المحتوى الرئيسى

د. أمل الجمل تكتب: “أخضر يابس” قطعة فنية ولغة سينمائية تستحق جائزة عن جدارة

12/10 11:52

“الجدران – والحيطان، كلها ناشعة، المسامير مش عاوزة تمسك فيها” جملة قد تبدو بسيطة وعادية نسمعها على لسان إيمان بطلة فيلم “أخضر يابس” لكن تأملها ومعايشة الواقع المصري في ذات الوقت يمكن بسهولة إدراك ما تحمله من دلالة رمزية قوية – ميتافور – بشأن الوضع المصري في تلك الأيام والسنوات الأخيرة التي نعيش فيها الخراب والاضمحلال في أقسى صوره.

الفيلم من تأليف وإخراج المصري الشاب محمد حماد في أول تجاربه الروائية الطويلة بعد تجارب قصيرة شاهدت منها “سنترال” و”أحمر باهت”، وهو ينافس ستة عشر فيلما آخرين – بينها ثلاثة أفلام مصرية – على المهر الذهبي الطويل بمهرجان دبي السينمائي الدولي الثالث عشر المنعقد في الفترة 7-14 ديسمبر الحالي.

حتى الآن لا يزال “أخضر يابس” أهم فيلم مصري شاهدته كاتبة هذه السطور من بين ستة أفلام مصرية طويلة؛ ثلاثة منها ضمن مسابقة المهر الطويل وقد شاهدت منها الوثائقيين “جان دارك مصرية”، و”النسور الصغيرة”، أما الثلاثة الأخرى فُعرضت ضمن قسم “ليال عربية”، وهى”مولانا” للمخرج مجدي أحمد علي عن رواية إبراهيم عيسى، و”يوم للستات” لكاملة أبو ذكري، وكذلك “الماء والخضرة والوجه الحسن” ليسري نصرالله والذي يرأس لجنة تحكيم المهر الإماراتي، ويتبقى لي مشاهدة الأفلام المصرية القصيرة وكذلك الروائي الطويل الأول لشريف البنداري “علي معزة وإبراهيم”.

يتفوق “أخضر يابس” على الآخرين لعدة أسباب أهمها عمق السيناريو رغم هدوئه وبساطته الهامسة، ببراعته في رسم تفاصيل الشخصيات بدقة تمنحها الصدق والطبيعية وهى ميزة يتمتع بها المؤلف وتتضح بقوة في عمله القصير “أحمر باهت” رغم تناوله لشخصيات نسائية وتعبيره عن مشاعر أنثوية ولكن بقوة لافتة ومدهشة، كذلك توظيفه أقل قدر ممكن من الحوارات المعتمدة أساسا على جمل جافة وقصيرة تعبر عن جفاف المشاعر بين الشخصيات إذ تفض غموض الأشياء حينًا وتزيدها غموضًا في أحيان أخرى، الأمر الآخر المميز للفيلم هو القدرة على ضبط الزمن النفسي للشخصيات والفيلم بحيث يمنح شخصياته كينونتها الإنسانية ويأخذها في مجرى انسيابي تلقائي.

يبلغ الزمن الدرامي للفيلم نحو أسبوع، لا نرى خلاله أحداثًا كبرى أو صغرى، لكن الكاميرا تلاحق بطلته “إيمان” المتدينة الملتزمة أخلاقيًا فيرصد لنا تفاصيل حياتها، فوالديها لا وجود لهما، وتعيش مع أختها التي تدرس بالجامعة، وترعاها، وتنفق عليها من العمل اليومي في محل لبيع الحلويات منذ الصباح الباكر وحتى المساء متأخرا. ومع ذلك تبدو العلاقة جافة باردة بين الشقيقتين وظاهريا قد تبدو أيضًا خالية من أي مشاعر، لكن رعاية الأخت الكبرى للصغرى في أدق التفاصيل وتصرفاتها تشي بأن العواطف مكبوتة بالداخل.

يبدأ الفيلم بإيمان وهى تُجري بعض الفحوصات الطبية منها سونار وسحب عينات دم، مصحوبة بتساؤلات الطبيب عن تاريخ المرض الخبيث بالعائلة خصوصا بين النساء، ثم يخبرها أن النتيجة ستظهر بعد أسبوع. وطوال الأسبوع نصاحب إيمان لنعرف بعضًا من حياتها ومشاويرها بين شراء الستائر لتزين الجدران القديمة الصفراء المتهالكة استعدادًا لزيارة أهل الخطيب المتقدم لأختها الصغرى، وبين التردد على أعمامها الرجال الثلاثة في محاولة أن يوافق أحدهم أن يحضر ويستقبل العريس وأهله، لكن العم الأول محمد المتدين – بزبيبة الصلاة في جبهته – والذي تنصحه زوجته بالتنصل والرفض حتى لا تطالبه البنتان بأشياء أو التزامات مادية مستقبلًا، وكذلك يعتذر العم أشرف الذي جاء في زيارة سريعة من عمله بدولة عربية واقتصرت اقامته على أحد الفنادق لأنه سيعود سريعًا، أما العم الثالث فمريض مقعد يقوم ابنه أحمد برعايته، ورغم مرضه يوافق الرجل على طلبهما.

أثناء تحركات إيمان في المترو أو الترام وفي الشوارع نرى القبح الذي يحاصر الحاضر، كل شيء قديم متهالك، محتضر سواء في الشوارع، البنايات، الجدران، الأرصفة، القضبان التي يسير عليها الترام، وجوه الناس، ملابسهم، حتى الحلويات شكلها سيء رديء.

تكتشف إيمان البكر– وفق تصريح الطبيب – أنه رغم صغر سنها لكن الدورة الشهرية قد انقطعت عنها باكرا في حالة لا تحدث كثيرًا، خبر مفاجئ وصاعق لها، فعلى ما يبدو أنه كان هناك مشروع ارتباط لم يكتمل تشي به إحدى التفاصيل حيث نرى بين بكرات الخيط علبة صغيرة بها دبلة ذهبية، وجملة على لسان الأخت الصغرى عن أحمد ابن عمها المريض، وأسلوب إيمان نفسها في التعامل مع أحمد ورفضها أن يفعل شيئًا من أجلها مهما كان بسيطًا حتى لو اقتصر على وضع ملاعق السكر في كوب الشاي، وإن كانت العلاقة غامضة لا نعرف مزيدا عنها وكذلك مشاعر إيمان نفسها إذ نراها لأول مرة تهتم بوضع لمسات من الماكياج الخفيف قبل زيارة عمها وابنه، لكن هذا لا ينتقص من قوة الفيلم.

من بين لقطات الفيلم نرى الصبار الذي ترويه وترعاه إيمان، وهو يحمل دلالة على شخصيتها القريبة من الصبار القادر على التكيف مع البيئة مهما كانت صحراوي، ورغم أنه أخضر لكنه في نفس الوقت يابس بمعنى أنه عنيد وصلب وقادر على الاستمرار والبقاء، وهى صفات تتمتع بها شخصية إيمان والتي نشعر بها بصريًا في رسم ملامحها، لكن أيضًا عنوان الفيلم يشي بأن هذه الفتاة التي رغم أنها لم تتجاوز مرحلة الشباب التي يرمز إليها العنوان بالأخضر، لكنها أيضًا أصبحت جافة يابسة أو متيبسة وهو ما نراه طوال الفيلم ويتأكد بخبر انقطاع الطمث.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل