ذكرى مذاقاتٍ مضت.. هكذا يتذكر السوريون حضارة طعامهم المختفية وراء جدار الحرب
في فبراير/شباط عام 2013، فرّت ابتسام مسطو من سوريا مع أطفالها الستة. عبروا الحدود إلى لبنان واتجهوا إلى العاصمة بيروت، حيث كان يعمل زوجها، محمد، لإعالة عائلته قبل بداية الحرب الأهلية.
وعندما وصلوا إلى لبنان، سجّلت مسطو عائلتها في وكالة الأمم المتحدة للاجئين في المدينة. وعندما سمعت عن برنامج لتعلّم الطهي موجّه للنساء تديره منظمة "كاريتاس" الخيرية الكاثوليكية، تقدّمت السيدة التي كانت خائفة، وغير مستقرة، وعلى شفير الإصابة باكتئابٍ إكلينيكي، للالتحاق به. قالت لي عن ذلك: "أردت أن أفعل شيئاً بحياتي"، بحسب ما ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية.
في اليوم الأول، وجدت مسطو نفسها مع أكثر من 30 امرأة في غرفة غير فاتنة، تحوي موقداً واحداً وحوضاً. تفحّصت النساء إحداهن الأخرى. كن كلهن تقريباً، ما عدا بعض النساء اللبنانيات، لاجئات سوريات. كن نساء مثقفات من دمشق وحلب، وأكراداً من الشمال، وربات منازل من قرى صغيرة بالشمال الغربي. كان بعضهن مسيحيات، وبعضهن مسلمات، وكان بعضهن محجبات والبعض لم يكنّ، وكان بينهن مؤيدات للنظام بينما فقد بعضهن أبناءهن وهم يحاربونه. كانت أجواء الحذر تعمّ الغرفة.
دورة في مهارات الطبخ المنزلي
كانت الدورة، التي صُممت بمساعدة كمال مزوق، وهو رجل أعمال لبق عمل كثيراً لترويج الطعام اللبناني التقليدي على مدار السنوات العشرة الأخيرة، تهدف لتعليم النساء كيف يستخدمن مهارات الطبخ المنزلي، والتي اعتبرنها مهارةً أساسية يحتجنها في أعمال المنزل، لإيجاد عمل في مجال تعهد الطعام. والهدف الأهم، كما قال لي مزوق، كان إيجاد فرصة لتجتمع تلك النساء سوياً، وإعطائهن مكاناً يشاركن فيه قصصهن ووصفاتهن، ويمنحهن القوة.
كانت المهمة الأولى هي صنع الكِبة، وهي عجين من البرغل المحشّو بلحم الضأن المفروم. يتواجد طبق الكبة في الشرق الأوسط والمناطق المجاورة، كما يُلفَظ اسمه بطرقٍ مختلفة، كِبة، وكُبة، وكُبي. قد تُصنع قشرة الكِبة من السميد أو الأرز المطحون، ويمكن زيادة الحشوة بإضافة اليقطين أو البطاطس، أو يُضاف إليها الليمون، الثوم، القرفة، الفلفل الحلو، النعناع المجفف، السماق، الكمون، الشطة. يمكن قلي الكبة أو شويها أو طبخها، أو طهيها في طبقات في أوانٍ فخارية، أو خبزها على شكل أرغفة لحم كبيرة. في المطاعم اللبنانية، تكون الكبة على هيئة كرات صغيرة تشبه كرة القدم الأميركية. بينما في العراق، هي قطعة كبيرة من العجين المطوي على طبقة من اللحم. وفي إسرائيل، الكُبة هي طبق يعدّه يهود سفارديم من كرات العجين المطهوّة داخل حساء.
كانت لكل امرأة في الدورة طريقة مختلفة لإعداد الكِبة، وكانت كل منهن تريد أن تكون طريقتها الأفضل. بين نساء الدورة كانت هناك آشوريتان مسيحيتان، مارلين وناهرين. كانتا تعدّان الكِبة على شكل أقراص مفلطحة كبيرة محشوّة بلحم الضأن، وكانت الكبة التي تعدَّانها طرية وليست مقرمشة، ولم تكن بقيتنا في الدورة قد رأينا الكبة مسلوقة هكذا من قبل.
قالت لي مسطو في وقتِ سابق من العام الحالي: "شعرت بفضول بالغ لمعرفة كيف تعدّانها، لكنهما أبقيتا الأمر سراً. كانتا تحضّران العجين في البيت وتأتيان به جاهزاً. وجعل هذا فضولي أكبر".
وفي صباحِ يوم من أيام حصص الدورة، بينما كانت النساء يتحدثن أثناء شرب القهوة، حاولت مسطو إشراك مارلين في الحديث: "حاولت أن أكون لطيفة ومهذبة بطريقتي لأقلل من حذرهن وخوفهن من المسلمين. وبالطبع كان دافعي الحقيقي اكتشاف المكوّن السري لعجينة الكِبة التي تعدّانها. لكن كان هناك حاجزٌ بيننا، بين المسيحية والمسلمة، لهذا حاولت كسر ذلك الحاجز. حاولت أن أريهن رسالة الإسلام المسالمة وأن أشرح لهن أن محمد (صلى الله عليه وسلم) كان صانعاً للسلام، كما كان المسيح. وقرّبنا ذلك من بعضنا البعض قليلاً، ونشأت صداقة بيننا".
ومع ذلك، أحياناً ما كانت تصبح العلاقات بين زميلات الدورة متوترة. ففي أحد الأيام، طلبت سميرة، وهي أرملة وأم لأطفال ناضجين، أن تساعد مارلين في إعداد الكبة. صدّتها مارلين وقالت لسميرة ألا تتدخل. شعرت سميرة بالإهانة وصرخت في وجهها. احتدّ الجوّ بالمطبخ، واضطر مزوق، الذي كان يساعد بالإشراف على الدورة في ذلك اليوم، للتدخّل، وقال للسيدات إنَّهن هنا للتعلم معاً، ويجب على كلّ منهن تعليم الأخرى كيفية إعداد طبق يمكنهن إعداده سوياً.
وافقت سميرة ومارلين، لكن مارلين لم تكن راضية بالأمر. وقالت لمسطو: "اضطررت للموافقة، لكني سأعطي الوصفة الحقيقية لكِ فقط. أنتِ الطاهية الوحيدة البارعة والجديرة بالثقة، أعلم أنكِ ستعدّينه بالطريقة المضبوطة".
بالنسبة للسوريين، يمثّل الطعام جزءاً هاماً من هويتهم القومية. تطوّر المطبخ السوري على مدار آلاف الأعوام من الفتوحات، والتجارة، والهجرة، شكّلته ومزجته عشرات الشعوب: عرب، وأكراد، ودروز، وأرمن، وشركس، وآشوريون، وعلويون، وأتراك، وتركمان، وفلسطينيون، وإسماعيليون، ويونانيون، ويهود، ويزيديون. تُعد المائدة السورية تعبيراً عن بلد متعدد الثقافات، وطريقاً للتعايش في بلد تدمّره الآن الحرب الأهلية.
فرّ 6 ملايين سوري من موطنهم منذ عام 2011. يوجد بلبنان أكثر من مليون لاجئ سوري مسجّل، ويرجّح معظم الناس أن العدد الإجمالي يفوق ذلك. وحتى في المنفى، يتحدث الكثير من السوريين عن الطعام بذات الفخر، والشغف، والهوس، كما يفعل الفرنسيون حينما يتحدثون عن النبيذ. وفي عدة مرات، عندما كنت أتحدث مع سوريين مقيمين بلبنان، أجدهم يتذمرون بشأن سوء الخضراوات اللبنانية، والطعم المائع للحم الضأن الأسترالي المستورد، وغياب التنوع عن الأصناف التي تقدمها المطاعم.
تذكَر مجدي شرشفجي، وهو رجل أعمال آشوري ترك حلب بعد بداية الحرب، الفارق في الطعم وقال: "إنَّه الدهن، دهن الضأن السوري!". قابلت مجدي ذات ليلة في مطعم "لوريس"، وهو مطعم فاخر افتتحه في بيروت. طلب لي طبقاً من الكباب بالكرز لأجربه. قال وهو يبتسم بشدة: "يمكنني معرفة الفرق بين موطن الغنم، إن كان قد أتى من حلب أو حماة، فقط من رائحة الدهن!". تذكّر شرشفجي، ثم رفع راحتيه الفارغتين تعبيراً عن الحنين والحزن على عالم، وحياة، وحضارة، قد يكون فقدهم إلى الأبد.
في حلب، مسقط رأس شرشفجي، يُعرف المطبخ ببهاراته الحامية، لأنها كانت مركزاً لتجارة البهارات القديمة: تقاطع امتزجت فيه الأطباق العثمانية الدقيقة، مع الوصفات الحامضة والحلوة التي أحضرتها القوافل الصينية، مع مزيج اللحم والفاكهة المُحَبَّب إلى الفرس. أحد الأطباق الحلبية المشهورة هو الكِبة المعدّة بالسفرجل، والمطهوّة بعصير الرمّان الطازج.
قالت لي أنيسة حلو، كاتبة لبنانية مختصة بالطعام، إنَّه "في لبنان توجد 6 أو 8 أصناف من الكِبة. بينما في سوريا يوجد عدد لا نهائي من التنويعات". رسمت أنيسة خريطة التنوّع الإقليمي للطعام السوري قائلةً: "في دمشق، الأطباق أكثر تغذية، بتعبيرٍ أكثر صراحةً: كأكل الشوارع. وبالطبع، دمشق مملكة البقلاوة. على الساحل تجد أطباق الأسماك، وبالقرب من الأردن، في الصحراء، تجد المنسف (وهو طبق بدوي من اللحم المطهوّ في اللبن الرائب المخمّر المجفف)".
وأكدت لي ديما شار، وهي طاهية سورية شابة، ذكية وجميلة وذات قصة شعر قصيرة، أن الطهي أثناء نشأتها في دمشق كان "وقتاً للحديث والثرثرة". بينما جلسنا في شرفة المطعم في وقت متأخر من الليل بعد انتهاء ورديتها، وصفت شار طبقاً اعتادت جدتها تحضيره: شرائح من لحم الضأن متبلة برأس ثوم كامل ونعناع مجفف، ومطهية في الليمون والماء. وأضافت ديما: "كانت تضيف السمن أيضاً، لتجعل المذاق أغنى. اعتدنا أن نعدّها أيام الجمعة عندما كانت كل العائلة تجتمع".
لا تزال شار تسافر ذهاباً وإياباً بين بيروت ودمشق. تزور جدتها وتدوّن وصفاتها. قالت: "هذه الأيام لا تعدّ النساء هذه الأطباق المعقّدة. لم تعد هناك عائلات كبيرة يجب إطعامها. قُتل أبناؤهن أو غادروا، لم يعدن يحتفلن".
سحبت شار نفساً عميقاً من شيشة بنكهة التفاح، وأكملت حديثها: "أعتقد أن معظمنا يشعر بأنه تائه. أردتُ البقاء في لبنان بدلاً من اللحاق بعائلتي في مونتريال. نعم، أظن أني كنت آمل في العودة مجدداً إلى سوريا. لكن بعد مرور 5 سنوات، أحدثكِ صدقاً، أنا الآن أعيش كل يوم بيومه فقط".
عندما تخرّجت ابتسام مسطو كإحدى نجمات برنامج كاريتاس، طلب منها كمال مزوق أن تفتح كشكاً للكبة في سوق الطيب، وهو سوق المزارعين الذي يديره في بيروت. كان هذا حيث قابلتها للمرة الأولى في أبريل/نيسان من العام الجاري، وأدهشتني واجهة الكشك من الكِبة، التي عرضتها بألوان وأشكال مختلفة. اشتريت واحدة معدّة من البطاطس ومحشوّة بعجينة المحمّرة الحارة الممزوجة بالجوز، وواحدة على شكل نصف دائرة محشوة باللحم والفطر، وكِبّة ملفوفة بالسبانخ والفستق، وأخرى بلحم الضأن والسفرجل.
قالت لي مسطو: "في سوريا، كنا دائماً نحشوها باللحم، لكنهم في لبنان يفضلون أن تكون خفيفة ونباتية"، ارتفع حاجباها تحت حجابها الملفوف بعناية، لتبدي إعجابها بالتكلّف المتقلّب لسيدات بيروت.
كان كل شيء يتعلق بمظهر مسطو الخارجي مهندماً ومضبوطاً، كان معطفها الطويل مغلق الأزرار بعناية، وكان وجهها شاحباً بلا مكياج. ومع ذلك، كان سلوكها ودياً وسلساً. كانت تحذر من الصحفيين، إذ صوّرها آخر صحفي تحدثت معه كمعارضة لنظام الأسد، لينسج قصة مؤثرة عن امرأتين سوريتين على جانبين مختلفين من الحرب، لكنهما برغم بذلك كانتا صديقتين مقربتين، وطاهيتين، وزميلتين.
أغضب هذا مسطو، التي لطالما حافظت على اتخاذ موقع حيادي من الأزمة السورية. وكانت تعيش في منطقة من بيروت أغلبية سكانها من السوريين المؤيدين للأسد، وبعد صدور المقالة، خافت مسطو من تهجُّم السكان عليها. والأسوأ أن اعتبارها معارضة للأسد يعني أن عودة عائلتها لسوريا ستكون شديدة الصعوبة، حتى إذا خفّت حدة القتال. وخلال هذه المحنة، اشتكت لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، وسألتها الوكالة إن كان يمكنها التفكير في مغادرة لبنان. وهنا اتفقّ مسطو ومحمد أنه قد آن أوان الرحيل.
عندما قابلتها، كانت قد تمت الموافقة على طلب عائلتها للجوء. وقيل لهم إنَّهم سينتقلون إلى أميركا. تسبب لهم الخبر في البداية بالذعر، إذ كانوا يعرفون أن ألمانيا أو كندا هي أماكن جيدة بالنسبة للاجئين، ولكن أميركا، حسبما قالت مسطو "كوننا مسلمين، افترضنا أننا لن يكون مرحباً بنا في أميركا".
وبينما سألتني عن نوع المقال الذي أنوي كتابته، أوضحت أنها لا تريد أن يُقتبس عنها كلامٌ متعلق بالسياسة حتى لا يسبب ذلك مشاكل في طلبها للّجوء. لكنها كانت مستعدة للسماح لي بزيارة منزلها لأعرف كيف تصنع الكِبة.
عاشت مسطو مع أسرتها خارج وسط بيروت، في أعلى المنحدرات الجبلية، في منطقة أحراج كانت مزدهرة الخضرة، وتتناثر فيها القمامة. في اليوم الذي وافقت أن تريني فيه كيف تصنع الكبة، دعتنا إلى منزلها، وهو عبارة عن مكعب بلا نوافذ قبالة فناء صغير به مبنى من الخرسانة ذي طابق واحد، كوخ به غرف متصلة أكثر منه مجموعة من البيوت، كانت الغرفة متوهجة بضوء أخضر بفعل لمبة فلوريسنت واحدة.
أما أرضية الغرفة فكانت من الأسمنت الجاف، وكانت هناك 3 مراتب من القش على أطراف الغرفة، وتلفاز صغير، وثلاجة كبيرة، وأريكة بالية وكرسيان من البلاستيك. كانت الغرفة مُنَظَّفة بعناية شديدة، تكاد لا تجد بها بقعة واحدة.
جاء محمد، زوج مسطو لتحيتنا. لمحمد وجه مربع وسيم، يحيط به شعر أبيض مفرود على إحدى جانبيه. لم يصافحني محمد، وإنما لمس صدره براحته بدلاً من ذلك.
قلت لها: "الكبة!" وصفقت بترقب.
قالت: "نعم، ولكن القهوة أولاً". ثم أحضر لنا خالد - ابن مسطو ذو الـ17 عاماً - كوبين من النسكافيه، وتبعته أخته، سدرة، بوعاء من السكر.
جلست مسطو القرفصاء بجانبي، على سرير رفيع من القش. ما إن سحب خالد ماكينة كبيرة ولامعة لفرم اللحم وأوصلها بسلك توصيل، حتى قامت مسطو بحذر بسحب زوج من القفازات البلاستيكية البيضاء، ووضعت وعاء من البرغل إلى جانب إبريق بلاستيكي مليء بالماء. الآن كانت مسطو مستعدة لعمل الكبة.
وُلدت ابتسام مسطو عام 1980 في بلدة جسر الشغور، في محافظة إدلب شمالي سوريا. تركت المدرسة عندما كانت تبلغ 12 عاماً. وتزوجت محمد (ابن عمها) عندما كانت تبلغ 15 عاماً. قال زوجها متفاخراً: "كانت تعتبر أفضل الطباخين. كانوا يطبخون جميعاً، ويصنعون الكبة. دائماً ما كان هناك الكثير من البنات والأصدقاء والأخوات، لأن النساء في القرية يعملن في المنزل".
وقالت مسطو متذكرة: "كانت لأختي حديقة بها صفوف من الخضراوات، وكنا نتنزه هناك، ونلتقط الخضراوات ونأكلها هكذا".
جسر الشغور بلدة سنية، معارضة لنظام بشار الأسد، وكانت معارضةً لوالده، حافظ الأسد من قبله. عندما بدأت مظاهرات الربيع العربي في سوريا عام 2011 كان أهل جسر الشغور من أوائل الذين خرجوا إلى الشوارع. كان القتال قد بدأ ذلك الصيف، واحدة من أولى معارك الحرب الأهلية، وفي خضم الارتباك وإطلاق النار فر الكثير من سكان البلدة. ذهبت مسطو وأطفالها إلى لبنان ليقيموا مع محمد، لكن الأطفال لم يذهبوا إلى المدرسة هناك. بعد شهرين، أخبرها أبواها بأن القوات الحكومية قد أعادت الهدوء إلى المدينة، لذا قررت أن تعود بأطفالها إلى البلدة.
كان الأمر هادئاً في البداية، لكن القتال سرعان ما بدأ مرة أخرى. وقالت مسطو: "كان أطفالي مصدومين من سماع أصوات الحرب طوال الوقت". وكانت الشاحنات المحملة بأجساد الموتى تمر بهم. انقطعت المياه، ولم يكن هناك كهرباء. كانوا يبحثون عن خشب التدفئة بشق الأنفس. ولم تستطع الإمدادات الوصول للبلدة من الريف، وأصبح الطعام نادراً. قالت مسطو: "في النهاية، وصل الحال إلى أنني لم أجد حتى الدقيق لعمل الخبز، أو أي شيء لإحراقه كوقود".
في بدايات عام 2013 بدأوا باختطاف الفتيات. سألتها: "من هم الذين بدأوا؟". زمت مسطو شفتيها. من يدري؟ بدأوا في اختطاف الفتيات كتجارة، وطالبوا بمبالغ هائلة كفدية. لم يكن محمد قادراً على زيارتهم لأكثر من عام. عندما اتصلت به مسطو وهو في لبنان، أخبرته بأنها كانت خائفة على بناتهم. بدا من الواضح أنهم بحاجة إلى الخروج. وبالفعل، تركوا جسر الشغور في السادسة صباحاً، وبعد تفتيش دقيق في نقاط التفتيش الحكومية، وصلوا إلى دمشق في العاشرة صباحاً، ومن هناك استقلوا حافلة إلى الحدود اللبنانية، حيث قابلهم محمد.
جلست أشاهد مسطو التي أصبحت آمنة في بيروت، وهي ترش البرغل على الماء وتعجنهما معاً، ثم وضعت كتلاً من العجين اللدن في المفرمة الكهربائية. خرج العجين من المفرمة على شكل أنبوبي. جمعت ماستو ما خرج، وعجنته سوياً، ثم وضعته في المفرمة مرة أخرى. ومع كل مرة جديدة كان البرغل يمتص ماءً أكثر ويصبح العجين أكثر نعومةً وجفافاً، حتى أصبح مطواعاً تماماً. تحب مسطو أن تضيف القليل من الذرة على كبتها. تلك هي لمستها الشخصية.
كانت مسطو شديدة العناية بالتفاصيل. كانت تعجن العجين بينما كانت تتكلم. لم يكن يقع منها أي شيء، ولم تضع حبة واحدة هباءً. وقالت بينما كانت تعمل: "تحتاج أن تكون دقيقاً في الطريقة التي تصنع بها العجين. لا بد أن تعد الطعام بحب من أجل أن يحبه الناس. لو أعددت الطعام بلا حب، فلن تستطيع أن تلامس الناس".
700 ألف لاجئ في لبنان
يدعم برنامج الأغذية العالمي، وهو قسم المساعدة الغذائية العاجل في الأمم المتحدة، حالياً أكثر من 700 ألف لاجئ سوري في لبنان. منذ ربيع 2016، وزع البرنامج مصروفاً شهرياً قدره 27 دولاراً لكل فرد لثلثي عائلات اللاجئين، وهي العائلات التي يعتبرها البرنامج الأكثر احتياجاً. يُشحَن المال على بطاقة إلكترونية تُعطَى لكل أسرة.
يمكنهم حينها إنفاق المال على الطعام من 490 محل بقالة مسجلة في النظام في جميع أنحاء لبنان. تم تحويل 770 مليون دولار خلال هذا النظام منذ 2012. وقمت بزيارة إحدى الأسر التي تعيش على هذا النظام في وادي البقاع في إحدى أيام شهر مايو/أيار.
وصل عبادي العيد، رب الأسرة، إلى لبنان مع زوجته، خولة، وأبناؤهم الثلاثة، منذ أكثر من عامين، بعد أن فرُّوا من مدينة الرقة، التي يتحكم فيها داعش منذ شهر يناير/كانون الثاني 2014. بعد فرارهم أنجبوا طفلاً آخر. وهم يعيشون في إحدى معسكرات اللاجئين الصغيرة التي ظهرت في الحقول على امتداد الهضبة الخصيبة بين بيروت والحدود السورية.
ذهبت مع عبادي وخولة إلى حيث يشترون احتياجاتهم الشهرية من محل بقالة صغير على الطريق بين دمشق وبيروت. أحضرا معهما ابنهما ذا الثمانية أعوام (إبراهيم) المُصاب بحالة عصبية غير مشخصة نتج عنها توقف نموّه. كل الناس كانوا ينادونه باسم "حجي" وهو اسم تهكمي يستخدم عادة للإشارة إلى الأشخاص كبار السن الذين أدوا فريضة الحج.
ابتسم حجي ومدَّ ذراعه ليصافحني. قهقه ومشى متبختراً، ثم أصبح عدوانياً فجأة إلى أن صار على حافة الإصابة بنوبة غضب. أراد الحصول على حلويات، وأراد بعض البسكويت. أعطته أمه علبة من البسكويت فاحتضن العلبة إلى صدره، ثم أخذ يقذف قطع البسكويت في فمه واحدة تلو الأخرى.
قالت لي خولة وهي تتنهد: "يريد أن يأكل كل شيء". يأكل حجي طوال الوقت، لكنه لا زال نحيفاً. أخذته الأسرة إلى عيادة تابعة للأمم المتحدة، لكن لم يكن هناك مال لإجراء تحليل دم. وتابعت خولة: "قبل الحرب، لم يكن هذا حاله. قالوا إنَّه لا يستطيع الذهاب للمدرسة لأنه مخرب. اضطررنا إلى تغيير المعسكر 5 مرات لأن الناس لا يقبلونه".
بينما كان عبادي يجر العربة داخل المحل الصغير، تعثر حجي وصرخ، وانحدرت دموعٌ حارة على خديه. أراد الحصول على حبوب الشوكولاته. وضعت خولة صندوقاً غالياً من حبوب الشوكولاته في عربة المشتريات.
عند الخروج كانت الأسرة اشترت ما يلي:
زجاجة من عصير التوت البري "أوشن سبراي"
3 علب كبيرة من الملوخية المجففة
عدة كيلوغرامات من العدس والفول والبرغل
صفيحة من زيت الطهي (16 لتراً)
صفيحة من زيت الزيتون (4 لترات)
علبتين كبيرتين من البازلاء الطازجة
صفيحة من صلصة الطماطم (2.5 كيلوغرام)
لم يشتريا أي بيض أو خضراوات أو لحوماً طازجة؛ لأنها كانت غالية. هناك نكتة تدور حول طبق سوري يدعى بطاطا وفرّوج (بطاطس ودجاج) يطبخ بالليمون. هذه الأيام من النادر جداً الحصول على دجاج، لذا يطبخ اللاجئون هذا الطبق دون أي لحم ويسمونه "الدجاج الطائر"، لأن الدجاج قد طار.
تعيش أسرة العيد في خيمة كبيرة بما يكفي للوقوف داخلها. إطار الخيمة مصنوع من الخشب، بينما الجدران خليط من الحديد المموج، وشرائح من الخشب الرقيق، ومشمع مطبوع عليه شعار وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين. سقف الخيمة مغطى بلافتات دعائية قديمة مضادة للمياه، ومدعوم بإطارات السيارات.
لم يكن عبادي يعمل. كان ودوداً ودخن السجائر في حضورنا، وعندما سألته عن المستقبل، وجه راحتيه ناحية السماء، مستسلماً لإرادة الله.
ربضت خولة بجانب أنبوبة غاز زرقاء، أعلاها وعاء من حساء العدس. أخبرتني خولة بأنها عندما كانت في سوريا كانت تطبخ ما تريد، وقالت إنهَّا كانت تطهو "الكبة، والخضراوات المحشوة، وهذه الأشياء التي اعتدت أن أطبخها، لم أعد أطبخها. أنا متوترة وقلقة طول الوقت. أحياناً لا أستطيع حتى تذكر الأشياء. ذاكرتي سيئة لأنني لا أستطيع التفكير بشكل ملائم. أنا فقط أعيش يوماً بيوم. أفتقد عائلتي، كنا قديماً نجتمع كلنا ونأكل معاً".
بعد أن شكلت مسطو العجين أرتني كيف تصنع الحشو. قطَّعت بصلة بسرعة، دون أن تنظر إليها، إلى شرائح طويلة. وضعت البصل في وعاء، والجوز المكسَّر في وعاء آخر، والبقدونس المقطَّع بعناية في وعاء ثالث.
في المطبخ، قلَّبت مسطو قطع الجوز في مقلاة ساخنة وضعتها على موقد صغير على طاولة، ثم صبت عليها دبس الرمان الذي أحدث بعض الفقاعات. قلَّبت البصل، بعناية لئلا تحرقه. ثم بعد عدة دقائق، وضعت الخليط في طبق نظيف ورشت عليه البقدونس.
تعلمت مسطو طهي الكبة، عندما كانت طفلة، من أمها الحلبية. يعني هذا أن عندها ميلاً لجعل أطباقها حارة. فحرارة الشطة الحلبية تشق طريقها لمعظم الأطباق المحلية تقريباً، إما مطحونة، مثل الفلفل الحلو، أو مطبوخة بعد أن يجفف اللب في الهواء الطلق على هيئة قوالب من العجينة الحمراء.
تعلمت مسطو حب القرآن من أبيها، الذي كان يعمل سباكاً، كما تعلمت منه حب الغناء. عندما كانت وشقيقاتها صغيرات، كن يتحلقن حول أبيهن بينما كان يرتل سور القرآن. كان الأب يريهن كلمات القرآن ويقرأها لهن على مهل ويشرح معانيها. أصبحت مسطو عاطفية قليلاً عندما وصل الحديث إلى ذكر والدها الذي مات العام الماضي في المنفى، في لبنان.
وضعت الكبة جانباً لدقيقة وسألت: "هل تريدين أن أرتل لك سورة من القرآن؟".
أغلقت عينيها، وركزت كل مجهودها في الكلمات، في إيقاع الآيات وجمالها. كان صوتها متألقاً، وقوياً، ونقياً، وخاشعاً. خطر على بالي في تلك الغرفة الإسمنتية القاتمة أن كل شيء فعلته مسطو، إنما فعلته بكامل انتباهها. لم تفعل أي شيء دون اهتمام كامل. كانت عيناي مغرورقتان بالدموع. أعطتني سدرة، ابنة مسطو ذات الـ11 عاماً، منديلاً دون كلمة.
بعد وقتٍ قليل من انتهائها من الترتيل، عادت إلى صنع الكبة. وضعت الحشو في العجين المجهز، ولفت الحواف بحيث صارت على شكل دمعة مزدوجة الحواف، كما تُصنَع عادةً الكبة. ثم قامت بقلي ما صنعت في كمية كبيرة من الزيت.
النوع المفضل من الكبة الذي تصنعه يدعى كبة الرايج (أي الراهب). جاءت وصفة تلك الكبة من مفترق طرق خارج جسر الشغور حيث كان يعيش أحد الرهبان. بحسب الأسطورة المحلية، فإن الراهب كان يصنع هذه الكبة ويعطيها للناس أيام الآحاد. في ورشة الطبخ، حازت كبة الراهب التي تصنعها مسطو على تصويت المشاركين بأنها الأفضل.
تألقت فخراً بينما كانت تخبرني ذلك. خلطت معجون المحمرة بدبس الرمان والكمون، ثم خففت ذلك بزيت الزيتون لعمل الصلصة. بعد ذلك وضعت الكبة على لوح صغير. أكلتُ الكبة بأصابعي. كان الطعم مالحاً وحامضاً. اختلط البرغل والجوز المطحون فصنعا طعماً حلواً ومراً في الوقت ذاته.
في إحدى المرات، عندما كنت أتحدث مع لاجئي إحدى مخيمات وادي البقاع. سألت مجموعة من النساء إذا كنّ يصنعن المخللات والمربى في المخيم. كانت قالت لي الطاهية الشابة ديما شار إنَّ تحضير المخلل (أو المونة كما سمَّتها) كان نشاطاً شعبياً، وجزءاً من النسيج الاجتماعي في سوريا. قالت عن ذلك: "كانت أمي تجتمع مع جاراتها في دمشق. في موسم الخرشوف مثلاً، يذهب أبي إلى السوق ويشتري كيلوغرامات من الخرشوف، ثم تجتمع النساء لتنظيفها وطهيها وتحضيرها، وحفظها للتجميد، المونة هي تقليد لحفظ الطعام.
أخبرتني ديما أن وصفتها المفضلة لصنع المونة هي "الليمون البلدي، أو الليمون المحفوظ. كنت أذهب مع أمي إلى السوق لنشتري الليمون، نختار الليمونات الكبيرة. كما يجب أن تكون قشرتها سميكة. ثم تفرّغينها من الداخل وتتركينها خارجاً في درجة حرارة الغرفة لثلاثة أو أربعة أيام حتى يتكوّن على قشرتها قليل من العفن الأبيض، ثم تمسحينه بقماشة رطبة، وتحشين الليمون بالجوز، ومعجون الفلفل الأحمر، والثوم المدقوق ممزوجاً بالقليل من زيت الزيتون. ثم تضعينهم في برطمان، وتملئين البرطمان بزيت الزيتون. وكنت أحتفظ بالزيت وأستخدمه كصلصة للسلطات".
جلست 20 لاجئة أو أكثر في دائرة واسعة من حولي في وادي البقاع. حملت كلهنّ تقريباً رضيعاً أو طفلاً صغيراً في حجرها، كان العديد منهن يعيش في الخيام منذ 5 سنوات، منذ بدأت الحرب. مونة؟ استهجنت النساء سؤالي. لا، ليس فعلياً. وأخبرنني بأن صنع المخلل يُعد تعبيراً عن الاستقرار، تتجسد فيه فكرة التخطيط والنظر للمستقبل، بعد 6 أشهر، سنكون هنا، في نفس المكان. قالت إحدى النساء: "نحن نعيش اليوم بيومه فحسب، نشترى ما نحتاج ونأكله".
سألت السؤال ذاته لطاهٍ سوري شاب من دمشق اسمه سام، كان يعيش في بيروت منذ عامين (لم يرد أن أستخدم اسم عائلته؛ لأن لديه إخوة ما زالوا يعيشون بمدينة اللاذقية الساحلية). كان سام شاباً مكتنزاً ومرحاً، لكنه يستغرق في التأمل عندما يفكّر بالماضي، وأجابني قائلاً: "عندما كنت صغيراً في دمشق، كنت أسكن مع صديق يمتلك مقهى في المدينة القديمة. واعتدنا أن نذهب للسوق ونشتري كل الخضراوات ونصنع المخلل معاً. كنت أحب الطهي، وكان هو يحب الطهي".
وأكمل سام حديثه: "كان يجتمع 6 أو 7 منّا، بعد إغلاق المقهى، ونأكل ما أعددناه ذلك اليوم. كنّا نشرب العرق ونستمع إلى الموسيقى، كان أحد أصدقائي يعزف العود". توّقف سام. ضاق تنفسه واختفت ابتسامته، وزمّ شفتيه محاولاً التذكر، ثم قال: "أسكن هنا منذ سنتين، ولم أشترِ قطعة أثاث واحدة حتى الآن. أقول لنفسي إن هذا الوضع مؤقت. لم أعدّ المخلل هنا. هذا شيء تصنعه في بيتك، وهذا ليس بيتي".
الطعام وسيلة لحفظ التاريخ والحضارة
Comments