المحتوى الرئيسى

طارق العمراني يكتب: ارفعوا أيديكم عن التعليم.. صرخة معلّم تونسي  | ساسة بوست

12/12 21:15

منذ 1 دقيقة، 12 ديسمبر,2016

لم يكن تاريخ 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 عاديا في العاصمة التونسية، فالتاريخ يوافق ثاني أيام مؤتمر الاستثمار الدولي 20.20، الذي تراهن عليه تونس، وتعلّق عليه آمال الإقلاع الاقتصادي والتنموي، كما شهد ذات اليوم وقفة احتجاجية حاشدة في ساحة القصبة، أقامها المربّون  احتجاجا علی تردّي ظروفهم الاجتماعية، وردّ اعتبار لكرامتهم التي امتهنها  وزيرالتربية الناجي جلول.

من باب الإنصاف يمكن اعتبار وزير التربية التونسي  الحالي الناجي جلّول من أكثر السياسيين شعبية، وهو ما تؤكّده أسبار واستطلاعات آراء متتالية ومختلفة المصادر والتوجّهات، وهذه الشعبية ليست وليدة بصمة إصلاحية أو تغييرات جذرية، بقدر ما هي نتاج لديماجوجيا البروباغندا الإعلامية، ونجاح سياسات الوزير اتّصاليا وتواصليا، وحضوره الإعلامي المتكرر، وإطنابه في انتهاج درب الشعبوية والوعود الطوباوية، وتحركاته الميدانية تحت الأضواء، والبحث عن الإثارة والبروباغندا، وتوريد برامج تربوية من بلدان متقدمة دون مواءمتها مع الخصوصية التونسية، وليس أدلّ علی ذلك من تغيير الزمن المدرسي، وتفعيل نظام السداسيات في محاكاة عمياء للأنظمة التربوية في بعض الدول الأوروبية، الأمر الذي شوّش علی التلاميذ والمربين من خلال تداخل الإمتحانات  بالدروس وتقطّع هذه الأخيرة عبر تتالي العطل القصيرة  بشكل عشوائي عطّل ديناميكية العمل البيداغوجي والتلقيني لدی المربّي والتلقّي لدی التلميذ، أمّا العودة المدرسية فقد كانت متعثّرة، بعد أن أوصدت عشرات المدارس أبوابها لغياب الإطار التربوي، وقد أشارت أرقام غير رسمية إلی أن أكثر من ثلاثين ألف تلميذ حرموا من حقّهم في الالتحاق بمقاعد الدراسة إلی شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، أي بعد قرابة شهرين من الانطلاق المفترض للدروس، لعجز الوزارة عن تغطية النقص الفادح في الإطار التربوي، حيث شهدت بعض الولايات نقصا في المربّين قدّر بالآلاف بين أساتذة ومعلمّين، ليتذرّع الوزير بنقص الموارد المالية ورأس المال البشري، والحال أن هذه الوضعية كانت نتاجا لتداعيات قراراته الارتجالية بعد أن ألغی العمل بنظام الفرق دون رصد اعتمادات مالية لتطبيق هذه القرارات علی أرض الواقع، وعلاوة علی هذه العودة المدرسية اللامسبوقة، ظلت المدرسة التونسية تعاني من اهتراء البنی التحتية، فمشاريع الوزير الحالمة في ترميم المدارس ظلّت محدودة في الزمان والمكان، بينما تواصل تهاوي الأسقف علی رؤوس المربين والتلاميذ في مدارس لا زالت تفتقر إلی شبكات الطرقات والصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب وتستنير بالطاقة الشمسية، فالمشهد التربوي في تونس مشهد مفارقاتي بامتياز، بين صورة نموذجية طوباوية حالمة تسوّق إعلاميا، وبين صورة كارثية تفرض نفسها علی أرض الواقع بعيدا عن وعود الوزير بتوفير لوحة رقمية لكل تلميذ، والحال أن التلميذ لازال غير قادر علی الحصول علی لوحة خشبية، ومسبح في كل مدرسة، والحال أن التلميذ مازال يسبح في الأوحال شتاء خلال رحلته الكيلومترية اليومية والمضنية نحو المدرسة، هذه المفارقة كانت نتيجة لسياسة تواصلية مدروسة، انتهجها الوزير من خلال حضور إعلامي مكثّف ضمن له  انتماءه الحزبي المتماهي مع خطوط تحرير أغلب القنوات والإذاعات وشركات أسبار الآراء، فالمعركة كانت تواصلية اتصالية بالأساس.

في عملية استباقية، شرعت المنابر الإعلامية التونسية بشتّی صنوفها، سواء المرئية أو السمعية أو المكتوبة الورقية منها أوالإلكترونية بتشويه أي تحرك يتزامن مع مؤتمر الاستثمار، في اشارة صريحة إلی تحرّك المربين الذي يتزامن مع ثاني أيام المؤتمر، واللعب علی أوتار نظريات المؤامرة، وقواميس الخيانة والتشويش والتشكيك في صدق نوايا هذا التحرك، الذي اعتبروه مسيّسا يخدم أجندات أطراف وضرب صورة تونس سياحيا واستثماريا، كل هذا لم يفتّ في عضد التحرّك، بل زاده زخما وحفّز المتردّدين علی التوجه إلی العاصمة، وأمام نجاح الاحتجاج تنظيميا وعدديا، انطلقت الحملات الإعلامية الهوجاء في الربش في الشعارات المرفوعة، واقتباسها بطريقة خبيثة تصوّر المربّي في شاكلة الانتهازي المسيّس، الذي لا يؤتمن عليه في تربية الناشئة أمام حجم التفسّخ الأخلاقي الذي أظهره، لتنصب  المنابر التلفزية مساء مركّزة علی نفس تلك الشعارات، إضافة إلی عصارة يوم كامل في البحث عن صور «ملتحين» التقطتهم عدسات المصورين عن حسن نية بطبيعة الحال، لإضفاء الصبغة الدينية الرجعية علی هذا التحرك والترويج لنظريات الاندساس والاختراق السلفي، كما تمّ الرجوع إلی الشعارات المرفوعة وبثّها صوتا وصورة وترجمتها أسفل الشاشة وتبويبها إلی شعارات سياسية وأخری لا اخلاقية مستهجنة في حق وزير شعاره العمل ثم العمل، ويتأبط مشروعا تربويا اصطدم حسب جهابذة الإعلام بحاضنة فساد تحاول عرقلته.

تعتبر السياسة فن المخاتلة والمناورة بامتياز، تتأقلم مع التطوّرات فالظاهرة السياسية تقوم علی البراغماتية والمكيافيلية، التي تتنافر مع الزخم القيمي والأخلاقي للتربية والتعليم، وإن تداخل السياسة  بالتعليم حتما سوف يفرز توليفة هجينة تقضي علی أجيال كاملة، وبالتالي فتطوّر المجتمع واستمراره رهين فصل التعليم عن السياسة، والتعليم في تونس للأسف أصبح ساحة للتجاذبات والمزايدات، من خلال أدلجة وتسييس الخطاب حوله، ومن المؤكد أن الصورة الحالية تؤكد وجود مجموعة من الصراعات الفكرية كلّ منها يريد بسط يده علی هذا القطاع الحسّاس، وكلّ يعرض بضاعته، من أطراف داخلية وخارجية، ولنا أن نستشهد  بحادثة السفير الفرنسي «أوليفيي بوافر دارفو» الذي هاج وماج واستشاط غضبا من تصريح وزير التربية التونسي، الذي اعتبر الإنجليزية لغة العلوم ولغة السوق، ومن المنطق أن تتبوأ مرتبة اللغة الرسمية الثانية عوضا عن الفرنسية، الأمر الذي تراجع عنه بعد أن لمس غضب سفير أكبر دولة تأثيرا في تونس، وتأثيرها المباشر في القرار السيادي، ليتدارك ويعتبر لغة موليير خطا أحمر لا يمكن المساس بها، لتؤكد هذه الحادثة المزاج الفرنكفوني  للتعليم في تونس، الذي  لازال سائدا منذ انتصاب الحماية الفرنسية وحتى كتابة هذه الأسطر، رغم محاولات تعريب العلوم، لتظهر علی السطح تجاذبات بين الفرنكفونية والمدافعين عن الهوية واللغة العربية بعد الاستقلال، لتظلّ فكرة الإصلاح التربوي شعارا حبيس الكتب الملوّنة   والندوات والتنظيرات، وهو ما جعل المدرسة التونسية تعاني من الركود والجمود في خدمة فكر معين يأخذ شكل توجه الأحزاب الحاكمة، وليس أدلّ من توجهّات الوزراء  المتعاقبين علی حقيبة التربية وهويّاتهم الحزبية ومكانتهم في النظام، من جلّول الفارسي مرورا بالمسعدي، فإدريس قيقة ومحمّد الصيّاح ومحمد الشرفي، وغيرهم، رغم ترويج دولة الاستقلال لأرقام تؤكد تحسّن نسب التمدرس، وهذه نقطة تحسب لنظام بورقيبة، مع بعض المكاسب التربوية في تعميم التعليم واجباريته ومجّانيته، لكن هذه التجارب لامست الكمّ وهمشّت الكيف، وليس أدلّ من ذلك بكون أوّل جامعة تونسية تأتي في المرتبة 70 إفريقيا، نعم إفريقيا بعد جامعات نيجيريا ومدغشقر وزيمبابوي وبورندي، وتحتلّ المراتب الخمس الأخيرة في تقييم دولي يتعلّق بقياس كفاءة النظم التعليمية للبلدان والقدرات الاستيعابية للتلاميذ في الميادين العلمية، ضمن مجموعة دراسات أجراها البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادي، وذلك كنتاج لسياسات بن علي التعليمية، الذي ابتكر بدع النجاح الآلي، والتسهيل في معايير الامتحانات استجداء للمنظّمات التعليمية العالمية للإغداق علی نظامه بالمنح الجامعية والهبات، وهذا التدهور في القدرة التنافسية للشهادات العلمية التونسية في الخارج قابله أيضا ارتفاع في نسب البطالة في أوساط أصحاب الشهادات العليا، الذي انعكس سلبا علی المناخ الاجتماعي، كما أنّ الطامة الكبری التي أفرزتها عقود من الارتجال علی مستوی السياسات التربوية قطع ارتباط الأجيال الجديدة بالهويّة الثقافية وظهور جيل مهتزّ ثقافيا وحضاريا بلا ملامح طرق أبواب الشذوذ أو التشدّد الديني، لتصبح تونس أكبر الحواضن لتفريخ الشواذ والملاحدة والإرهابيين.

إن المتمعّن الصحّ في تاريخ الأمم الحديثة يقف علی حقيقة راسخة، وهي أن كلمة السرّ في التطور والنهضة الحضارية هي «التعليم» لنستشهد بمقولة رئيس الولايات المتحّدة الأمريكية الأسبق رونالد ريغن «الأمّة في خطر.. إصلاح التعليم الأمريكي أمر إلزامي»، داقا بذلك ناقوس الخطر، كذلك لنا في اليابان الأسوة الحسنة، حيث أعادت النظر في منظومتها التربوية بعد خراب شامل ألمّ بها عقب كارثة هيروشيما وناكازاكي، ونهضة ألمانيا بعد أن تخلّصت من إرث نازي ثقيل، علاوة علی البلدان الإسكندنافية وسنغافورة وماليزيا، وكلّها دول رفعت ألوية الإصلاح التربوي باعتبارها بوّابة النهضة الحضارية. أمام هذا الواقع المظلم للتعليم التونسي واهتراء سياساته، وجب إطلاق صيحة فزع، قبل أن يدقّ آخر إسفين في نعش هذا القطاع الحيوي، وكيف لا؟ وهو المتحكّم في مستقبل هذا الوطن، لذلك وجب اتّخاذ مقاربة الجودة في جميع مجالاته عبر مجموعة من التدابير أهمّها:

– جودة الموارد البشرية بالقضاء علی سياسة الانتدابات العشوائية، حيث أن سلك التعليم أضحی بمثابة واق للصدمات تستعمله الحكومات كسوق تشغيل لامتصاص الغضب الشعبي، فربّما تكون تونس البلد الوحيد الذي ينتدب تقنيين ساميين في الصيانة الصناعية كمدرّسين وهذا علی سبيل الذكر، بعد أن أصبح التدريس عجلة خامسة لكل من ضاقت به سبل التشغيل.

– تحسين الأوضاع الاجتماعية للمربّين والتزام الحكومة بجميع التعهدات والاتّفاقيات المبرمة  في المفاوضات الاجتماعية.

– إرساء خطط ومشاريع وبرامج يشرف عليها مجلس أعلی للتربية، يضمّ كفاءات منتخبة علی غرار القضاء.

– تحييد العمل السياسي عن النقابي، حتی لا تطغی الحسابات السياسية والأهواء الأيديولوجية عن مصالح القطاع وأولوياته، والنأي به عن المناكفات والتجاذبات السياسية واعتماد الشفافية في حركات النقل والتعيينات.

– إنشاء مراصد وهيئات مختصة لمراقبة العمل الوزاري، وفتح تحقيقات في شبهات الفساد وتتبع مسار الصفقات والمناقصات ومسالك استغلال الاعتمادات المادية.

– الترفيع من ميزانية وزارة التربية بما  يتواءم وحجم التحديّات.

– ترميم البنی التحتية للمدارس وتوفير التجهيزات  والوسائل وتوفير المرافق الضرورية من شبكات الطرقات والتنوير والصرف الصحي والماء الصالح للشرب ووسائل النقل للحدّ من نزيف هجرة التلاميذ نحو القطاع الخاص.

– تحييد وزارة التربية عن أيّ نشاط حزبي أو سياسي، وتعيين وزير تكنوقراط يحمل برنامج إصلاح تربوي متكامل، ولا يمتطي الوزارة لغايات دعائية وحزبية يستقوي فيها علی المربين بالشعبوية وإثارة الرأي العام والاستنجاد بالإعلام، وتوخّي سياسة التشويه والتخوين وليّ الذراع، من خلال تسميم الأجواء وخلق مناخ من التناكف والتجاذبات وانعدام الثقة بين المربّي ووزارة الإشراف.

في الأخير لم يتبقّ لي إلّا أن أرسم قبلة علی جبين كل مدرّس(ة) حرّ(ة)، وأقول لهم: «سجّل برأس الصفحة الأولی

لا أستخسر علی شعبي تعبي.

لكن إذا سلبت حقوقي، آكل حقّ مغتصبي.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل