المحتوى الرئيسى

إسراء عرفات تكتب: الصوفية وإعاقة قيام الحركات الاجتماعية | ساسة بوست

12/16 13:06

منذ 1 دقيقة، 16 ديسمبر,2016

من بين الأشياء الكثيرة التي أثارت حَيرتي إبان تصفحي لمواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا، ذلك الانتشار الكثيف لصورة الرقصة الصوفية التي يُؤديها رجلٌ يرتدي ثوبه الأبيض ويدور حول نفسه، وكأنّه يُعلن انسحابه من هذا العالم ودخوله إلى عالم آخر ليس فيه سوى فسحة التجلّي، وعلى الرغم من تلك الجمالية الفريدة التي تنطق بها تفاصيل تلكَ الصورة إلا أنّها دفعتني للتفكير في خطورة المعنى الذي تُؤسّس له في المرحلة الحالية؛ حيثُ الانتكاسات طالت غالبية ثورات الربيع العربي، وحيثُ هشاشة التعاطي العربي مع هذه الانتكاسات سواء من خلال الابتعاد عن الشأن العام أو الخضوع والاستسلام لما أفرزته سُلطة الأمر الواقع.

وهنا، يُمكن اعتبار العودة إلى الطرق الصوفية أحد أشكال هذه الهشاشة في التعاطي مع لحظات الانتكاسات والهزائم الكبرى، ففي هذه اللحظات تكون العودة إلى هذه الطرق بمثابة هروب من مسالك نقد الذات والاعتراف بالأخطاء إلى مسالك الزهد والتقشف وهجران الشأن العام، وتأتي هذه العودة لتعكس هزيمة روحية أعمق وأكثر تجذّرًا في نفس الفرد، الأمر الذي يصعب معه إعادة بناء وتنظيم حركة اجتماعية –تقوم على مقاومة أو رفض أو تنفيذ تغيير اجتماعي أو سياسي ما-  قوامها أفراد يتميزون بإدراك الواقع والسعي الحثيث لتغييره والانتصار عليه.

ونلاحظ أنّ غالبية المهتمين بمتابعة نتائج حراك الحركات الاجتماعية يَلجؤون إلى الجانب المادي في تفسير تلك النتائج، بمعنى جملة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في تكوّن تلكَ الحركات دونَ الالتفات إلى أصل هذا التكوّن الذي نشأ من تنامي حالة السخط والاعتراض في نفوس أفراد بعينهم ودفعت بهم تلكَ الحالة إلى الرغبة في تغيير الواقع والتمرّد عليه. وعكس هذه الحالة تمامًا هوَ ما يحدث في نفس الفرد عند التجائه للطريقة الصوفية التي تجعله يتعامل مع الواقع بطريقة يغلب عليها الطابع السلبي عبر التسليم به وتقبّله أو الانسحاب منه والتنكّر له.

هناك الكثيرون ممن يعتقدون بأنّ إعادة تجديد وبناء الحركة الاجتماعية إنّما يتمّ عبر الإعداد الروحي لأفرادها عن طريق ما يُعَرف بالتصوّف، والواقع أنّهم في اعتقادهم هذا يبتعدون عن حقيقة اللفظة وما تحتويه من معنيين اثنين؛ الأوّل بوصفها تأتي لتُعبّر عن انسحاب رهباني من الوجود، ومن الحركة الاجتماعية بالتالي، حيثُ يتجسّد هذا الانسحاب في انتظار فاعل خارجي (مخلّص/ منقذ) يرفع عنهم الظلم والاستبداد الواقع عليهم، ويُساعدهم على مواجهة قوى قاهرة يعجزون عن مقاومتها، هذا الانتظار الذي أطلقَ عليه علي شريعتي مُسمى «الانتظار السلبي» هو انتظار يُغيّب الفعالية الإنسانية التي هي أساس نشوء الحركة الاجتماعية، ويُكرّس انسحاب الفرد من المجال العام الذي يَفترضُ عليه موقعه باعتباره مستخلَفًا أن يُؤثّر فيه[1].

أما المعنى الثاني الذي تحمله لفظة التصوّف وتجعلها عائقًا أمام بناء الحركة الاجتماعية فهيَ التربية الروحية التي تقتصر على تزكية النفس ومُكابدتها داخليًا دون أن ينعكس ذلك على حركتها في مجالها الحيوي الخارجي، فهنا تُفرَّغ التربية الروحية من غايتها بوصفها أساسًا لحركة جوانية/نفسية يُعِدُّ بها الإنسان نفسه لحركة برانية/اجتماعية يَبرز من خلالها باعتباره فاعلًا حقيقيًّا ومؤثّرًا[2].

وضمن هذا السياق، فإنّ محمد إقبال يُميّز في فلسفته بين ما يُسميه الوعي النبوي والوعي الصوفي، ويذكر في كتابه «تجديد الفكر الديني في الإسلام» أنّ أحد شعراء الصوفية الأفغان كتب قصيدة يقول فيها: إنّ النبي عرج ليلة الإسراء والمعراج إلى السماء ثمّ عاد، وأقسمُ بالله أنّني لو كنتُ أنا ما عدتُ أبدًا.

ويُعقّب إقبال في كتابه على كلمة هذا الشاعر الصوفي بقوله: هنا يظهر الفرق بين الوعي الصوفي والوعي النبوي، فبالنسبة للمتصوّف؛ مقام الشهود هو أرفع مقام ولا رجعة بعده، وبالنسبة للنبي فهذه بداية، وليست نهاية؛ فالنبي كان لا بدّ أن يعود للأرض، لأنّ مسألة الخلاص بالنسبة له تختلف عما هيَ عليه عند الصوفي، فإذا كان الصوفي يسعى للخلاص الفردي أو كانت المسألة بالنسبة له مسألة متعة روحية أو مواجد صوفية، فالنبي يسعى من خلال الطاقة الروحية التي يختزنها في داخله إلى تحريك الحياة وتغييرها، فهذه الطاقة ليست طاقة إنسان زاهد مترهب منعزل في كهف، بل هي طاقة إنسان حامل رسالة، فالمسلم الحقّ هو إنسان حامل رسالة لا يعيش لذاته أو لخلاصه الفردي فقط[3].Top of FormBottom of Form

أخيرًا، فإنّ غسان كنفاني يُورد في روايته -غير المُكتملة- «الأعمى والأطرش» قصة شخصين مصابين بالعمى والطرش يُمضيان حياتهما في انتظار معجزة تأتي لهما بالشفاء، ثمّ يذهبان إلى ضريح وليٍّ تعارف الناس على الذهاب إليه طلبًا لتحقيق رغباتهم المختلفة، فيخيب ظنّهما لما يكتشفان أنّ رأسَ هذا الولي -الذي يُشاهده الناس معلّقًا على أحد فروع الأشجار ورافعًا يديه إلى السماء- ليسَ سوى ثمرة فطر نابتة هناك، ثمّ يتوجّهان إليه بقولهما: «إنّما أنتَ ثمرة طيشٍ تنبتُ في رؤوس الكسحاء، الذين يتعلّمون بجرعات البؤس المرّ، أنّ الحياة ليست سوى الانتظار». وهكذا هي لفظة التصوّف بما تحمله من معاني الزهد والدروشة والانتظار السلبي، فهيَ بمثابة الأفيون والمخدّر التي تُعيق قيام كلّ حركة اجتماعية. هذا وإنّه على الرغم عن كمّ الجمال الذي تفيض به الرقصة الصوفية المعبّرة عن الارتباط بالخالق، إلا أنّ صلاة المؤمن الحقة عليها أن تُعاكسها في المعنى والتصوّر؛ حيثُ تزكية النفس داخليًا هو البداية للحركة الاجتماعية خارجيًا، وحيثُ هذه الحركة في تموجاتها وسعيها الحثيث نحو التغيير ترفض كلّ سكون أو تواكل أو دروشة.

[1]  عبد الرحمن أبو ذكرى: من هنا نبدأ، مركز نماء للبحوث والدراسات، 4/11/2016

[2]  عبد الرحمن أبو ذكرى: من هنا نبدأ، المرجع السابق نفسه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل