المحتوى الرئيسى

يحكى أنّ: لا انقلاب يدوم

12/16 20:04

لا يمكن أن أصف لكم بدقة عينَي تشافيز كيف كانتا تبرقان وهو يحدثني عما وقع إذ كان عمره تسعة عشر عاماً، وكأن الحادثة كانت بالأمس القريب وليس في ذلك اليوم من عام ألفين واثنين، "لقد قرأت الصحف وشاهدت التلفاز ولامست ذلك الرعب المتمثل بقصفهم للقصر الجمهوري وقتلهم أليندي، لقد خرج أعضاء الهيئة العسكرية مع آلياتهم وبعضهم بنظارات سود وخوذ كبيرة، فشعرت بقرف إزاءهم، وأنا أقول إنني عسكري ولكني لست هكذا، إنني جندي بوليفاري، ذلك الانقلاب العسكري ضد أليندي كان بمثابة انقلاب ضدي أيضاً".

كان الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز يقصد ما وقع في الحادي عشر من سبتمبر لعام 1973، والذي بدأت حكايته قبل ذلك بثلاثة أعوام، عندما فاز برئاسة تشيلي المرشح الاشتراكي سلفادور أليندي في انتخابات وصفت بأنها نزيهة، وهو الأمر الذي لم يرق حينها للرئيس الأمريكي نيكسون، فأعد خطة لإقصائه شملت الإعلام وشراء ولاءات العسكر وتجييش طبقة الأثرياء.

وفي الموعد المحدد، تحركت القوات المسلحة لتسيطر على المناطق الاستراتيجية، لكن الرئيس المنتخب رفض التنازل عن السلطة، فتحرك العسكر نحو القصر الجمهوري وقصفوه بالدبابات والمدفعية والطائرات، واستمر إطلاق النار حتى تمت تصفية الرئيس وكل من رفض الهرب، لتعلن بعدها الهيئة العسكرية بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه توليها السلطة.

الروايات تعددت حول ما إذا كان أليندي أُعدم أو انتحر مفضلاً ذلك على سقوطه في يد بينوشيه ورجاله. لكن قبل دقائق من قصف القصر الجمهوري توجه أليندي عبر إذاعة سرية بخطاب لمواطنيه، قال فيه: "بالتأكيد ستكون هذه فرصتي الأخيرة للحديث معكم، كلماتي هنا لن تحمل المرارة بل خيبة الأمل، ليكن ذلك عقاباً أخلاقياً لأولئك الذين خانوا قسمهم من جنود تشيلي"، ثم أضاف: "في هذا المنعطف التاريخي، سأدفع حياتي ثمناً لولائي للشعب، وأقول لهم إني على تمام الثقة بأن البذور التي زرعناها في ضمائر الآلاف والآلاف من المواطنين التشيليين لن تذهب هباءً، هم لديهم القوة لحكمنا، ولكن الصيرورة الاجتماعية لا تُحكم بالجريمة أو القوة، التاريخ ملك لنا، والشعوب تصنع التاريخ".

بينوشيه ارتكب بعد انقلابه مذابح دموية وملأ السجون بالمعتقلين وأطاح بكل من يشتبه في مخالفته للانقلاب، حتى إن رفاقه أنفسهم لم يتحملوا نزقه وسفكه الدماء، وكانت محاكمته بعد فترة نهايةً لانقلاب دموي.

كان تشافيز يتحدث غاضباً وكأن الانقلاب في تشيلي قد وقع أمس. الطريف ـ إذا كان هذا طريفاً ـ أن تشافيز نفسه تعرض لانقلاب.

كنا منتصف إحدى ليالي سبتمبر من عام ألفين واثنين عندما اصطحبني خارج القصر الرئاسي وأشار إلى تلة بعيدة وقال: "في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات وسبعة أشهر وصلت مع قواتي إلى هنا، كان الوقت حينها منتصف الليل الساحر، بعد أن خرجنا في عجالة للبحث عن الوطن الذي ضاع منا، تركنا الحياة وراءنا، وإلى هنا وصلنا، كان ذلك في الرابع من فبراير".

كان الرئيس يتحدث عما قام به عام 1992، عندما قاد محاولة للاطاحة بحكومة الرئيس الفنزويلي كارلوس أندريس بيريز معتمداً على تنامي غضب الشارع بسبب الإجراءات الاقتصادية المتخذة. كان قبلها بعقد قد أسس مع أقران له حركة استمد اسمها من سيمون بوليفار، زعيم استقلال أمريكا الجنوبية، فسماها الحركة البوليفارية الثورية، وقال في أسباب تشكيلها: إن الوطن كان يغرق في أزماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، وإن الرئيس كارلوس أندريس بيريز، الذي جاء إلى الحكم عام 1989، كان يأمرنا بقتل الشعب، فنزلت علينا اللعنة، ملعون الجندي الذي يوجه الأسلحة ضد شعبه".

غير أن حركته فشلت والحمد لله ، وإلا كنا أحترنا في تسميتها اليوم أهي ثورة أم انقلاب ، نعم فشلت وأدت إلى مقتل ثمانية عشر شخصاً وإصابة ستين آخرين قبل أن يسلم تشافيز نفسه. وعندما حاول زملاؤه تجديد مساعي الاستيلاء على السلطة بعد تسعة شهور كان تشافيز رهن السجن العسكري، ولم يكن مصير مساعي المحاولة الثانية أوفر حظاً من المحاولة الأولى ، بل باءت أيضاً بالفشل.

قضى تشافيز عامين في السجن قبل أن يحصل على عفو ليخرج ويؤسس حزبه المعروف باسم حركة الجمهورية الخامسة، وينتقل من خندق العسكر إلى خندق الساسة، ويتكرس نضاله السياسي بعد سبعة أعوام بالفوز برئاسة البلاد عام 1999.

خرجنا من القاعة التي كان حديثنا يدور فيها بالقصر الرئاسي، أمسك شيئاً بيده وقال "إنها طلقة نارية من ذلك اليوم، لم تُزَل من هنا قط، لم يغيروا زجاج النافذة، لقد أتيت رئيسا بعد سبع سنوات من ذلك اليوم، وعندما تأملت كانت الطلقة هنا، لم يغيروه البتة، ولا حتى أنا سأزيله".

في السماء ومن نافذة الطائرة، وإذا الوقت كان مساء سترى وأنت تهبط جبالاً تحيط بالعاصمة الفنزويلية كاراكاس، جبالاً مزينة بأضواء خافتة على طولها وعرضها، ستظن أنها منتجعات سياحية، لكنك عندما تتوجه إليها في الصباح سوف تكتشف أنها أكواخ الفقراء الذين استوطنوا هذه الجبال بعد أن ضاقت عليهم العاصمة التي ملأها الأثرياء ببيوتهم وفيلاتهم وسياراتهم.

ولأن ذلك الوقت من عام 2002 كان زمن المظاهرات والمظاهرات المضادة التي لا تتوقف، فإن السؤال هو كيف تستطيع التفريق بينها دون الاستعانة بصديق؟ الأمر سهل؛ مظاهرات المعارضين، وهم طبقة أثرياء النفط والثروات المحتكرة، تشبه الحفلات الغنائية وعروض الأزياء، شباب وفتيات، وموسيقى صاخبة، وعناق، ورقص، وصنوف من الدخان.

أما مظاهرات المؤيدين فقوامها الفقراء، بسطاء تشعر بأنهم من نفس طينة الأرض التي ولدوا عليها، يرتدون في الأغلب قمصانهم الحمراء، رمزاً لثورتهم التي قادها تشافيز، شعارات، وطبول، وأغاني ثورية، وبوليفار حاضر دائماً.

قال لي تشافيز في تلك الليلة: "بعد عيسى المسيح الذي هو قائدي الأول يأتي بوليفار كقائدي الثاني، كنت أشعر دائماً بأني جندي من جنوده، ووريثه، وعضو في جيشه، إذ يجب عليّ استخدام سيفي للدفاع عن الضمانات الاجتماعية، أي ضمانات شعبي، وإلا فإني لست بجندي بوليفاري، وسأكون ملعوناً إذا وجهت أسلحتي ضد شعبي".

قبل أن أصل إلى فنزويلا بعدة شهور عام 2002 شن (إياهم) حملة إعلامية شرسة ضد تشافيز، يقول العارفون بالأمر إنهم تحالف رجال الأعمال مع العسكر وبرعاية أمريكية. ولأن الدولة لا تملك سوى القناة الرسمية الفقيرة، ولأن الآخرين يمتلكون قنوات خاصة قوية وثرية وشديدة التأثير، اتُّهم تشافيز بأنه يدعم الإرهاب، وسُيِّرت المظاهرات ضده ورفعت صور كاريكاتيرية له مع ابن لادن، ووصف أتباعه ومناصروه بأنهم رعاع وهمج.

بيدرو كارمونا، رئيس أكبر اتحاد للاستثمارات في فنزويلا، وكارلوس أورتيغا رئيس قناة CTV، كانا على رأس المعارضة بعد أن عادا من زيارة لواشنطن.

المؤيدون لتشافيز نظموا مظاهرات مضادة، ووقعت اشتباكات متفرقة بين الفريقين، وتمركز القناصة يضربون في الجانبين ليشعلوا المواجهات، وليسقط قتلى وجرحى، الكاميرات المسلطة نحو جموع المؤيدين وحدهم ترصد وتلتقط أي مشهد لمؤشرات العنف، وتعيد بثه مرات ومرات.

وفي الموعد المحدد، وبدعم من بعض قيادات الجيش احتجز تشافيز بالقصر الرئاسي، بعد أن تم التهديد بقصفه، وقطع بالفعل الإرسال التلفزيوني عن القناة الحكومية، تداعت الأحداث سريعاً، إلى أن قام تشافيز بتسليم نفسه لقيادات الجيش مع تمسكه بعدم تقديم استقالته كرئيس شرعي للبلاد.

وُضع تشافيز تحت وصاية المجلس العسكري وتأسست حكومة انتقالية فورية، واستيقظت فنزويلا في اليوم التالي على رئيس جديد غير معروف، وبدأت الشرطة حملات الاعتقال والترهيب للمواطنين.

تظاهر أنصار تشافيز، طرحوا الاستفتاء كبديل، أحاطوا القصر الجمهوري بأعداد ضخمة، هتفوا "تشافيز لم يستقل.. تشافيز معتقل".

كان الليل يمضي سريعاً وقد انصرف أغلب موظفي القصر، فيما كنت أنا وفريقي في كامل يقظتنا ونحن ننصت له حاكياً قصة الانقلاب الذي تعرض له، برغم إرهاقنا بعد يوم حافل من العمل. قال تشافيز: "أما كيف حصل؟ فلا شك في أنكم بحثتم في الأمر. هناك نخبة سياسية دنيئة لا أخلاقية وغير شرعية، هي نخبة عسكرية خائنة، نخبة عسكرية تدافع عن مصالحها وامتيازاتها، ومعها نخبة دينية، ونخبة إعلامية ونخبة نقابية لا أخلاقية وفاسدة، كل هذه النخب توحدت، في نخبة واحدة موحدة وأطلقت تلك الخطة الخبيثة".

"وهكذا وفي يوم من الأيام وبإرادة المتآمرين الفاشيين في ذلك الفجر من شهر أبريل، تحولت من رئيس في هذا القصر إلى سجين في زنزانة، وتأقلمت روحي بسرعة متناسبة مع هذا التحول. لكني بسرعة أيضاً شرعت في وضع خطط للعودة في الأربع والعشرين ساعة التي تلت، ولعلي فجأة عدت طفلاً من جديد، ربما كنت أخشى الموت في الساعات الأولى فقط، لكن الخوف تحول فيما بعد إلى شيء سام؛ فكنت مستعداً للموت".

"نعم ، كنت في الساعات الأولى لاعتقالي أشعر بخوف مختلط بحالة من عدم اليقين ، ثم شعرت بالحرية وبدأت أحلق في حريتي فعمت السكينة ضميري. لكن ذلك تحول فيما بعد ليجعلني كالجمل، وشعرت بالوحدة في تلك الزنزانة، ثم بسرعة أصبحت أسداً، ولم تعد الزنزانة صحراء بل صارت غابة".

وفيما كان تشافز في سجنه إثر الانقلاب عليه كانت أعداد المتظاهرين المؤيدين تتزايد بسرعة، كانوا يدافعون عن مكاسبهم وعن ثورتهم، أحاطوا بالقصر الجمهوري، ملؤوا الشوارع، المعارضون الانقلابيون كانوا يتراجعون بسرعة على رغم الدعم المعنوي الأمريكي.

مروحية عسكرية تحوم حول القصر الرئاسي، أضواؤها تبدد ظلمة الليل، المواطنون الأنصار يتابعونها بقلق شديد، تحط رحالها في ساحة القصر، الناس عن بعد يحبسون أنفاسهم، يخرج الرئيس، تعلو الهتافات، ويختلط بأنصاره يعانقهم ويعانقونه، ثم يصعد إلى المنصة، يبدأ خطابه مستشهداً بآية من إنجيل مرقس، ثم يقول لأنصاره لقد حميتم الشرعية وأعدتموها. 

نرشح لك

Comments

عاجل