المحتوى الرئيسى

أنظمة التعليم فى مواجهة الحياة العصرية

12/15 21:24

فى العصر العولمى الحالى، الذى يهيمن على كل مناحى مسيرته الموضوع الاقتصادى من جهة وثقافة الاستهلاك النهم السطحية من جهة ثانية، يتركز الاهتمام على مسئولية النظام التعليمى فى إعداد الطلبة لحاجات أسواق الحاضر والمستقبل. ففى كل يوم يجأر السياسيون والاقتصاديون بالشكوى من أن النظام التعليمى لا يخرج شبابا قادرين على العمل بفهم وكفاءة فى شتى مؤسسات العمل المحلية والدولية.

وبالطبع فإنه لا يوجد أى خلاف حول ضرورة إعداد أجيال المستقبل من النواحى المعرفية والمهنية والسلوكية ليكونوا صالحين لمتطلبات أسواق العمل. لكن هل هذه هى المهمة الأهم، التى تعلو على كل مهمة، أم أن هناك مهمة أخرى لا تقل فى أهميتها وضرورة تحققها عن هدف إعداد القوى العاملة لمتطلبات الأسواق؟

ليس هذا بالسؤال الجديد، غير أنه لا يطرح بما فيه الكفاية وبنفس القوة من قبل أنظمة الحكم ومؤسسات المجتمع المدنى. ذلك أنه من النادر أن يطرح موضوع مهمة مؤسسات التعليم والتربية فى إعداد الشابات والشباب لمتطلبات الحياة التى سيعيشونها.

من هنا أهمية طرح ذلك الموضوع خلال الأسبوع الماضى فى مناسبتين: الأولى فى اجتماع فى الكويت ضمَ مسئولين من الجامعة العربية المفتوحة مع مسئولين من الجامعة البريطانية المفتوحة، والمناسبة الثانية فى محاضرة عامة فى إحدى قاعات الجامعة الأمريكية فى بيروت.

لقد طرح الموضوع فى شكل سؤالين. السؤال الأول: ما الذى يميز الحياة العصرية الحالية التى يعيشها الإنسان؟ والسؤال الثانى: ما المطلوب من النظام التعليمى من أجل إعداد أجيال قادرة على التعامل مع تلك الحياة العصرية؟

السؤالان مطروحان على مستوى العالم، وبالتالى على مستوى الوطن العربى.

الجواب على السؤال الأول يتلخَص فى ظاهرتين عالميتين بارزتين. فأما الظاهرة الأولى فهى ظاهرة التعقد الشديد لنشاطات الحياة العصرية الذى يقود شيئا فشيئا إلى تشابك وتداخل حقول المعرفة مع بعضها البعض. فمثلا لو أخذنا حقل الاقتصاد فإنه يؤثر على ويتأثر بحقل السياسة وتقلباتها، وبحقل البيئة المعقد بدوره بسبب تشابك علوم الإنسان والحيوان والنباتات والجراثيم والمياه وتقلبات الطقس، وبحقول التاريخ والجغرافيا والدين والأمراض النفسية وفلسفة الأخلاق والقيم،..إلخ. كل تلك الحقول هى أيضا تؤثَر على بعضها البعض ومتشابكة مع بعضها البعض.

وأمَا الظاهرة الثانية فهى ظاهرة المراجعات الكبرى لليقينيات السابقة الكبرى. كل ما اعتقدنا أن قرون التاريخ الماضية قد حسمته يطرح الآن لعمليات المراجعة والتحليل والنقد. وذلك من أجل تجاوزه ليقينيات جديدة.

إذ هناك مراجعة نقدية لموضوع النظام الرأسمالى العولمى الحالى الملىء بالنواقص والأخطار والذى أدى إلى اقتصاد الواحد فى المائة، أى امتلاك واحد فى المائة من البشر لأغلب ثروات العالم فى حين ترزح الغالبية فى الفقر والعوز.

وهناك مراجعة لعلم السياسة، وعلى الأخص للنواقص الكثيرة فى الأنظمة الديمقراطية التى سمحت بصعود تنظيمات اليمين الأصولى المتطرف وبوجود أنظمة انتخابات تهيمن عليها احتكارات المال والإعلام.

وهناك مراجعات لشعارات الأنوار الأوروبية وللحداثة والتى لم تنجح فى إبعاد العالم عن ظواهر الاستعمار والعنف والانحلالات الأخلاقية وشتَى أشكال الظلم.

وهناك مراجعة للكثير من الجوانب السلبية لحقلى التقدم العلمى والتقدم التكنولوجى، خصوصا فيما يتعلق بغياب الضوابط الأخلاقية والقيمية التى يجب أن تحكم مسيرتهما.

وهناك مراجعة للجوانب السلبية الكثيرة فى حقل الإنترنت، سواء من ناحية سلوكيات وفساد الشركات التى تديره، أو من ناحية أخطار إمكانية محوه للكثير من المهن فى المستقبل وبالتالى حدوث الزيادة فى البطالة والنواقص الشديدة فى فرص العمل، أو من ناحية ظهور بوادر سوء استعمال شبكات الإنترنت من قبل الموتورين والمجانين.

إذن نحن نعيش فى عالم معقد ومتشابك، وفى عالم خاضع للمراجعات الكبرى. فما المطلوب من النظام التعليمى لإعداد أجيال ستواجه تلك الظاهرتين وستضطر أن تتعامل مع كليهما، فهما وتفاعلا ومساهمة فى المساعدة على مواجهتهما؟

هذا هو السؤال الذى طرح فى المناسبتين المذكورتين. الجواب ليس بالسهل، وسنكتفى بذكر ثلاث نقاط أثيرت فى المناسبتين.

الأولى تتعلق بالأهمية القصوى لتمهين التعليم ليصبح مهنة لا تقل فى الإعداد لخريجيها وفى تنظيمها المهنى عن مهن من مثل الطب أو الهندسة أو المحاماة. المعلم الممتهن المطلوب يجب أن يكون متمكنا من متطلبات علم التربية ومتطلبات التخصص فى تعليم المادة التى سيدرسها، وهذا بالغ الأهمية، حصوله على ثقافة عامة تشمل مختلف العلوم الإنسانية مثل التاريخ والآداب والفنون والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والسياسة وغيرها. المطلوب هو المعلم المثقف الملتزم بقضايا أمته وقضايا الإنسانية القادر على تخريج إنسان هو الآخر مثقف.

النقطة الثانية تتعلق بوجود مقرر مشترك فى العلوم الإنسانية تلك يدرسه جميع طلبة الجامعات، أيا يكون تخصصهم، لكى يستطيعوا التعامل مع ظاهرة التعقد الحياتية التى ذكرناها ومع تشابك العلوم ومع القدرة فى إدماج العلوم لتخدم ممارسة اختصاصاتهم فى المستقبل.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل