الحرب والشعر صديقان
لماذا يكتب الشعراء عن البيوت والأصدقاء والأزقة والذكريات والدم والدمار والفوضى؟ لماذا يتركون الحب ينام جانباً عندما تخطف الحرب ذكرياتهم؟ هل هم يكتبون عن حبّهم لتلك الشوارع وأبواب بيوتهم التي شهدت جلساتهم مع الأصدقاء وحوائط غرفهم الشاهدة على سنوات العمر؟ هل لأن آثار الحروب عميقة وظاهرة ومتغلغلة وتفقد جمال سرية الحب؟
في هذه المختارات أصوات جديدة شابة لشعراء ليبيين، هم مراسلو حرب، (إن صحّت التسمية)، ينقلون عبر قصائدهم شواهد الحرب اللعينة التي طالت مدنهم وبيوتهم وأحبابهم، ينقلون وقائع الموت، السيارات المفخخة، أصوات الرصاص والطائرات الحربية، حوارات الناس حول ما يحدث. قصائد موجعة، ولكنها تتأمل الواقع وتتمنّى أن تنتهي الحرب.
يقول جوستن ترودو: «نحتاج الشعراء لتغيير العالم»، ولكن هل الكلمات تستطيع الصمود طويلاً أمام القسوة. شعراء هذا الملف يكتبون لعقد نوع من المصالحة مع الأشياء التي لا يستطيعون السيطرة عليها في ظل تسارع الحدث اليومي، لن نقرأ عن الضحايا وأطرافهم المبتورة بشكل مباشر، ولكنهم في هذه القصائد نجوم في السماء، إذ ربما الكتابة بهذا الشكل المغاير تسمح للعالم في أن يتغير وأن يكون رحيماً مع الأبرياء في أي مكان من الكون.
لم نعش مئة عام من العزلة
إلا أن كلماتنا نبتت على طرف الألسنة
فلم يعُد في هذا البلد الحزين
الجنود يأكلهم الموت بفجع على مرأى الحياة
تجار الحرب يأكلون حياة الكادحين بمباركة الموت
مسؤولو الدولة لا يكفّون عن الكلام فحسب
موظفو المصارف صاروا نجومًا لامعة
وباقي الفن ليس أفضل حالاً.
مازال صوت العم سالم يتردّد صداه
وهو يؤكد أننا سنظل على هذا الحال
ما لم نجب على ذلك المواطن
الذي وقف منذ أكثر من عشرين عامًا
متسائلاً: مَن سرق الجامع؟ وأين ذهب يوم الجمعة!
عندما أهدرت دماؤنا يوم الجمعة
وقفز الجامع فوق أعناقنا خنجرًا.
بأسلحتي الملوّنة أﻣﺎم حصونك الفاتنة.
ﻳﻜﺘﺐ ﻛﻞ ﻳﻮم ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪث
ﺑﺄﻧﻲ ﻻ زﻟﺖ أﻗﺎوم ﻣﻦ أﺟﻠﻪ
ﺣﺎﺋﺮ، ﻫﻞ أدﺧﻞ أم أﻧﺘﻈﺮ أﻛﺜﺮ؟
أﺧﺎف ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺎﻟﻤﻚ ﻣﻦ ﻧﺼﺮي
أﺧﺎف ﻋﻠﻰ ﻏﻴﻮﻣﻚ وﺧﻮاﺗﻤﻚ وأرﻧﺒﻚ
وﻟﻜﻨﻨﻲ ﻻ أرﻳﺪ إﻓﺴﺎد شيء.
أرﻳﺪ أن أﺻﻠﺢ ﻋﻼﻗﺘﻲ ﻣﻊ اﻷرض واﻟﺴﻤﺎء
أﻧﺎ ﻣﺜﻠﻬﻢ ﻏﺎرق ﻓﻲ اﻟﺤﺮب
الحربُ تمتهنُ الموتَ على أكملِ وجه
تقتلُ مَن كان برفقتنا اليوم
الحربُ تقولُ على لسانِ صنّاعها
هل سيزورنا الشتاءُ مرةً أخرى
هل سأكونُ شجاعاً بما يكفي
لأنفقَ المزيدَ من الحبرِ وأُكملَ القصيدة؟
هل سينقذُ صوتُ حبيبتي ما تحطّمَ منّي
خطوةٌ أخرى تكفي لتطلعني على كلّ شيء!
رغيفُ خبزٍ تصدّعَ من ألمِ الوقوفْ
بقعة ماءٍ على رصيفِ بكائنا اليومي
تعكسُ لي قتامة الغدِ البعيد
فيلعب الأولاد في أرجوحة الوقت
سأحدثُ ابنيّ عن جمالِ البلاد
خدعةُ أن ليبيا تقرأُ من الجهتين.
سأطلبُ منهم أن يبقوا النوافذَ على اتِساعِها
مشرعةً وبلا ستائِر، ليمرَق دونَ خجل.
سأطلبُ من السقفِ أن يكونَ رحِيماً
ليتركَ لنا فرصةً أخيرةً، للحُلم.
درسُ التجميلِ لن يُخفي بشاعتَك
وصوتكِ المسروقُ، لن يطرحَ قلبي أرضاً،
كيفَ يمكنُ لنَارِها أن تَستمر؟
قد تكونُ عندَ بابِ البيت،
أحْكي عن السُّلطانِ الحزينِ، والفارسِ الشُّجاع
عن عوالمٍ من ألوانٍ، ومدائنَ من سكرٍ ووُرود
عن أطفالٍ لا يعرفونَ الحُزنَ، وعصافيرَ لا تملُّ الغِناء،
وكيفَ يُزيحونَ صوتَ القتالِ بغِنائِهم.
سأطلبُ منهُ التَّمهلَ حتىَ تَنتهي الحِكاية،
الذي نتنسم ذراته كل يوم
أعلق عليه غسيل الوقت الفائح
أعلّق عليه ضحكة ارتسمت على وجه قتيل أماته حب وطن ميت
والكذب المدسوس في ضحكة الساسة العظماء
وترحمهم على الشهداء في مفتتح كل هراء
ساروا حفاة إلى مدرسة مشطورة
أعلق عليه وينبغي أن يكون متيناً هنا
الذي صار على هيئة سراب.
بالرصاصةِ وهي تفتحُ طريقاً للحياة
بالشهداءِ يحملون الوطن في القلوب
سأحتفي بالقصيدة في زخم القنابل
بالزغاريد تتنازعُ على مساحةٍ في الضجيج!!
بالأرواح التي تقرأُ الغد جيداً
وتمضي وحيدةً في صخبٍ جميل
سأحتفي بـ (ليبيا) لا يُلخصها أحد
ولا يشطبها أعمى من كيان الجغرافيا العظيم!!
بالعصافير تحلقُ قريباً رغم أنف الطغاة
وبالأحلام لا تسقط في قبضة الإعياء!!
أحلم بك رغم العيون الدامعة
ومواكب الشهداء تمرُّ إلى قبورها
وتمسحين على رؤوسنا بحنانٍ أم عميق!!
بالصغار الذين فتحوا لنا باب الرفض
وبالكبار وهم يُفسِدون كل شيء
كي لا نظلّ نلعنك ونحن نقصدُ غيرك
وكي لا نخطئ في أن نتهجّى اسمك
وكي نراكِ بلهفتنا واضحة جلية!!
والرصاصةُ الطائشة لا تفرّقُ بين الرؤوس
حين كنا نتقاسم الضحكات في طابور الخبز
ونحن نحيا معاً ونموت معاً
ونفرشُ الأمنية الصغيرة قبةً للجميع!!
تُرى كيفَ هُوَ صُبحُهُ الغريب
– كم حَبَّةَ دواءٍ سيبتلِع..
وكم هُوَ هائِلٌ إفطارُهُ الصباحيُ البعيد؟!
ـ في خبرٍ غيرِ عاجِل:
«الطاغيةُ على وجهِهِ يهيمُ في الصحراء!».
ـ لكِنَّ أُمَّ السجينِ مِن عِقدينِ وأكثر،
ولسوفَ تهجعُ إلى بيتِ الحدَّاد!
لا تتمادوا في الثورة أكثرَ مما يجِب!
....... إلى بِلادٍ مُنجَزَةٍ لِأرتاح!
ـ هذا مِما كانَ عليهِ الحالُ
........ في زمنِ طُغاةٍ قَد أفلْ.
ـ بعدَ أن هَرَسوا القُبَّةَ في مطبخِ الأخبارِ
ـ لا تترُكيني لِوحدي يا امرأة،
ولم تعُد حوافرها تغًبر في المعارك
ولم يعُد صهيلها يعلو على صليل السيوف
ولم تعُد تلمع في أحداقها السيوف والرماح
صارت تجرّ العربات في الشوارع الفقيرة المزدحمة
أو تتبختر في اسطبلات الأثرياء
لم يعُودوا يراهنون عليها في المعارك
وأصبحت تخرج من أغمادها في الاستعراضات
استراح الحمام الزاجل من الطيران بين الجبهات
منذ أن صار حبيساً في الأقفاص
لكن البنادق والمدافع صنعت بلا أغماد
وفي غيابك نسعى إليك دون كلل
الاستبداد والغباء والغرور تشعل الحروب
مَن أشعل حرب داعس والغبراء؟
ومن أشعل حرب البسوس سوى ناقتها
هل كان باي الجزائر سيكسر منشته
أيّها المعلم ويّا أيّها الطالب
أيّها المزارع ويا أيّها السائق
أيّها الحرفي ويا أيها المحاسب
وستتغير الولاءات من دون أن تدري
في زمن الحروب تتكاثر الميليشيات مثل الطحالب
ميليشيات مع الشريعة وأخرى مع الدستور
ميليشيات تكافح الخمر والمخدرات وأخرى تروّجها
ميليشيات رجالها ملتحون وأخرى حليقون
جميعها أطلقت على نفسها أسماء الشهداء
جميعها لها سجون وتحلب ما تبقى من الدولة
جميعها تمارس النهب والسطو والخطف
وجميعها تدّعي أنها تمثل الثورة
في النهار يمارسون ورعاً صارماً
وفي الليل عندما يسكرون يطلقون النار في الهواء
ستقفون في طوابير الخبز والوقود والمصارف
وستتعوّدون على هدير المولدات في المنازل
وسيلعب الأطفال في الشوارع بالأسلحة
وسيميّزون بسهولة بين أنواع القذائف
Comments