المحتوى الرئيسى

فِرجينيا وولف.. بيتٌ تسكنهُ الأشباح

12/16 02:07

في أي وقت أصحو فيه كان ثمة باب يُغلَق. تَنقّلا بين الغرف سوية، تارة يرفعان شيئاً ليريا ماذا يكمن تحته، وتارة أخرى يفتحان غلَقَاً ليتفحّصا مكنونه، من باب التأكيد أنهما بحثا في كل مكان. كانا زوجين من الأشباح.

هي: «هنا تركناه». وهو أضاف: «وهنا أيضاً!». هي (متمتمة): «وتركناه في الطابق العلوي». هو (هامساً): «وتركناه في الحديقة أيضاً». معاً: «بهدوء، وإلا سنوقظهما».

ولكن لم تكن المسألة أنكما أيقظتمانا. آه، أبداً ليست كذلك. قد أقول: «إنهما يبحثان عنه، إنهما يسدلان الستارة» واستمر بعدَها بقراءة صفحة أو صفحتين في كتاب. أو ربما أقول وأنا متأكدة: «الآن لقد وجداه» كافية نفسي عناء الكتابة. بعدها، وبسبب إرهاقي من القراءة، ربما أنهض فأبحث بنفسي لأرى المنزل خالياً، والأبواب مشرَّعة، وحدها اليمامات تهدل بحبور، بينما يصل إلى سمعي همهمة آلة درس الحنطة في المزرعة. فأتساءل: «لم جئتُ إلى هنا، عمَّ كنت أبحث؟». يداي كانتا فارغتين. «ربما كان ما أبحث عنه في الأعلى»، ويتبين أن التفاحات فقط كانت في العليّة، فأعود إلى الأسفل من جديد، لكن كل شيء في الأسفل كان ساكناً كعادته، فقط الكتاب كان قد انزلق إلى العشب.

لكنهما وجداه في قاعة الاستقبال، بالتأكيد لم يكن بمقدور أحد أن يراهما. وزجاج النوافذ لم يعكس إلا صور التفاحات، وصور الزهور، وكلّ أوراق الزهور كانت خضراء في صورتها على الزجاج. لو كانا دخلا إلى غرفة الاستقبال لكانت التفاحات أظهرت لونها الأصفر فقط. ولكن، في اللحظة التالية، لو كنت دخلتُ لتمددا على الأرض، أو لتعلقا فوق الحائط، أو لتدليا من السقف، ماذا..؟ كانت يداي فارغتين، ولايزال ظلّ طائر السمنة ينعكس على السجادة، ومن ذاك الصمت القادم من بعيد لا أزال أسمع هديل اليمامات. «لا نزال بأمان،لا نزال بأمان، لا نزال بأمان»، هكذا ينبض قلب البيت برقّة «ما زال الكنز مدفوناً، والغرفة...»، وهنا توقف نبض القلب لوهلة، حسناً، هل الغرفة هي الكنز المدفون؟

بعد لحظة كان الضوء قد ذوى. خرجنا الى الحديقة مرة ثانية؟ ما بال الأشجار تعكس لوناً أسود بدل أشعة الشمس المنتثرة، وهذا الضوء النادر الجميل اختفى تحت السطح وأنا كنت أظنه دائماً يحترق من وراء الزجاج. داخل الزجاج لا يوجد سوى الموت. الموت كان بيننا، جاء الى الزوجة أولاً قبل مئات السنين، ثم غادر الرجل المنزل، وبقيت الغرف مظلمة. لقد غادره، لقد غادرها، اتجه شمالاً، اتجه شرقاً، شاهد النجوم تشعّ في الجنوب، ثم عاد الى البيت يبحث عنه بعد غياب فوجده يسبح غارقاً تحت منحدر التلة. «لا نزال بأمان،لا نزال بأمان، لا نزال بأمان»، أصبح نبض البيت يخفق بسعادة «الكنز سيكون لكما».

تعصف الريح أعلى الدرب المشجّر، والأشجار تطأطئ رؤوسها وتنحني هنا وهناك، وأشعة القمر تسقط بوحشية فتنتثر في ماء المطر. لكن أشعة المصباح تنفذ مباشرة من النافذة، والشمعة تحترق بثبات وصمت. إنهما يتجولان في المنزل، يفتحان النوافذ، يتحدثان بهمس كيلا يوقظانا، زوج الأشباح يلتمسان سعادتهما.

هي: «هنا نمنا» وأضاف هو: «قبلات لا عدد لها»، هي: «نمشي في الصباح»، هو: «الأضواء المتلألئة بين الأشجار...»، هي: «في الطابق العلوي...»، هو: «في الحديقة...»، هي: «عندما جاء الصيف...»، هو: «في وقت الثلج شتاءً...»، تُغلَق الأبواب وراءهما من بعيد، وتنقر على نحو رقيق مثل نبضات القلب.

يقتربان أكثر، يتوقفان عند مدخل الباب. تسكن الريح، والمطر ينزلق إلى المصباح فضياً الى أسفل النافذة، تعتمت عيوننا، لم نعد نسمع صوت وقع خطوات بجانبنا، لم نعد نرى أي سيدة تتدثر بعباءتها الشبحية. يمد يده ليحمي المصباح، يهمس: «انظري، يبدوان نائمين والحبّ يغمر شفاههما».

ينحنيان وهما يحملان مصباحهما الفضي فوقنا، ويحدقان فينا طويلاً وبعمق. ويطول توقفهما، والريح تقود طريقها على نحو مستقيم، ولهب الضوء يتمايل بنعومة، وأشعة القمر المتوحشة تعبر الأرض والجدار، وتجتمع، فتصبغ الوجهين المنحنيين، الوجهين المتأملين في النائمين، والباحثين عن سعادتهما المخفية.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل