المحتوى الرئيسى

بين السحاب "23"| كُلنا قابيل

12/11 19:34

وصلنا كاتماندو، عاصمة مملكة نيبال، في وقت مبكر جداً. في المطار، كانت هناك إجراءات مشددة، وحضور طاغٍ للأمن، شعرت بأن هناك جريمة ما حدثت مما دعا لوجود هذا العدد من رجال الشرطة. بعد أن تسلّمنا حقائبنا وركبنا الباص متجهين للفندق، سألت بريا عن سبب الإجراءات الأمنية، فصدمتني بواقعة القتل التي حدثت منذ شهر تقريباً في المملكة والتي سميت مذبحة القصر الملكيّ.

فقد قام ولي عهد نيبال، الأمير "ديابندرا"، بقتل عدد من أفراد أسرته ومنهم والده الملك بيرندرا، وكذلك الملكة إيشواريا ونحو 7 من أفراد أسرة العائلة المالكة عن طريق إطلاق النار عليهم، وبعد ذلك قام بقتل نفسه.

أليست تلك هي أقدم جريمة في التاريخ، بدأت حياتنا وستنتهي بالقتل، نحاول أن نتحلى بالأخلاق ونَنْعَتُ مَن ظَلَمنا بالوحشية والانتهازية. ولكن، لو تفحصنا في ماضينا لوجدنا أننا جميعنا نحمل تلك الجينات التي تبرر لنا أذية وابتزاز الآخر لتحقيق ما نريده، سواء بالقتل أو الاستغلال أو الحب أو صلة الرحم، كلها طرق يبتز بها بعضنا بعضاً لكي يحصل على ما يريد، مهما تسبب ذلك في ضرر للآخر.

بدأت أشعر بأننا كلنا قابيل إذا أتيحت لنا الفرصة، إلا ما رحم ربي.

خارج المطار، كان ينتظرنا عدد كبير من الأطفال الشحاذين، طلب منا السائق غلق النوافذ لتفادي الاحتكاك بهم، أطفال لا يعلمون من الحياة سوى طلب كسرة الخبز ولا يجدون سوى استنكارٍ لجوعهم ولطلبهم. حزنت بشدةٍ وطلبت من السائق أن يقف حتى يتثنى لي إعطاؤهم بعض النقود، لكنه أصر على أننا سوف نجد حشوداً تلتهمنا إذا فعل ذلك. في طريقنا، تأملت حال البلدة التي بدت نضِرةً بجمالها، ما زالت بكراً بطبيعتها الساحرة وطرقاتها بين الجبال وجوها الجميل البارد قليلاً، يتحدث فيها الناس بلغات مختلفة؛ منها التيبت والأوردو، الهندوسية ديانتهم ولكن يوجد أيضاً بوذيون ومسلمون.

لفت نظري بساطةُ المنازل والحياة، وفوجئت بوجود القرود على أسطح المنازل وفي الشوارع، مثل الكلاب في بلداننا! نظراً لما أعانيه من فوبيا من كل الكائنات الحية، كنت قلقة جداً وخائفة من وجود قرود في الفندق، ولكن الحمد لله الفندق بعيد نوعاً ما عن وسط المدينة ولم أر فيه قروداً. اتفقت مع بريا على أن ننال قسطاً من النوم وأن نتقابل بعد ساعتين لزيارة أهلها. وبالفعل، اتجهت معها لمنزلهم وأنا في رِيبة من ظهور قرد متحرش في الطريق، ولكن ربنا سلم.

وصلنا المنزل حيث كانت أخت بريا في انتظارنا، رحبتْ بي ودَعَتْني للدخول، كانت والدتهم تنتظرنا أمام مائدة مرصوص عليها أنواع من الطعام الذي كانت رائحته قوية جداً، احتفت بي والدتها بشدة، منزلهم جميل وبسيط، كنت سعيدة بحفاوتهم بي واستمتعت بالجلوس بينهم وتذوّق طعامهم اللذيذ حقاً والذي يشبه الأكلات الهندية؛ نظراً لوجود نكهة الكاري بقوة.

بعد ساعتين من الدردشة والضحك، استأذنت للعودة للفندق؛ خوفاً من تأخري.. استقللت تاكسياً، وفي طريق العودة سألني السائق عن سبب وجودي، فجاوبته بأنها المرة الأولى لي التي أزور فيها البلدة، فنصحني بتسلق الجبل وأنه من أهم معالم البلدة ومن الرياضات المتعارف عليها في كاتمندو، حيث يجيء السياح خصيصاً لتسلق جبال الهيمالايا وللاستمتاع بالمناظر البديعة. للأسف، لم يكن لدي الوقت الكافي للقيام بذلك، ثم عرض عليّ أن يأخذني إلى شارع معروف اسمه " تامل"، حيث يوجد محلات لبيع الهدايا التذكارية وأفلام هوليوودية ولكن بنسخة نظيفة. وطبعاً، نظراً لعشقي للأفلام وافقت رغم معرفتي أنها سرقة، ولكن أحياناً نبرر لأنفسنا أخطاءنا بكل وقاحة، توجهنا للشارع الضيق والمزدحم، الذي ذكّرني بشارع خان الخليلي، شكرت الرجل واتفقت معه على أن يقابلني بعد ساعتين في المكان نفسه ليقلّني للفندق.

بدأتُ جولتي في المحلات الصغيرة المعروض فيها شالات من الحرير ومن القطن يطلق عليها "باشمينا"، كانت رائعة الجمال، ابتعت منها شالين، ثم توجهت إلى محل الأفلام، اخترت 15 فيلماً جديداً، طُلب مني العودة في اليوم التالي حتى يتثنى له تجهيزها، لفت نظري وجود فرقة مكونة من شخصين تعزف داخل مطعم صغير مكتوب عنوانه بالإنكليزي (المطبخ الإيطالي)، وقعت في هوى المكان وقررت أن أتناول غدائي فيه غداً عندما أتسلم نسخ الأفلام.

عدت للفندق، فوجدت رسالة أسفل باب غرفتي من الكابتن يدعونا لتناول العشاء في مطعم "بخارا" الموجود بالفندق، سعدتُ بالفكرة، استمتعت بدش ساخن وهبطت لاستكشاف الفندق قبل أن نجتمع للعشاء، كان الفندق له طابع قديم، حيث تزدان الطرقات بتماثيل صغيرة على الجانبين، وبالخارج توجد بحيرة صغيرة تغطيها زهور بديعة وموسيقى "بودابار" تنطلق من السماعات وتبعث شعوراً بالراحة .

توجهت للمطعم، دهشني شكله من الداخل، حيث كانت الطاولات من الخشب القديم، حتى المقاعد عبارة عن كنب من الخشب، الإضاءة عبارة عن مصابيح زيت معلقة أعلى الطاولات، وعلى كل طاولة شمعة كبيرة، وجدت مساعد الكابتن جالساً وقبل أن أتحرك دعاني للجلوس، مدّ يده للسلام وضغط على يدي بشدة، نزعت يدي وأنا مستاءة.

شعرت بالقرف وخرجت من المطعم دون أن أنطق، وجدت الكابتن أمامي، سألني لماذا أنا راحلة، ثم دعاني للدخول قائلاً: "الجميع قادمون حالاً"، فعدت معه للطاولة وتبعنا بقية الطاقم.. سألني الكابتن عن سبب ضيقي الواضح، فقلت له ما حدث فانزعج جداً وقال لي: "أحياناً، الأشخاص المنحطون يعتقدون أن كل الناس مثلهم، لا عليكي منه، اعتبريه حشرة"، وهكذا فعلت.

عرض الكابتن علينا أن يطلب الأطباق للجميع؛ لأنه جرب المطعم ويعلم جيداً الأطباق المميزة. وبالفعل، أحضر النادل أولاً العدس المخلوط بتوابل حارة -لم أذق مثله من قبل- في طبق موضوع على شمعة كي يبقى ساخناً، ثم أتبعه بطبق من سلطة الزبادي بالخيار والخبز "النان" والمغطى بطبقة من الزبدة والثوم، ثم وضع الطبق الرئيسي "فخذة الخروف" التي عبّأت رائحتها الشهية المكان كله، ما إن ذقت قطعة منها حتى ذابت في فمي كأنها زبدة، يا إلهي، كم استمتعت بتلك الأكلة اللذيذة!

بعد أن نسفنا الأكل، أحضر النادل أطباقاً صغيرة موضوعاً فيها قليل من الماء وحلقات الليمون لغسل أيدينا، ثم أحضر لنا الحلو، وكان عبارة عن حلقات صغيرة من العجين مغطاة بالحليب والعسل، قضمة واحدة كانت كافية لتصدّني؛ فلستُ من محبي الحلويات الثقيلة التي تقطر عسلاً، لكن استمتع الباقون بها.. أنهينا عشاءنا بحبيبات السكر نبات والكمون التي قدمها النادل كي تساعد على الهضم، طلبت من الشيف طريقة طهي اللحم، فأجابني ضاحكاً: "إنها سر".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل