيب سليمان تاشكوبرو (31 عاماً) في هامبورغ، على بعد 500 كيلومتر شمالاً، بثلاث طلقات فأُردي قتيلاً في متجره لبيع الخضراوات. وبعدها بشهرين، في أغسطس/آب 2001، أردي بائع الخضراوات، هابيل كيليج (38 عاماً) قتيلاً بعد إصابته بطلقتين في متجره بإحدى ضواحي ميونيخ، بحسب تقرير لجريدة الغارديان البريطانية.

أشارت مسارح الجرائم إلى أن القتلة كانوا يفضلون طريقة بعينها للقتل. فكانت تطلق عدة طلقات من مسافة قريبة من الوجه. معظم الرصاصات كان يمكن تتبعها إلى سلاح واحد، وهو مسدس Česká CZ 83 الصامت. افترضت الشرطة أن تلك الطريقة الاحترافية في القتل، بالإضافة إلى الطبيعة الحميمية لحوادث القتل تلك (ذلك أن كل الضحايا عندما ماتوا، يفترض أنهم كانوا ينظرون مباشرة إلى عيون قاتليهم) كل هذا كان يعني أن حوادث القتل تلك لا بد أن يكون قد ارتكبها رجال عصابات أتراك يتقاتلون على مناطق النفوذ. لكن لم تؤيد أية أدلة دامغة هذه النظرية. ومع ذلك، فإن القوة التي كلَّفتها السلطات الألمانية بتلك القضية أطلق عليها اسم "البوسفور".

حاول فريق البوسفور إقناع أرملة أنور شيمشك، أول الضحايا، بأن تقول إن زوجها كان على صلة بالمافيا التركية. اخترع الفريق قصة كاذبة عن خيانة زوجية، وأنَّ سيمسك كانت له علاقة وأسرة سرية في مكان آخر، على أمل أن يدفع الغضب زوجته للكشف عن علاقاته، غير الموجودة، بعالم الجريمة السفلي. لكنَّ زوجته لم تقُل شيئاً، واستمرت الشرطة في إضاعة وقتها ومواردها في محاولة إثبات أن حوادث القتل تمت على يد العصابات التركية.

بعد ذلك بثلاث سنوات، في 2004، قتل محمد تورغوت، في محل كباب في مدينة روستوك على ساحل البلطيق. وقع الحادث التالي في العام ذاته على هيئة قنبلة فُجرت في أنبوب في منطقة كيوبستراس بمدينة كولون، وهو جزء من المدينة معروف بوجود المهاجرين الأتراك، فجرح 22 شخصاً. وفي يونيو/حزيران 2005، أطلق الرصاص على إسماعيل ياشار (50 عاماً) في محل الكباب الخاص به في مدينة نورمبرغ، لتكون تلك حادثة القتل الثالثة في تلك المدينة.

في العام التالي لذلك، قتل صانع أقفال يوناني - ألماني يدعى ثيودوروس بولجاريدس (41 عاماً) في محله حديث الافتتاح في ميونيخ، ليصبح أول ضحية دون خلفية تركية. وفي عام 2006 قتل بائع بأحد الأكشاك يدعى محمد كوباشيك (39 عاماً) في مدينة دورتموند الغربية. ثم بعد ذلك بيومين فحسب، قتل خالد يوزجات (21 عاماً) بينما كان جالساً في مقهى الإنترنت الذي كان يديره في مدينة كاسيل بوسط ألمانيا، على بعد 160 كيلومتراً.

وقعت حوادث القتل تلك في 7 مدن مختلفة في جميع أنحاء ألمانيا، وعادة ما كان يفصل بينهما شهور أو سنوات. كل ذلك جعل من الصعب الربط بينها، إلا أن أحداً لم يتوقع أن تصل السلطات إلى حقيقة كون تلك الجرائم متصلة ببعضها إلا في 2006.

من البداية، كانت التحقيقات مغربلة بالأخطاء الأساسية والافتراضات الخاطئة. أولاً، وقع ما لا يقل عن حادثتي قتل في مواقع قريبة لمحطات الشرطة، وهو الأمر الذي كان من المفترض له أن يجعل هذين الموقعين غير جذابين لقتلة المافيا. ثم كانت مشكلة الرجلين "الذين يبدوان من شرق أوروبا" على الدراجات، والذين قال شهود عيان إنهم قد رأوهما يغادران أكثر من مسرح جريمة. ولكنَّ الأمر الأكثر إثارة للحيرة هو ما ظهر أثناء التحقيق في مقتل خالد يوزجات: فقد كان أحد عملاء المخابرات الألمانية موجوداً داخل المقهى عندما وقعت جريمة القتل، وهو أمر أهمل ذلك العميل الإبلاغ عنه.

عام 2006، بدأ ألكساندر هورن، وهو ضابط صغير يعمل بالتنميط الجنائي، كان يعد تقريراً لفريق البوسفور، في طرح الشكوك حول فكرة أن تكون الجرائم متصلة بالمافيا التركية. فقد قتل الضحايا، في العديد من الحالات، بعد أيام من كسرهم لروتينهم اليومي، وكانوا في أماكن ما كان لأحد أن يتوقع وجودهم فيها. بدا من الأكثر منطقية أن الضحايا قد اختيروا بشكل عشوائي من قبل قاتليهم، أكثر من كونهم قد قتلوا على سبيل الانتقام من قبل قتلة محترفين.

كما بدا أيضاً أنَّ القتلة يجذبون الاهتمام لجرائمهم ويؤكدون الصلة بينها عن طريق استخدام السلاح ذاته. تعرف هورن على ذلك باعتباره تكتيكاً معتاداً من تكتيكات مجموعات اليمين المتطرف. كُلف بعض الضباط بمتابعة هذا الخيط، لكنَّ تركيز التحقيقات ظل على النظرية المبدئية للشرطة. واستمرت وسائل الإعلام في الإشارة إلى حوادث القتل تلك بـ"داي دونرمورد".

في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أكثر من عقدِ على جريمة القتل الأولى، ألقيت أقراص فيديو رقمية DVD، تحوي تسجيلات مثيرة للاهتمام، أمام مكاتب عدد من الصحف الألمانية. ظهرت في تلك التسجيلات حلقة من حلقات مسلسل الكرتون ذا بينك بانثر، الذي كان يعرض في الستينات، بعد التلاعب بها، وبدا أن تلك التسجيلات رسالة من القتلة. في الدقائق القليلة الأولى يظهر النمر الوردي وهو يتمشى في المدينة، حتى يرى ملصقاً يدعو المواطنين قائلاً "قفوا مع بلدكم" و"قفوا مع شعبكم". ثم يفجر النمر محلاً للبقالة، مصحوباً بموسيقى الوتر لأغنية هنري مانشيني، ثم يقطع الفيديو بلقطات إخبارية لمحل تم الهجوم عليه بطريقة مشابهة في مدينة كولونيا عام 2001.

بعد ذلك يستلقي النمر الوردي على أريكته ويشاهد مقاطع أخبار تلفزيونية حول ما يدعى بـ"دونرمورد". الأخبار المعروضة على شاشة تلفاز الفيلم الكرتوني تقارير إخبارية حقيقية من مسارح الجريمة، وتظهر بها صور فوتوغرافية مروّعة للضحايا. تنظر عينا النمر الوردي بملل بسبب طول المدة التي استغرقها الجمهور الألماني ليدرك من وراء جرائم القتل تلك. يؤشر الراوي، بنفاد صبر، بعلامة على الشاشة تشير إلى أن جرائم القتل من عمل مجموعة تسمي نفسها "جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية".

في الوقت الذي كانت الصحافة الألمانية فيه في حيرة من أمرها بسبب فيديو النمر الوردي، كان تركيز المحققين قد انحصر، أخيراً، بعدد من مجموعات اليمين المتطرف العاملة في البلاد. ومع ذلك لم تكن السلطات قد حددت بعد طريقة لاكتشاف القتلة، لكنَّ حيرتهم انتهت بشكل مفاجئ في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2011، عندما استخدم رجلان الدراجات في سطو على أحد البنوك في أيسناخ، وهي بلدة في ولاية تورنغن، الواقعة وسط ألمانيا. بعد حادثة السطو تلك، قام الرجلان بوضع الدراجتين في شاحنة تخييم مستأجرة.

وجدت الشرطة العربة في مكان قريب، بعد وشاية من مجهول، فحاصرتها بالضباط. كان لدى الرجلين مخزون ضخم من الأسلحة والذخائر، لكنهما لم يحاولا القتال للهرب، بل اختارا، بحسب المحققين، قتل نفسيهما وإحراق الشاحنة. (جاء في التحقيق الرسمي أنَّ أحد الرجلين هو من أحرق الشاحنة، وقتل زميله، ثم قتل نفسه).

تم التعرف على الجثتين وهما لأوي موندلوس، وأوي بوهندهارت، وكلاهما من أقدم أعضاء اليمين الألماني المتطرف، لكنهما مع ذلك غير مشهورين، وكان كلاهما قد فر من الشرطة مع صديقتهما بيت شابّى منذ 13 عاماً. حتى قبل التعرف على الجثتين، وجد المحققون في شاحنتهما بندقية ضابطة قتلت منذ 5 أعوام، تدعى ميكيل كيسويت، ولم تُعرف هوية قاتلها.

بعد يومين من موت موندلوس وبوهندهارت، اتصلت شابّى بالشرطة في مدينة جينا بولاية تورنغن. قالت شابي: "أنا بيت شابّى. أنا من تبحثون عنها". لم تستوعب السلطات المحلية فوراً أهمية تلك المكالمة، مع أنَّ الشرطة قد بحثت عن أولئك الثلاثة، منذ أكثر من عقد مضى، لصلتهم بجرائم أصغر. كما كانت الاستخبارات الألمانية تراقب المشهد الراديكالي لليمين المتطرف، والذي كانت شابّى جزءاً منه، لكنهم فقدوا كل أثر لها، مع موندلوس وبوهندهارت عندما انتقلوا إلى العمل السري.

عاش الثلاثة مع بعضهما في بلدة تسفيكاو، في شقة أحرقتها شابّى بعد أن علمت بموت موندلوس وبوهندهارت. عندما قامت الشرطة لاحقاً بتفتيش الشقة المحروقة، وجدوا قصاصات من جرائد حول جرائم قتل الرجال الأتراك - الألمان، ونسخاً من شرائط فيديو النمر الوردي، ومسدس Česká. كانت تلك أولى الأدلة التي ربطت موندلوس وبوهندهارت وشابّى بجرائم القتل التي كان يحقق فيها فريق البوسفور.

في الحادي عشر من أبريل/نيسان 2013، بعد عامين من التكهنات المثيرة في وسائل الإعلام الألمانية حول جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية، ظهرت شابّى للمرة الأولى في قاعة محاكمة بميونيخ، متهمة بارتكاب 9 جرائم قتل، والهجوم على الشرطة والذي شمل جريمة قتل، ومحاولتيْ قتل عن طريق المتفجرات. كما وقف معها 4 رجال آخرين بتهمة تقديم الدعم لجماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية.

وبدلاً من التحقيق لمعرفة الطريقة التي استطاع بها القتلة المنتمون لليمين المتطرف العمل بسرية لتلك الفترة الطويلة، اختارت معظم وسائل الإعلام الألمانية التغطية المثيرة لجماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية، مصممة على أنها تتكون من 3 أشخاص فحسب. كانت صحيفة دير شبيغل في المقدمة بتقرير أساسي خصصته للحديث عن "الدقة الجليدية" لما سمته "حزب الجيش البني"، ووضعت فيه صوراً فوتوغرافية لشابّى وموندلوس وبوهندهارت وتحدثت عنهم باعتبارهم قتلة بالفطرة، مستعدون لالتقاط صورهم الهوليوودية المقربة.

بالنسبة لوسائل الإعلام، كانت تلك هي النسخة الألمانية من بوني وكلايد (الزوجين الأميركيين المجرمين في ثلاثينات القرن الماضي) وكلايد، وأعطتهم تلك القصة احتمال وجود ثلاثي من القتلة الشهوانيين. فقد كان عنوان صحيفة "بيلد" الألمانية كالتالي: "الشيطان متأنقاً" وذلك بعد ظهور شابّى في أولى جلسات محاكمتها مرتدية بذلة وجواهر وشعراً مصبوغاً حديثاً.

جلست شابّى، التي تبلغ من العمر حالياً 41 عاماً، في المحكمة صباح كل يوم من أيام الأسبوع في ميونيخ للسنوات الثلاثة الماضية، لكنها لم تكشف أي شيء تقريباً، رغم المناشدات العاجلة من أسر الضحايا. وبينما تقول إنها الآن تفهم أن موندلوس وبونهاردت قد قاما بالسطو على بنك، وارتكبا جرائم قتل، إلا أنها تدعي أنها لم تكن تعرف أي شيء عن خططهما أو أنشطتهما في الوقت الذي عاشته معهما. وقالت: "لقد أصبحا عائلتي". وقالت إنها ليست مذنبة.

لكنَّ أهمية المحاكمة أكبر بكثير من مجرد معرفة ما إذا كانت شابّى كانت على علم أم لا بجرائم القتل تلك. إنَّ مفهوم ألمانيا عن نفسها هو أيضاً في قفص الاتهام، ذلك أن الأدلة التي قدمتها النيابة تشير إلى أن ألمانيا، وهي الأمة التي تتفاخر بأنها واجهت الفترات المظلمة من ماضيها، بحرص فريد من نوعه، قد تركت ثقافة مزدهرة من التطرف اليميني السري دون مساس.

إنَّ حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو أول حزب يميني شعبوي في ألمانيا يحقق نجاحاً انتخابياً مستمراً منذ الحرب العالمية الثانية، ليس سوى الأخير في سلسلة من أعراض العداء المنتشر تجاه الإجماع الليبرالي الذي تلا الحرب. وعلى شبكة الإنترنت نجد تيارات أكثر سخطاً معروضة علناً، كما نجدها في أكشاك بيع الصحف، وفي التلفاز، حيث تحظى وجهات النظر اليمينية بالقبول المتزايد.

كانت الحكومة الألمانية راضية بإدانة جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية باعتبارها خلية إرهابية من السيكوباتيين، وهو انتكاس مؤسف، لكنه استثنائي، لمتلازمة سياسية طالما حاولت البلاد حماية نفسها منها. ومع ذلك، فإن التحقيق في جرائم القتل التي ارتكبتها جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية، إلى جانب محاكمة شابّى تشيران إلى أن المنظمة ربما تكون قد تلقت دعماً وحماية من عناصر في الدولة ذاتها.

إنَّ أول ما ينبغي فهمه حول مجموعة الاشتراكيين الوطنيين السرية أنها لم تكن سرية أبداً. فقد التقت بيت شابّى أول مرة بأوي موندلوس عندما كانا مراهقين، في نادٍ شبابي يلتقي بعد المدرسة في بلدة جينا، وهي بلدة مشهورة بجامعتها، الواقعة على ولاية تورنغن في ألمانيا الشرقية سابقاً. كان ذلك عام 1991 وكان الكثير من سكان ألمانيا الشرقية لا زالوا مصدومين من سقوط جدار برلين، وكانوا واعين تماماً بما ما كانوا يفتقدونه مقارنة بجيرانهم الغربيين.

لا زال النادي الشبابي موجوداً هناك حتى الآن، في جزء من مبنى ذي طابق واحد في شارع هادئ مطلٍ على منظر دراماتيكي للأودية المحيطة. عندما زرنا الحي أوائل العام الماضي، بدا لنا عادياً بما يكفي: مجمعات سكنية جيدة الصيانة، وملاعب مليئة بالأطفال، وعربات ترام مباشرة إلى وسط المدينة. كانت مدرسة جديدة تبنى في الشارع المواجه لنادي الشباب، وكانت هناك لافتات تعلن عن أماكن لأطفال طالبي اللجوء.

ومع ذلك، فقد كانت هناك بعض العلامات المنذرة بالسوء، مثل الأعلام الألمانية التي كانت تتدلى من بعض الشرفات العالية. في أي مكان آخر، سيكون هذا الأمر تعبيراً بريئاً عن الوطنية، لكن في هذا الجزء من ألمانيا، قد يرسل العلم رسالة مختلفة. فلطالما كانت ولاية تورنغن واحدة من معاقل اليمين الراديكالي الألماني.

ويذكر مشرفون سابقون في النادي غض الطرف، خوفاً من فقدان ثقة الأطفال، عندما كان المراهقون يعطون بعضهم بعضاً دعوات لاحتفالات عيد ميلاد عليها صليب معقوف صغير. في المحاكمة التي عقدت لشابّى، حكت الأخيرة كيف التقت موندلوس في مراهقتها وكيف وقعت في حبه في أواخر الثمانينات. ثم في عيد ميلادها الـ19 قابلت أوي بوندهاردت، صديق موندلوس، ووقعت في غرامه. وكان الأخير أكثر التزاماً حتى من موندلوس بقضية اليمين المتطرف.

وقبل سقوط جدار برلين، كان اعتناق النازية الجديدة في شرق ألمانيا نوعاً من التمرد الشبابي ضد الدولة، وإلا فما هي أفضل طريقة لاستعداء النخب الشيوعية أكثر من الظهور على شكل عدوهم القديم؟ بعد عام 1989 وسقوط الجدار، أصبحت النازية الجديدة تعبيراً عن الغضب ضد التدين، والخيانات والإهانات المتخيلة التي وجهتها لهم جمهورية ألمانيا الفيدرالية المتحدة حديثة التكوين. لطالما ارتبطت هوية ألمانيا الغربية بالإنتاج والثروة مقارنة بألمانيا الشرقية. وفي غضون ذلك، اعتنق سياسيوها ومفكروها ما سماه الفيلسوف الألماني البارز، يورهان هابرماس "الوطنية الدستورية". كانت هذه الهوية مبنية على التزام متبادل بالأفكار بدلاً من هوية مبنية على أواصر الدم.

كانت تلك الهوية الجديدة لألمانيا الغربية شيئاً رفضته شابّى وموندلوس وبونهاردت بعنف. لكن لم يكن في خلفياتهم شيء جعلهم أكثر عرضة من غيرهم لأفكار اليمين المتطرف. لا يظهر أن طفولة شابّى كانت غير سوية على وجه الخصوص، مع أن علاقتها بأمها كانت مضطربة. (لم تلتق "شابي" أبداً بأبيها البيولوجي، الذي كان رومانياً). أما الرجلان فقد كانت خلفياتها أبعد حتى من الصورة النمطية للألماني الشرقي المتخلف الحانق. كان والد بونهاردت يعمل مهندساً وأمة كانت طبيبة. أما والد موندلوس فقد كان أستاذاً لتكنولوجيا المعلومات بجامعة جينا للعلوم التطبيقية. وتعامل الآباء مع اهتمام أبنائهم بالتاريخ والسمت النازيين باعتبارها فترة عابرة. (على الرغم من أن والدة شابّى قالت إنها شعرت بالقلق عندما علمت أنَّ جد موندلوس يجمع التحف النازية).

وقال مارتين ديبس، الصحافي في جريدة "ثورنجر أليمين"، الذي نشأ في جينا في نفس الفترة الذي نشأت فيه شابّى وموندلوس وبونهاردت: "كانت تجربتهم أبعد ما تكون عن الفرادة. لكن في المشهد الشبابي في ذلك الوقت كان عليك أن تختار بين خيارين: إما أن تصبح نازياً جديداً أو تصبح حثالة".

بدأت شابّي كتافهة، فانضمت إلى جماعة يسارية اسماً تعرف بـ"القراد" كانت تتشاجر مع النازيين الجدد المحليين. لكن في نادي شباب بلدة جينا، شجعها موندلوس وبونهاردت على تغيير فريقها، وفي سنوات قليلة انضم ثلاثتهم إلى المشهد النازي الجديد المزدهر في ألمانيا الموحدة حديثاً. كرس الثلاثة أيام نهاية الأسبوع للشجار مع "حثالة" اليساريين في الشوارع، وفي حضور حفلات فرق اليمين المتطرف الموسيقية مثل "توركنجاجر" (صائدو الأتراك) و"إندسيج" (النصر النهائي).

وشملت بعض الأعمال المثيرة التي كانوا يقومون بها في تلك الفترة زيارة معسكر اعتقال بوشنفالد، مرتدين أزياء وحدات إس إس (شوتز شتافل)، كما اخترعوا لعبة تدعى "بوجروملي"، كان يكافأ اللاعبون فيها عند إرسالهم أكبر عدد من اليهود إلى معسكرات الاعتقال.

أمد سقوط جدار برلين النازيين الجدد في ألمانيا الشرقية بهدف جديد يركزون عليه غضبهم. فقد كان هناك سخط شديد وعنف، مع بدء انتقال الأتراك الألمان، والألمان من خلفيات أخرى إلى الشرق، فأصبحت محلات الكباب التي ظهرت في أصغر البلدات في تورنغن، أهدافاً معتادة لشباب النازيين الجدد.

وفي سبتمبر/أيلول 1991، هاجم يمينيون متطرفون مرافق سكنية لطالبي اللجوء السياسي في هويرسويرا، وهي بلدة تقع على بعد 200 كيلومتر شرق مدينة جينا في ولاية ساكسونيا. وخلال أعمال شغب استمرت 3 أيام في مدينة روستوك على بحر البلطيق في أغسطس/آب 1992، حاصر عدة آلاف مبنى عالياً مخصصاً لإيواء اللاجئين، وشاهدوا النازيين الجدد وهم يلقون بقنابل المولوتوف عبر النوافذ. وبالكاد نجا سكان المبنى الفيتناميون والرومانيون بعد فرارهم من سطح البناية، وإنقاذ أطفالهم الرضع عبر السلالم باستخدام سلسلة بشرية.

لم تكن الهجمات محصورةً على ألمانيا الشرقية سابقاً. ففي ليلة الـ22 من نوفمبر/تشرين الثاني 1992، أشعل النازيون بيتين لأسرتين تركيتين في مولن، وهي بلدة صغيرة شمال غرب ولاية شلوسيغ ـ هولشتاين. ماتت بنتان وامرأة تبلغ من العمر 51 عاماً في الحريق، وجرح 9 آخرون جراحاً خطيرة. وفي عام 1993، قام حليقو الرؤوس في سولينغن، وهي بلدة خارج كولونيا، بإضرام النار في منزل عائلة تركية، فقتلوا 5 أشخاص، بينهم 3 أطفال.

بدا كل ذلك العنف غير مبرر وعشوائي، لكنه كان فعالاً. استجابت كل الأحزاب السياسية الكبرى وقتها للضغط الذي مورس عليها من قبل جماعات اليمين المتطرف. فدعا هيلموت كول، من التحالف المحافظ، الحكومة إلى وضع قيود جديدة على الهجرة. وفي عامي 1992 و1993، قام تحالف كول الموسع، بدعم من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، بتغيير الدستور الألماني للحد من التزام البلاد بقبول طالبي اللجوء السياسي. ابتهج اليمين المتطرف عندما وجد أن وجهة نظره صارت محل قبول على شاشات التلفاز السائدة.

بالنسبة لشابّى وموندلوس وبنوهاردت، فإن ذلك لم يكن كافياً على ما يبدو. بعد سنواتهم الأولى من الجرائم الصغيرة، يدعي المحققون أنهم بدأوا في محاولة صنع قنابل منزلية الصنع. فقد فتشت الشرطة مرآب بونهاردت في بلدة جينا، في يناير/كانون الثاني، بعد وشاية من مصدر مجهول، واكتشفت 1.4 كيلوغرام من مادة T.N.T، وهو ما يكفي لتدمير سيارة. وبحلول الوقت الذي صدرت فيه مذكرة توقيف في آخر اليوم، كان بونهاردت قد فر من بلدة جينا. بعد ذلك بوقت قليل، انضمت إليه شابّى وموندلوس في الاختباء في مدينة تسفيكاو، الواقعة على بعد 200 ميل إلى الشرق.

خلال العقد الذي بقي الثلاثة فيه هاربين، عملوا في وظائف مختلفة، وفي محلات كانت تبيع البضائع النازية سراً. اتهمت شابّى في محاكمتها بمساعدة رجلين على زيادة دخلهما بالسطو على عدد من البنوك، وهي العمليات التي نفذها الثلاثة في عدد من البلدات بتورنغن ومكلنبورغ وست بومرانيا بين عامي 1999 و2011. أحياناً كانوا يدخلون البنك مرتدين أقنعة غوريلا، وأحياناً يرتدون أقنعة من فيلم الصرخة "سكريم".

ويقال إنَّ طريقتهم التي اعتمدوا عليها في الهروب كانت ركوب الدراجات وصولاً إلى شاحنة مستأجرة قريبة، حيث كانوا ينتظرون حتى نهاية البحث عنهم. نجحت الشرطة الألمانية في ربط عمليات السطو بعضها ببعض، لكنها لم تنجح في ربطها بشابّى وبونهاردت وموندلوس.

لم يُظهر الثلاثة الهاربون الكثير من علامات القلق بشأن القبض المحتمل عليهم. صحيح أنهم استخدموا بطاقات هوية مزورة، واستأجروا شقتهم بأسماء مستعارة، لكنهم لم يتخذوا الكثير من الاحتياطات أبعد من ذلك. كان الجيران يطعمون قططهم أثناء غيابهم، ويبدو أن الأصدقاء كانوا يزورونهم أسبوعياً عندما كانوا متواجدين في الشقة، وأحياناً كان أولئك الأصدقاء يجلبون معهم أطفالهم. بالصبر، وبإحساس شبه فاتر بالحصانة، نجح بونهاردت وموندلوس وشابّى في تنفيذ أطول سلسلة عمليات قتل سياسية وأكثرها تعقيداً في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب.

عندما زرنا قاعة المحكمة في مدينة ميونيخ أوائل العام الجاري، كانت الأنظار كلها معلقة بشابّى، التي كانت تحملق في حاسوبها المحمول، وبدت أكثر قلقاً من نفاد صندوق مشروب جوز الهند الذي جلبته معها إلى المحكمة، من أي شيء آخر قد يحدث في قاعة المحكمة. بدت شابّى مرتاحة تماماً بشعرها الطويل الأنيق، وبذلتها المعتادة. كانت تبتسم كما لو كانت عارضة أزياء محترفة في جلسة تصوير وجيزة للصحافة، قبل أن تجلس وراء المحامين، الذين كان من الصعب تقريباً التفريق بينها وبينهم.

في القسم المخصص للصحافة والزوار، في جزء زجاجي أعلى قاعة المحكمة، جلس المؤمنون بنظرية المؤامرة، والمدونون، والصحافيون، وطلاب القانون الذين يدرسون المحاكمة، كل أولئك جلسوا سوياً إلى جانب عدد قليل من المؤيدين المخلصين لشابّى. (أكبر معجبي شابّى، كان الإرهابي النرويجي من اليمين المتطرف، أندرس بريفيك، الذي أرسل لها خطاب تضامن من سجنه عام 2012).

اختارت شابّى محامي الدفاع عنها بالأساس اعتماداً على أسماء عائلاتهم القتالية مثل: ستورم (العاصفة) وستال (الفولاذ) وهيير (جيش)، لكنها سرعان ما انقلبت عليهم. فبعد 4 سنوات من المحاكمة، وجدت أخيراً محامياً شاباً أعجبها. كان كلاهما يتهامسان ويبتسمان أثناء جلسات المحاكمة، أمر القاضي الرئيسي في المحاكمة، مانفريد جوتزل، محامي الدولة بالبقاء في قاعة المحكمة، لأن مغادرتهم قد تكون سبباً للنقض: فقد كان القاضي يريد الدفاع ضد أي ادعاء من قبل شابّى بأنَّ محاميها الحالي ليس على اطلاع كامل بالقضية.

جلس المحامون الثلاثة، ستورم وستال وهيير على بعد عدة كراسٍ من شابّى، التي بدت في حالة من الخمول الدائم. خلف شابّى كان يجلس رالف وليبن، وهو نازي جديد متهم بتوفير مسدس Česká لموندلوس وبونهاردت، والذي استخدماه في جرائم القتل. وكانت محاميته، نيكول شنايدرز، قد ظهرت أول مرة في تقارير الشرطة المتعلقة باليمين المتطرف عندما كانت في سن الـ16. كان أعضاء اليمين المتطرف قد اتخذوا مواقع مختلفة، بتنسيق بينهم، في قاعة محكمة ميونيخ. جلس المحامون والمتهمون جنباً إلى جنب، وحيوا بعضهم بعضاً بقبلة على الخد.

كيف استطاعوا العمل دون دعم

عندما نأخذ في الاعتبار مستوى المعرفة المحلية المطلوبة لتنفيذ هذه الجرائم في عدد من الولايات الألمانية المختلفة، مثل المعرفة المفصلة بطرق الهرب في مسارح الجريمة المختلفة، والمخزون الهائل من الأسلحة، وبطاقات الهوية المزورة باحتراف، فضلاً عن تكاليف هذه العمليات، فإن السؤال عن الطريقة التي استطاعت بها جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية العمل دون دعم من شبكة أوسع من المتعاطفين، لا يمكن تجنبه. إلا أنَّ الادعاء بدا أنه يشق عليه معالجة هذا السؤال.

ومع ذلك، وبرغم الإجراءات البطيئة للمحكمة، ومداها الضيق، إلا أنها قدمت سلسلة من الاكتشافات الغريبة حول طريقة عمل وكالة الاستخبارات الألمانية، التي أدت إلى اتهامات بأن هناك عناصر داخل الوكالة إما غضت الطرف عن جرائم القتل التي قامت بها جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية، أو أنها دعمت أهداف المجموعة.

في صيف عام 2013، شهد عميل وكالة الاستخبارات الألمانية، أندرياس تيم، الذي كان داخل مقهى الإنترنت المملوك لخالد يوزجات، في مدينة كاسل، عند تعرض الأخير للقتل، بأنه لم يسمع الرصاصات الصامتة التي أودت بحياة يوزجات، كما لم يلاحظ رذاذ الدم على الحائط وراء مكتب دفع الحساب، حيث دفع حسابه نقوداً معدنية وغادر.

ويتفق المشاهدون لمحاكمة ميونيخ على أنَّ أكثر اللحظات تأثيراً في المحاكمة كانت عندما وصف والد يوزجات كيف وجد ابنه المحتضر، وقال إنَّه من المستحيل أن تيم قد غادر المقهى دون رؤية جسد ابنه المقتول وراء مكتب دفع الحساب، ثم صرخ في شابّى وليبين قائلاً: "لماذا قتلتم ابني؟ ماذا فعل لكم؟".

وقال تيم، الذي أنكر أي علاقة له بالجريمة، إنَّ تواجده في المقهى وقت الجريمة كان مجرد مصادفة وأنه كان وقتها يطالع مواقع المواعدة. وقال في حوار صحافي مع التلفزيون الألماني العام في يوليو/تموز 2012: "لقد كنت في المكان الخطأ في الوقت الخطأ".

عندما استجوبت الشرطة كل أولئك الذين كانوا حاضرين وقت الجريمة، لم يذهب تيم للإدلاء بشهادته. وادعى تيم، بعد الوصول إليه، أنه لم يتطوع للإدلاء بأية معلومات لأنه كان قلقاً من أنَّ زوجته قد تكتشف ما كان يفعله على الإنترنت. لكنَّ والد يوزغات حصل على الكثير من الإيماءات المؤيدة من المشاهدين للمحاكمة عندما قال: "كلنا يعلم أنَّ هذا الرجل يكذب".

أحد شهود الادعاء، وهو شرطي من قرية نشأ فيها تيم، شهد بأنَّ الأخير كان في شبابه معروفاً بـ"أدولف الصغير". وعندما حاولت الشرطة المحلية أن تستقصي أكثر في مزاعم بأن المكتبة الشخصية لتيم تحتوي أدبيات نازية، وكتيبات أسلحة، حماه وزير داخلية ولاية هيس، فولكر بوفيير، من الصحافة ومن التعرض لمزيد من التحقيق.

وجادل بوفيير، الذي يشغل حالياً منصب رئيس وزراء هيس، بأنه كان من الضروري في ذلك الوقت حماية تيم من أجل "ضمان حماية العملاء السريين". وأشعلت صفاقة شهادة تيم غضب الصحافة الألمانية حول امتيازات أعضاء وكالة الاستخبارات الألمانية، لكن الغضب هدأ منذ ذلك الحين. وفي غضون ذلك، استقال تيم من وكالة الاستخبارات الألمانية، لكنه لا زال يحصل على معاش تقاعده.

مسؤولية وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية هي حماية الدستور الوطني من التهديدات الخارجية والتطرف الداخلي سواء كان يميناً أو يسارياً. لكن سجلها فيما يتعلق بالجزء الأخير لم يكن ممتازاً دائماً. فبعد فشل ذريع في اختراق المجموعات اليمينية المتطرفة بعملاء سريين في الثمانينات (كانت وكالة الاستخبارات الألمانية منخرطة في تلك الخطة عن طريق اختلاقها لعصابة غير مُقنِعة من أصحاب الدراجات النارية) اعتادت وكالة الاستخبارات استخدام مخبرين مأجورين، منخرطين بالفعل في الأوساط المتطرفة.

في حالة اليمين المتطرف الألماني، الذي قدرت وكالة الاستخبارات المركزية أعداده، العام الماضي، بـ23850 عضواً، فإن أولئك المخبرين ليسوا مجرد خونة يحصلون على بعض المال الإضافي من خلال الوشاية إلى الشرطة. لكنهم مصادر مدربة ببذخ تم تطويرهم على فترات زمنية طويلة، وتلقوا وعداً بالحماية القانونية، وأمدوا بأموال رفعت من شأنهم في الحركة.

كانت وكالة الاستخبارات الألمانية تأمل أنه عن طريق توزيع الأموال على المخبرين، سيكون لديهم خريطة تمكنهم من الربط بين جماعات اليمين المتطرف عبر ألمانيا. لكنَّ ذلك التوزيع للمال أدى، عملياً، إلى تغذية جماعات اليمين المتطرف، فوفر لهم مستوى من التمويل لم يكونوا ليقدروا على الحصول عليه من أتباعهم المخلصين. وقال هاجو فونكي، أستاذ السياسة بجامعة برلين الحرة، ومؤلف كتاب عن جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية: "ليس ثمة شك في أن وكالة الاستخبارات الألمانية قد بالغت في إغداق الأموال على المخبرين خلال فترة أوائل التسعينات".

تفاخر تينو براندت، الرجل الذي كان أول المرحبين بشابّى، وبونهاردت وموندلوس، في الأوساط اليمينية المتطرفة في بلدة جينا، قبل أن يسجن عام 2014، علناً على شاشات التلفاز الألماني العام بأن الدولة قد أعطته 200 ألف مارك (ما يقارب 100 ألف جنيه إسترليني) في أوائل التسعينات لطباعة منشورات وتنظيم حفلات ومظاهرات.

بالنسبة لزملاء براندت من النازيين الجدد في تورنغن، فقد كان عمله مخبراً مأجوراً سراً معروفاً. لم يعط براندت الدولة أبداً أية معلومات مفيدة، لكنَّ التمويل الذي كان يحصل عليه جعل نمو منظمته وتجنيد النازيين الجدد من الشباب أمراً ممكناً (براندت نفسه لم يحاكم أبداً لصلته بالعنف الذي ارتكبته جماعة الاشتراكيين الوطنيين، لكن حكم عليه بالسجن 5 سنوات ونصف في السجن بـ66 تهمة متعلقة بالاستغلال الجنسي للأطفال، ودعارة الأطفال).

وفي مارس/آذار، أمضى القاضي جوتزل ساعة ليشرح لقاعة المحكمة أنَّ هدف محاكمة جماعة الاشتراكيين الثوريين الوطنية هو الحكم على المتهمين فحسب، وليس التحقيق فيما إذا كان عملاء المخابرات الألمانية على علم بالجرائم أم لا. وفي الشهر التالي، رفض جوتزل التماساً من المحامين الممثلين لأسر الضحايا بتقديم شاهد كان مخبراً يعمل لدى جهاز الاستخبارات الألمانية في تسفيكاو وقت حدوث جرائم القتل الأولى، وكان يعرف قطعاً أعضاءً من مجموعة الاشتراكيين الوطنيين السرية.

كان النازي الجديد المعروف، رالف مارشنر، والمغني السابق في فرقة من حليقي الرؤوس، تدعى وست ساكسون ريف راف، واحداً من أولئك المخبرين المأجورين لدى جهاز المخابرات الألمانية بين عامي 2000 و2002. خلال هاتين السنتين، عاش مارشنر قريباً من شابّى وموندلوس وبونهاردت. وقال ديرك لابس، الخبير في شؤون جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية: "كان مارشنر أبرز النازيين الجدد في تسفيكاو، وهي بلدة صغيرة نسبياً".

لكن عندما حاولت لجنة حكومية- كانت تراجع التحقيق حول جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية- الحصول على ملف مارشنر، أخبرها المدعي العام في ساكسونيا أنَّ "فيضاناً دمر الملف". وبحسب فونكي، فإن مارشنر واحد من أهم الشهود، لأنه "يثبت أنَّ وكالة الاستخبارات الألمانية من المؤكد تقريباً أنها كانت تعرف بشأن وجود الثلاثة في المدينة، إما مباشرة من خلال مارشنر، أو من خلال مراقبة نشاطاتهم". (وقد رفض مارشنر، الذي يعيش حالياً في سويسرا، التعليق على القضية للصحافة).

وقد ظهر ملف مارشنر، وهاتفه المحمول الذي ضاع منذ وقت طويل، فجأة أوائل العام الجاري في سجلات وكالة الاستخبارات الألمانية، وسلم إلى النيابة. كانت محكمة ميونيخ على علم بأنَّ مارشنر، عندما كان يعمل مخبراً مأجوراً لصالح جهاز الاستخبارات الألمانية، من المرجح أنه وظف موندلوس في شركة البناء الخاصة به. كما يبدو من المرجح أن شابّى كانت تعمل في محل الملابس الخاص به، والذي يدعى، هيفن آند هيل (الجنة والجحيم)، والذي كان يبيع القمصان والبضائع النازية سراً. ولا زالت طبيعة العمل الذي كانت تؤديه شابّى لمارشنر غير واضحة إلى حد كبير. هذه الصلات كلها تجعل من مارشنر شاهداً مهماً في القضية. ومع ذلك، فإنَّ القاضي جوتزل رفض محاولات اكتشاف دوره، ووصف مزاعم توظيفه لاثنين من أعضاء جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية بأنها "غير ذات صلة".

وبحسب بيلجين أياتا، وهو أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة بازل، يبحث القضية والمحاكمة، فإن هذا الامتناع نموذج لعدم رغبة الدولة في فحص الارتباطات المزعجة لجرائم القتل التي ارتكبتها جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية. وقال أياتا: "بدلاً من الاعتراف بالتمييز المؤسساتي الذي تكشف عنه القضية، فإنَّ الدولة عرضت نتائج تحقيقاتها على أنها سلسلة من الحوادث المؤسفة فحسب".

وتعد محاكمة شابي أهم محاكمة علنية في ألمانيا منذ محاكمة عصابة بادر ماينهوف، وهي جماعة إرهابية راديكالية معروفة أيضاً باسم فصيل الجيش الأحمر، والتي استهدفت المؤسسات العسكرية الأميركية، ووسائل الإعلام المحافظة والشركات الألمانية في حقبة السبعينات. كلتا القضيتين تمسان سويداء قلب هوية ألمانيا في أوروبا ما بعد الحرب. في حالة قضية بادر ماينهوف، كان السؤال ما إذا كان الشباب الألماني راغباً في الاندماج في الرأسمالية الغربية، وما إذا كانت الدولة الألمانية ستنحدر إلى نوع من الحكم السلطوي. أما في محاكمة شابّى، فالسؤال متعلق بمدى بعد دولة ألمانيا من أن تصبح حقاً دولة مهاجرين، وإلى أي مدى تغلغلت قيم التسامح في المجتمع.

وقال هاجو فونكي: "أراد فصيل الجيش الأحمر أن يهدم الدولة الألمانية. الفرق هذه المرة أنَّ جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية قد حصلت على بعض المساعدة من جزء من الدولة".

استقال هاينز فرومان، رئيس جهاز الاستخبارات الألمانية، من منصبه عام 2012 في الوقت الذي كان يتعرض فيه لضغط من الرأي العام بسبب سوء إدارته لتحقيقات جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية، لكنه لم يذكر أبداً سبب تنحيه، كما لم يعترف جهاز الاستخبارات الألمانية بأية مخالفات ارتكبها فرومان.

بدلاً من ذلك، حمى مسؤولو جهاز الاستخبارات الألمانية مصادرهم واستخباراتهم من كل من البوليس العادي، واللجنة الفيدرالية الخاصة، التي أنشئت عام 2012 للتحقيق في وجود ثغرات في تحقيقات جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية. لكنَّ منتقدي اللجنة الفيدرالية يزعمون أنها أيضاً قد فشلت في التفتيش بشكل أعمق في تناقضات القضية. وقال بيلجين أياتا: "لقد اختارت لجنة التحقيق الفيدرالية ألا تشكك في الادعاء القائل إنَّ جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية كانت محصورة في 3 أشخاص فحسب".

لطالما اعتبر جهاز الاستخبارات الألمانية ذا ميول يمينية: إذ أنشأه الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية، ورحب بالنازيين والأعضاء السابقين في الشرطة السرية الألمانية (الغستابو) للانضمام إلى صفوفه. كانت مهمة الجهاز التجسس على الحزب الشيوعي الألماني والقضاء عليه، إلى جانب القضاء على أعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي. انشق أول رئيس للجهاز، أوتو جون، وهرب إلى ألمانيا الشرقية عام 1954، بسبب العدد الضخم من النازيين في الجهاز. خلفه في رئاسة الجهاز، هوبرت شروبرز، أحد الأعضاء السابقين في وحدات إس إس. حظر الحزب الشيوعي في ألمانيا الغربية نهائياً عام 1965 تحت إشراف شروبرز، وذلك بناءً على مزاعم بوجود أدلة تدينهم سلمتها وكالة الاستخبارات الألمانية. ولطالما كانت الأحزاب السياسية الألمانية الكبرى، مثل حزب اليسار وحزب الخضر، تطالب بإلغاء وكالة الاستخبارات الألمانية.

في الوقت الراهن، ليس لدى الشرطة، ولا المحققين في المحاكمة، الحق في استدعاء ملفات وكالة الاستخبارات الألمانية التي قد تحتوي على أدلة مهمة حول قضايا القتل التي ارتكبتها جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية.

لا زال هناك الكثير من الغموض حول المدى الحقيقي لسلسلة جرائم القتل تلك والتي استغرقت 7 سنوات، خصوصاً ملابسات جريمة القتل الأخيرة، التي وقعت ضحيتها ضابطة الشرطة ميكيل كيسيويتر، التي لا تناسب نمط الجرائم الأخرى. وكانت النيابة قد اتهمت موندلوس وبونهاردت بالهجوم على ضابطي شرطة أثناء أدائهما لعملهما في بلدة هيلبرون في أبريل/نيسان عام 2007، ما أسفر عن مقتل كيسويتر (22 عاماً) على الفور، بينما نجا زميلها من الحادث، لكن دون أن يتذكر أية تفاصيل عن الهجوم.

يظهر تقرير إخباري ليلي عن مسرح الجريمة مع نهاية فيديو النمر الوردي، كما وجدت آثار للحمض النووي لكيسويتر بين البقايا المتفحمة في شقة شابّى، التي أحرقت ببلدة تسفيكاو. لكنَّ نوعاً مختلفاً من الأسلحة قد استخدم في جريمة قتل كيسويتر، ووصف شهود من مسرح الجريمة أكثر من شخصين يركضون بعيداً عن المكان مع آثار دماء على ملابسهم، لكنَّ الشرطة المحلية أعلنت أنَّ أولئك الشهود ليسوا محل ثقة، وصرحت بأنَّ موندلوس وبونهاردت وحدهما من تورّطا في جريمة القتل تلك. لكن لا زالت دوافع قتلهما لضابطة شرطة غير معروفة، كما أنَّ التواجد المحتمل لآخرين في مسرح الجريمة قد زاد من المخاوف بألا تكون جماعة الاشتراكيين الوطنية السرية مكونة من 3 أشخاص فحسب.

وقال آياتا: "بالنسبة للجنة وللمحاكمة، فإن حجم جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية أصبح أمراً واقعاً. لقد تجاهلت المحاكمة الأسئلة التي تؤرق جاليات المهاجرين في ألمانيا: هل لا زالت الجماعة هنا؟ هل لا زالوا يقتلون؟".

طلبت أنجيلا ميركل، في إحياء ذكرى ضحايا جرائم قتل جماعة الاشتراكيين الوطنيين السرية بكونزرتاوي ببرلين، الصفح نيابة عن المحققين الذين أصروا في البداية على أنَّ الضحايا كانوا متورطين مع المافيا التركية. وقالت ميركل: "بصفتي مستشارة، فإنني سأقوم بكل ما بوسعي للكشف عن الجناة والمتواطئين معهم وداعميهم، وإخضاع كل الجناة للعدالة". لكنَّ حكومة ميركل مترددة في القيام بالمزيد من التحقيقات الأعمق بخصوص العوامل الأكثر إزعاجاً في تلك القضية، وبخصوص المشهد اليميني المتطرف المستمر في الازدهار في ألمانيا.

هناك تناقض ذو مغزى بين التراخي في محاكمة شابّى، والاحترافية الموجودة في المحاكمة المتزامنة معها لما يدعى بالنازي "الأخير"، رينبولد هانن (94 عاماً)، أحد الحراس السابقين لمعسكر أوشفيتز. انتهت محاكمة هانن سريعاً في 4 أشهر فحسب، وحكم عليه بخمس سنوات بتهمة "تسهيل القتل" في معسكر الإبادة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل