المحتوى الرئيسى

"الحلم الذي لم يتحقق".. قصة فشل بوتين وأوباما في إنهاء صراع طويل بين أقوى دولتين بالعالم

12/12 03:46

في أول عامين في رئاسته، كانت مهمة الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف هي -ببساطة- أن يراه العالم. ولم يبدُ حينها أن أحداً في العالم، أو حتى في روسيا، يأخذه على محمل الجد؛ فقد كانت وسائل الإعلام العالمية تشير إليه بوصف "الخَلَف المختار بعناية" من قبل فلاديمير بوتين، الذي كان حينها رئيساً للوزراء.

حتى حين أرسل ميدفيديف القوات الروسية إلى جورجيا في أغسطس/آب 2008، قال الجميع إنَّ هذه حرب بوتين، كما لو كان ميدفيديف غير موجودٍ من الأساس.

ومع أن الحرب انتهت بنهاية تصبُّ في مصلحة روسيا، إلا أنها أجبرت حكومة ميدفيديف على التعامل مع التناقض الذي نشأ بين أهدافها. فعلى المستوى المحلي، كان مهماً أن يرى الروس قوة ميدفيديف واستقلاليته، وأنه أعلن الحرب على جورجيا دون استشارة بوتين.

بينما على المستوى الدولي، كان من الأنسب إلقاء مسؤولية الحرب على بوتين، وتصوير ميدفيديف أمام العالم كنوعٍ جديد من السياسيين الروس.

وبينما كان ميدفيديف يتناقش بشأن مسألة الحرب على جورجيا في الكرملين، كان باراك أوباما، الرئيس الأميركي الحالي الذي أوشكت أن تنتهي ولايته، والذي كان حينها عضواً بمجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، يحقق فوزاً ساحقاً في انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2008.

وبعد السنوات الثماني لرئاسة جورج بوش الابن للولايات المتحدة الأميركية، جاءت حملة أوباما الانتخابية كنسمةٍ من الهواء العليل، تعد بدورٍ جديدٍ وأكثر تعاوناً لأميركا في العالم.

أحب ميدفيديف على الفور ما رآه في نظيره الأميركي. ومع أنه لم يصرح بذلك، ولا حتى للمقربين منه، كان واضحاً أن ميدفيديف يريد محاكاة العلاقة البسيطة التي تربط بين أوباما والأميركيين الذين انتخبوه.

وكان مستشارو ميدفيديف، الذين مثَّلت الكاريزما التي يتمتَّع بها أوباما تحدياً لهم، يعتقدون دائماً بأن حماسته الصبيانية تجاه استخدام الأجهزة والأدوات الجديدة يمكن أن تساعده على خلق رابطة مماثلة بينه وبين شعبه.

ولهذا قام كبير مساعدي ميدفيديف بإنشاء مدونة فيديو خاصة به، وكذلك حسابات على الشبكات الاجتماعية مثل "تويتر" و"فيسبوك"، واشترى له هاتفاً من نوع "آيفون" وجهاز "آيباد"، لم يكن ميدفيديف يحتاج إلى التظاهر بالاستمتاع باستخدامهما، رغم أن الهدف من ذلك كان إظهاره بمظهرٍ أكثر ودية.

ولكن في رد الفعل الأول لموسكو على انتخاب أوباما، وضع ميدفيديف مشاعره الشخصية جانباً، وسعى بدلاً من ذلك، أخيراً، إلى حل معضلة هويته السياسية.

ففي 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، وهو اليوم التالي لإعلان نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، ألقى ميدفيديف خطابه الأول على البرلمان الروسي.

كان الخطاب يحمل نبأً صُمِّمَ بنجاح لجذب اهتمام الغرب؛ وعداً من الرئيس الروسي بوضع صواريخ "إسكندر" الروسية في منطقة كالينينغراد، المنطقة الروسية المعزولة المُحاطة بدولٍ تنتمي للاتحاد الأوروبي.

كان هذا الأمر بمثابة استقبالٍ على طريقة الحرب الباردة لمجيء الرئيس الأميركي أوباما ذي النبرة المسالمة، ولم يأتِ هذا الترحيب من بوتين المتشدد، ولكن من ميدفيديف المبتسم.

من ناحيتها، حاولت الإدارة الأميركية الجديدة التأكيد للكرملين على أن كرههما المتبادل لعصر بوش أصبح من الماضي.

فأثناء حديثه في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير/شباط 2009، قال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إنَّ روسيا والولايات المتحدة الأميركية يجب عليهما الضغط على "زر إعادة الضبط في علاقتهما".

وبعدها بشهر، التقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ونظيرته الأميركية هيلاري كلينتون في مدينة جنيف بسويسرا، حيث أعطت هيلاري لنظيرها زراً رمزياً ليضغط عليه كلاهما معاً.

طُبِعَت على الزر كلمة "إعادة ضبط" باللغتين الإنكليزية والروسية. ولكن لسوء الحظ، كان ثمة خطأ في تهجئة الكلمة الروسية، وبدلاً من أن تُكتَب "perezagruzka" كما هي في اللغة الروسية، كُتِبَت "peregruzka"، التي تعني "حملاً زائداً".

شرح لافروف حينها الخطأ لهيلاري كلينتون، التي شعرت بالحرج بسبب هذا الخطأ، ولكنه وافق مع ذلك على الضغط على الزر، ومزح بشأن هذا الخطأ، وقال إنَّه سيحاول "منع تحميل النظام بشكلٍ زائد في العلاقات الروسية الأميركية".

هذه الزلة الفرويدية (مصطلح الزلة الفرويدية يشير إلى الأخطاء في الكلام أو الذاكرة أو الفعل التي يرجع سببها إلى الرغبات اللاواعية المكبوتة والأفكار الداخلية نسبةً إلى العالم النمساوي سيغموند فرويد) كانت معبرةً أكثر من الفعل الرمزي لضغط زر إعادة الضبط، فالولايات المتحدة الأميركية وروسيا مع ذلك لم يفهما بعضهما البعض، ولم يتحدثا اللغة نفسها (حرفياً ومجازياً)، ورغم ادعاء الطرفين بأن ما مضى قد مضى، إلا أنه لم يحدث أي تغيُّر في علاقتهما ببعضهما البعض.

ومع أن إدارة أوباما كانت على استعداد للتنازل عن دورها العالمي في حفظ الأمن، وغير ذلك من تجاوزات عهد بوش، إلا أنها كانت لا تزال تكن نفس التحيزات الأميركية القديمة المألوفة تجاه روسيا.

أما من ناحية ميدفيديف، فلم يكن أبداً بالقوة الكافية ليشرف على عملية إعادة ضبط العلاقات الروسية الأميركية. ورغم أن بوتين أراد بالفعل علاقة جديدة بالغرب، إلا أنها لم تكن بالشكل الذي دار في خلد أوباما.

كانت الزيارة الأولى لأوباما إلى موسكو في يوليو/تموز 2009. وكان البند الأهم في جدول أعمال زيارته هو اتفاقية جديدة للحد من الأسلحة النووية، التي كان الهدف منها هو التعبير عن العلاقات الجديدة بين الدولتين.

قابل أوباما ميدفيديف حينها في الكرملين، بينما استقبله بوتين في القصر الرئاسي بنوفو أوجاريوفو بالقرب من موسكو، حيث قدَّم له إفطاراً فخماً تضمن الكافيار.

وفي محاولةٍ لإجراء حديث مع بوتين، سأله أوباما بشكلٍ بلاغي قائلاً: "كيف وصلنا إلى هذه الفوضى؟"، مشيراً إلى العلاقة بين الدولتين. رداً على سؤاله، أعطاه بوتين محاضرةً طويلة، شرح فيها بدقة الكيفية التي وصلت بها العلاقات إلى هذا التدهور. واستمع أوباما لحديثه دون أن يقاطعه.

في الحقيقة، لم يشعر أوباما بأية حرارة في علاقته، سواء ببوتين أو ميدفيديف، وذلك رغم محاولات ميدفيديف العديدة لمد يد الصداقة إلى نظيره الأميركي، كما كان بوتين وبوش أصدقاء لفترة من الزمن.

ولم يساعد أيضاً ازدراء البيت الأبيض الواضح لميدفيديف على حدوث ذلك؛ فكبار المسؤولين الأميركيين كانوا يسخرون أمام مراسلي الصحافة من ولع ميدفيديف الشديد باستخدام الأجهزة الإلكترونية، ويقولون إنَّه "ربما لن نقوم بتوقيع الاتفاقيات بعد ذلك. ربما سنكتفي فقط بإرسال رسالة نصية لميدفيديف".

أراد ميدفيديف بشدة توقيع اتفاقية الحد من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة الأميركية، ولكن الدبلوماسيين في الطرفين لم يستطيعوا الاتفاق على التفاصيل. وفي النهاية، تم توقيع الاتفاقية بالفعل، ولكنها كانت اتفاقية صورية، مجرد فرصة لالتقاط بعض الصور أمام قلعة براغ في عاصمة التشيك، حيث تم توقيع الاتفاقية، أكثر من كونها وثيقة حقيقية للحد من الأسلحة النووية.

أرادت روسيا ربط الاتفاق الجديد بالتزام الولايات المتحدة الأميركية بعدم نشر درع دفاعي صاروخي في أوروبا، ولكن الأميركيين رفضوا هذا الأمر بشكلٍ قاطع.

ونتيجةً لذلك، أضافت روسيا ملحقاً إلى جانبها من الاتفاقية، يحفظ حقها في الانسحاب من الاتفاقية إن قامت واشنطن بتنصيب درعها الصاروخي في أوروبا، ووقعت عليه من ناحيتها فقط.

ولم يتمكن أيضاً ميدفيديف وأوباما من تحسين علاقتهما الشخصية خلال زيارة الرئيس الروسي إلى الولايات المتحدة الأميركية في يونيو/حزيران 2010.

اصطحب أوباما ميدفيديف حينها إلى مطعمه المفضل، مطعم "رايز هيل برغر" في مدينة أرلينغتون خارج واشنطن، طلب ميدفيديف البرغر مع جبن الشيدر، وفلفل الهالبينو، والبصل، والمشروم، ومشروباً غازياً ليتمكن من هضم طعامه.

بينما تناول أوباما البرغر مع جبن الشيدر، والبصل، والخس، والطماطم، والمخلل، ومشروب الشاي المثلج. وتقاسم كلاهما طبقاً من البطاطس المقلية. وأظهرتهما الصور التي التُقِطَت لهما بمظهرٍ ودود للغاية.

ولكن اللقاء لم يمر بسلام كما خطط البيت الأبيض. فأثناء خروجهما من المطعم، أدى أحد الجنود العائدين مؤخراً من العراق التحية لأوباما فجأةً. أدار حينها أوباما ظهره لميدفيديف، وبدأ في حديثٍ مفعم بالحيوية مع هذا الجندي المتمرس.

ووقف الرئيس الروسي منتظراً، يحمل طبق طعامه في يده، منتظراً أن يلاحظ أوباما وجوده مرةً أخرى.

وبعدها بثلاثة أيام، في قمة مجموعة الثمانية في مدينة تورونتو بكندا، أعلنت الإدارة الأميركية أنها اعتقلت مجموعةً من الجواسيس الروس تضمنت 10 أفراد. ولم يذكر أوباما الأمر حتى لميدفيديف. لم يعد هناك المزيد من الأوهام عن الصداقة بين الرئيسين.

كان متبقياً أقل من عام على انتخابات البرلمان الروسي، التي كان من المقرر إجراؤها في نهاية عام 2011، حين بدأ فريق ميدفيديف في التركيز على الانتخابات بالفعل.

وكانت الخطة تقضي باستخدام الانتخابات لمساعدة ميدفيديف على بناء هويته السياسية، وتأمين مقعد الرئاسة لولاية ثانية. وكانت استراتيجية الحملة الانتخابية موضوعة من قبل فلاديسلاف سوركوف، المستشار الاستراتيجي الحالي لبوتين.

كان سوركوف يرى أن مفتاح تولي ميدفيديف للرئاسة لولاية ثانية هو ضمان عدم اعتراض بوتين على ذلك. واحتاج ميدفيديف لإظهار أنه كان متكيفاً بشكلٍ أفضل مع واقع العالم الجديد من بوتين.

ولكنه كان يحتاج بشكلٍ أكبر إلى مجموعة قوية من المؤيدين الروس المتحمسين الذين يؤمنون بكونه قائداً قوياً لأمتهم. ولم يكن ميدفيديف يحتاجهم فقط للتصويت له، ولكنه احتاجهم أيضاً كدليلٍ ملموس على شرعيته أمام بوتين، سلفه في منصب الرئاسة، وخليفته المحتمل.

ولكن خطط سوركوف قابلت عائقاً مفاجئاً: فميدفيديف كان لا يزال مصمماً على تصوير نفسه في روسيا كزعيمٍ ليبرالي غربي معاصر. كان يتوق إلى أن يصبح النسخة الروسية من أوباما، الزعيم الأميركي الشاب الأنيق. وكان هذا حلماً يتجاهل تقييم سوركوف للقوى المحركة للسلطة في موسكو. وأثبتت أزمةٌ جديدة حدثت بعدها بفترة بسيطة صحة تقييم سوركوف.

ففي مارس/آذار 2011، كان على ميدفيديف وأوباما الوصول إلى اتفاق بشأن الأزمة في ليبيا. وكان لدى الزعيمين مشاعر مماثلة.

فكلاهما كان يمقت النظام الليبي، ويشعر بالنفور تجاه الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي. وكان كلاهما قد قابل الرئيس الليبي من قبل، ووجدا أنه منفصلٌ عن الواقع. حتى ابن القذافي، سيف الإسلام، الشاب العلماني الذي كان يرتاد ملاهي موسكو الليلية الفاخرة بصحبة أقلية روسيا الثرية وعارضات الأزياء، كان يشعر بالخجل من غرابة أطوار أبيه، الذي لم يكن يتخلى أبداً عن خيمته البدوية التقليدية، حتى في رحلاته للخارج.

وفي النهاية، اتفق أوباما وميدفيديف على عدم التدخل في جهود الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للإطاحة بالرئيس الليبي.

كانت خطابات ميدفيديف عن الشأن الليبي مُعَدَّة بدقة، ولكنها كانت تركز أكثر على سمعة روسيا الأخلاقية بدلاً من الشؤون الليبية الداخلية، التي كانت لا تَهُم ميدفيديف كثيراً. وكان قراره يتمحور فقط حول زرع الصورة الصحيحة عنه داخل روسيا، كزعيمٍ حاسم لديه دوافع تقدمية.

ولم يكن ميدفيديف بحاجة إلى ديكتاتورٍ ليبي طاعن في السن، لم يقم أبداً بدفع ديونه لروسيا، طبقاً للملفات التي اطَّلع عليها ميدفيديف بشأن التعاون الروسي الليبي، وكان يحصل على الأسلحة الروسية بالدّيْن، ولا يقدم أي مقابل.

وتجاهل ميدفيديف مناشدات وزارة الخارجية الروسية له باستخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الدولي بالأمم المتحدة، بإقامة منطقة حظر جوي فوق ليبيا. وامتنعت روسيا عن القيام بذلك.

ولكن، في اليوم التالي، تفاجأ ميدفيديف عندما رأى بوتين على شاشة التلفاز، يتحدث عن الأزمة الليبية. بوصفه رئيساً لوزراء روسيا، نادراً ما كان يتعرض بوتين للسياسة الخارجية، إذ كان يحرص دائماً على اتباع القواعد الدستورية، التي كانت تقول إنَّ السياسة الخارجية حكرٌ على رئيس الدولة فقط.

ولكن هذه المرة، أثناء زيارته لمصنع صواريخ في مدينة فوتكينسك بوسط روسيا، شبَّه بوتين قرار الأمم المتحدة بدعوات العصور الوسطى لشن الحملات الصليبية، ثم ألقى بلومٍ مستتر على ميدفيديف على الهواء مباشرةً، وقال: "ما يقلقني أكثر ليس التدخل المسلح نفسه، فهو ليس بالشيء الجديد، وفي الغالب سيستمر لفترةٍ طويلة للأسف. ولكن اهتمامي الأكبر هو خفة العقل التي يتم بها اتخاذ قرارات استخدام القوة في القضايا الدولية هذه الأيام".

شعر ميدفيديف بالذعر من تعليق بوتين. فهو قد تخبط بالفعل عندما لم يستشره بشأن ليبيا قبل اتخاذ قراره. ولكن تصريح بوتين العلني كان إهانةً لا يمكن غفرانها، تتطلب رداً من ميدفيديف.

وكان السؤال هنا ما إن كان يجب الرد سراً أم علناً. وبعد قراءته لبعض التعليقات الساخرة منه على الإنترنت، قرر ميدفيديف عدم الاتصال ببوتين.

وبدلاً من ذلك، وبعد تفحُّص جدول أعماله، قرر أن يأتي رده في نفس اليوم، خلال زيارته لوحدة الشرطة الروسية الخاصة، والمعروفة باسم "OMON". قال ميدفيديف خلال زيارته أمام الكاميرا "من غير المقبول تماماً استخدام التعبيرات التي تشير بشكل فعال إلى الصراع بين الحضارات، ككلمة (الحملات الصليبية) على سبيل المثال. يجب أن نتذكر جميعاً أن لغةً كذلك يمكنها أن تجعل الوضع أكثر سوءاً".

شعرت وكالات الأنباء الروسية بالذعر في هذا الموقف، ولم تكن تعلم ما يجب عليها فعله، وما إن كان يمكن لها الحديث عن هذا الاختلاف حول الشأن الليبي داخل نظام الحكم في روسيا، الذي كانت وكالات الأنباء تشبهه بالدراجة الترادفية، لوجود رئيس وزراء شديد النفوذ كبوتين بجانب ميدفيديف.

واتصل زعماء القنوات التلفزيونية على الفور بالمكتبين الصحفيين للرئيس ورئيس الوزراء. وبعد ترددٍ وجيز، ردَّ مكتب بوتين قائلاً إنَّ "رئيس الدولة هو المسؤول عن السياسة الخارجية للدولة، ولهذا يجب أن تعكس وكالات الأنباء الروسية موقفه هو فقط، ويجب عليها أن تنسى تصريح رئيس الوزراء".

ولكن الرجال المتمرسين في معسكر ميدفيديف كانوا يعلمون أنه ارتكب خطأً كبيراً. ورغم تراجع بوتين، إلا أنه لم ينسَ هذا الخطأ.

باستمرار تدخل حلف الأطلسي في ليبيا، تناسى ميدفيديف الأمر، ولكن بوتين لم يفعل، فالأمر أغضبه بشدة. إذ كانت لديه علاقة شخصية بالقذافي، الذي زار موسكو من قبل، ونصب خيمته البدوية بداخل الكرملين، واصطحب بوتين إلى حفلةٍ للمغنية الفرنسية ميراي ماتيو.

تشارك الزعيمان أيضاً الازدراء تجاه نفاق الدول الغربية. واقتصرت أحاديث القذافي مع بوتين فقط حول الأميركيين، الذين يقول القذافي إنَّهم يهدفون لقتله والسيطرة على العالم. وقدَّر بوتين بشدة مدح الزعيم الليبي لمقاومته لأميركا.

بالنسبة لبوتين، كان قرار ميدفيديف بعدم استخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن بشأن ليبيا استسلاماً لمنافسي روسيا في الغرب، وبالتالي عملاً عدائياً ضد الدولة الروسية. وكنتيجة لهذا العمل، استقبل بوتين سلسلة من التقارير من وزارة الخارجية الروسية، وجهاز المخابرات الخارجية (إس في آر)، حول النفوذ الدبلوماسي الذي خسرته روسيا بخيانتها للقذافي. حتى هذا الوقت، لم يكن أي من المنتمين لحاشية بوتين قد تجرأ على التصريح بأية اتهامات ضد ميدفيديف، ولكن الأمر بعدها لم يعد محظوراً.

مع الوقت، ازداد غضب بوتين. وفيما يتعلق بليبيا، بدأ في تجاهل مسألة أن السياسة الخارجية هي امتياز حصري للرئيس الروسي. وصرَّح لإحدى القنوات التلفزيونية: "تحدث الناتو عن منطقة حظر جوي، إذن لماذا تُقصَف قصور القذافي كل ليلة؟ يقولون إنَّهم لا يريدون قتله، إذن لماذا يقصفونه؟ ماذا يحاولون أن يفعلوا؟ إخافة الفئران مثلاً؟".

عندما قُتِلَ القذافي في النهاية في أكتوبر/تشرين الأول 2011، كان بوتين كما لو أنه أُصِيبَ بالسكتة. استاء بوتين بشدة من غدر الدول الغربية بالقذافي؛ إذ كان يعتقد بوتين أن مشاكل القذافي بدأت عندما قدم بعض التنازلات، واعترف بأخطائه، ودفع تعويضاتٍ لأقارب ضحايا تفجير طائرة لوكربي.

رُفِعَت عنه بعدها العقوبات، حتى إنه حضر قمة مجموعة الثماني عام 2009 في مدينة لاكويلا بإيطاليا (كرئيسٍ للاتحاد الإفريقي)، حيث صافح أوباما.

ولكنه سرعان ما عُوقِبَ على رضوخه وتنازلاته. ففي اللحظة التي غيَّر فيها القذافي موقفه البارد تجاه الغرب، ووثق في قادة الدول الغربية، غدروا به. عندما كان القذافي منبوذاً، لم يتعرض له أحد. ولكنه عندما انفتح على الغرب، لم تتم الإطاحة به فقط، ولكنه قُتِلَ في الشوارع ككلبٍ أجرب عجوز.

ألقى بوتين بجزء من مسؤولية قتل القذافي على ميدفيديف. فزعماء الغرب كانوا قد وعدوا ميدفيديف بأنَّ كل ما سيفعلونه هو إقامة منطقة حظر جوي فوق ليبيا لمنع القذافي من قصف مواقع المعارضة، وصدَّقهم ميدفيديف بكل سذاجة.

حتى قبل مقتل الديكتاتور الليبي، كان ميدفيديف قد أدرك تضاؤل فرصه في تولي الرئاسة لولايةٍ ثانية. وفي سبتمبر/أيلول 2011، قبل انتخابات الرئاسة الروسية المقرر إجراؤها عام 2012، أعلن ميدفيديف أنه يخطط لاستبدال المناصب مع بوتين.

تدهورت العلاقات الروسية الأميركية بشكلٍ أكبر عام 2011. فبعد الانتخابات البرلمانية في روسيا في شهر ديسمبر/كانون الأول، احتج آلاف الأشخاص بالشوارع في موسكو ومدنٍ أخرى، زاعمين تزوير الأصوات.

اجتذبت هذه الاحتجاجات اهتمام وكالات الأنباء العالمية، ونالت استحسان وتشجيع هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية حينها. وفي الكرملين، تفشَّى الفكر المؤامراتي القائل إن واشنطن تقف خلف هذه المظاهرات. وسرعان ما تمكَّنت الحكومة الروسية من إخماد الاحتجاجات وتهميش قادتها. وعندما أصبح بوتين رئيساً لروسيا مجدداً في العام التالي أصبحت رسائل وسياسات الكرملين شعبوية ومعادية لأميركا.

ما حدث بعدها كان تدهوراً سريعاً في العلاقات الأميركية الروسية المتوترة بالفعل. إذ قام الكونغرس بتمرير قانون ماغنيتسكي في ديسمبر/كانون الأول عام 2012، الذي فرض عقوباتٍ محددة على عدة مسؤولين روس كانوا مدانين، طبقاً لوزارة الخارجية الأميركية، بانتهاك حقوق الإنسان.

ورداً على ذلك، حظرت موسكو على المواطنين الأميركيين تبنِّي الأطفال الروس. هُمِّشَت العلاقات بشكلٍ أكبر في يونيو/حزيران عام 2013، وذلك عندما سافر إدوارد سنودن، المتعهد بوكالة الأمن القومي الأميركية، على متن رحلةٍ جوية من هونغ كونغ إلى موسكو.

وانتهى الأمر بمنح بوتين حق اللجوء لسنودن، وألغت إدارة أوباما زيارةً إلى موسكو كان من المقرر إجراؤها هذا العام قبل قمة مجموعة العشرين في مدينة سان بطرسبرغ.

لا يتضح حتى الآن ما إن كانت هذه الزيارة الملغاة كانت ستنقذ علاقة أوباما وبوتين والعلاقات الأميركية الروسية.

وعشية قمة مجموعة العشرين، تأججت الخلافات بين الدولتين بشأن سوريا. إذ وصف بوتين حينها ادعاءات الولايات المتحدة الأميركية بأن الحكومة السورية قد استخدمت الأسلحة الكيماوية ضد مقاتلي المعارضة بأنها مجرد هراء، واصفاً وزير الخارجية الأميركي جون كيري بالكاذب.

وعلى هامش القمة، أوضح الأميركيون في وقتٍ لاحق للمشاركين الآخرين بالقمة أن بوتين لا يريد التعاون مع الدول الأخرى. كان بوتين غير مفيد بالمرة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، إلى درجة يأسها من محاولة التعاون معه. وكانت الولايات المتحدة الأميركية مستعدةً للتخلي عن التعامل مع بوتين.

ولكن بوتين كان يعتقد العكس، وكان يرى أن الغرب يحاول التخلص منه وإضعاف روسيا. وكان أولمبياد سوتشي عام 2014 من المفترض أن يكون احتفالاً بمكانة روسيا العالمية، إلا أن الكرملين كان مستغرقاً في متابعة مآلات التظاهرات في أوكرانيا ضد عميله المتقلب، الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش.

وكان بوتين، لتواصله المستمر مع الرئيس الأوكراني مقتنعاً أن ما يحدث في كييف هو نتيجة عملية تقودها الولايات المتحدة الأميركية.

ففي ديسمبر/كانون الأول عام 2013، كانت مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند، وعضو مجلس الشيوخ جون ماكين، قد زارا أوكرانيا.

أعطت حينها نولاند بعض البسكويت والطعام للمتظاهرين، وكذلك رجال الشرطة في ميدان الاستقلال في أوكرانيا، بينما تحدث ماكين من على مسرحٍ مؤقت أُقِيمَ بالميدان. وبعد اشتباكاتٍ درامية ودموية عددية بين الشرطة والمتظاهرين، هرب يانوكوفيتش خارج أوكرانيا في 22 فبراير/شباط عام 2014.

كان بوتين مستاءً بشدة من هرب يانوكوفيتش بهذه السهولة، ومما بدا كمساعدة أميركية في تغيير النظام الحاكم في دولةٍ مجاورة لروسيا.

ولكن الرئيس الروسي كانت لديه خططٌ أخرى. ففي اليوم التالي، بدأت المظاهرات المؤيدة لروسيا في شبه جزيرة القرم، وبعدها بفترةٍ بسيطة، ظهر بها جنودٌ روسيون ملثمون بدون شارات، وساعدوا المحتجين على السيطرة على المباني الهامة.

ثم أُعلِنَ عن استفتاءٍ على استقلال القرم في 27 فبراير/شباط، وأقر البرلمان الروسي في اليوم التالي مشروع قانون لتسهيل انضمام مناطق جديدة إلى الاتحاد الروسي.

وفي الرابع من مارس/آذار، عقد بوتين مؤتمراً صحفياً قال فيه إنَّ روسيا لا تخطط لضم القرم، ولكن القرار كان قد اتُّخِذَ بالفعل.

ورغم الضغط الشديد من الرئيس الأميركي أوباما، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، فإن بوتين قرَّر أنه لن يتراجع. فعلى أي حال، لم يكن بوتين يظن أن الغرب من الممكن أن يفرض عقوباتٍ جدية على روسيا، وكان يعتقد أن العقوبة الأقصى ستكون مقاطعة قمة مجموعة الثماني المرتقبة في مدينة سوتشي في روسيا.

ولكن بوتين كان مستعداً للتضحية بالقمة من أجل الاستحواذ على القرم، وكان متأكداً أن الغرب لن يجرؤ على التمادي في معاقبة روسيا، وحتى لو قام بذلك فلن يستمر الأمر لوقتٍ طويل. فبعد حرب جورجيا، هدَّد الغرب روسيا بالعزلة، ولكن سرعان ما تم نسيان الأمر.

انضمت القرم لروسيا في 16 مارس/آذار. طبقاً للأرقام الرسمية، جاءت حوالي 96.77% من الأصوات بالتأييد. وفي 18 مارس/آذار، في احتفالٍ بالكرملين، وقَّع بوتين على اتفاقية انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية. وتُوِّجَ القرار في 9 مايو/آيار 2014، الذي كان يوم النصر.

إذ وصل بوتين ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى مدينة سيفاستوبول في موكبٍ للاحتفال بهذا النصر. وكانت المدينة تعج بهتافات "روسيا، روسيا!". بدا الأمر كما لو كان نصراً بالفعل.

ولكن على خلاف أزمة جورجيا، كانت ردود الفعل على استحواذ روسيا على القرم، والحرب التي تلت ذلك في أوكرانيا الشرقية أكثر حدة بكثير. إذ فرضت الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك الاتحاد الأوروبي، عقوباتٍ حادة على روسيا والمسؤولين المحيطين ببوتين.

نرشح لك

أهم أخبار برلمان 2015

Comments

عاجل