المحتوى الرئيسى

عن العودة إلى مقاعد الدراسة في الأربعين

12/08 18:34

هو قرار لم يكن بالأمر السهل لديّ، وقبل أن يتفاجأ به مَن هم حولي من أهل وأصدقاء، تفاجأتُ أنا به بل تفاجأتُ بنفسي كيف تجرأَتْ على أخذ قرار كهذا، لقد قرّرتُ أن أعودَ إلى مقاعد الدراسة بعد عشرين عاماً من تخرّجي من الجامعة، والمفارقة البارزة هي أنني عُدت لإكمال الدراسة في مجال مختلف عن مجال شهادتي الأصلية، فأنا أحمل شهادة جامعية في الهندسة بينما الدراسة العليا التي التحقت بها هي في ماجستير في إدارة الإعلام.

طبعاً لم يكن هذا الخيار عشوائياً، بل كان مبنيّاً على تغيّر طرأ على مساري المهني أدّى بي إلى نقلة من مجال الهندسة إلى المجال الإعلامي.

وبالرغم من أنّ هذه النقلة كانت تدريجية لا فجائية، وأنّها لم تكن أمراً سيئاً بالنسبة لي، بل على العكس كانت نقلة تتناسب مع شخصيتي وشغفي وتطلّعاتي، فإنها فرضت عليّ تحديّاً: أنا لا أحمل شهادة في الإعلام! وبالرغم من ممارسة المهنة على أرض الواقع واكتساب خبرة لا بأس بها مع السنين، فإن موضوع الشهادة ظلّ صوتاً يحوم في الخلفية ويهمس لي بأنّ هناك نقصاً ما في تجربتي المهنية وأدّى بي أخيراً لأخذ القرار بخوض الدراسة من جديد!

هو قرار أخذته على حين غرّة، وما زلت أتلمّس فيه إيجابياته وتحدّياته مع يقيني وتفاؤلي بأن الله ما قدّر لي هذا الأمر إلا لخير.

لست هنا بصدد الحديث عن التحدّيات التي أواجهها؛ إذ إنّ أي قرار جديد في حياة الإنسان يفرض عليه حتماً تحدّيات، خاصّة كقرار إكمال الدراسة لشخص في منتصف العمر، يعمل بدوام كامل، وفي نفس الوقت هو زوجة وأم لأربعة أولاد، لكن ما أودّ الحديث عنه هنا هو الإيجابيّات التي لمستها، فهي صميم هدفي من كتابة هذه التدوينة التي أرجو من خلالها أن أطلق لفتة تشجيعية لكل من تحدّثه نفسه بإكمال دراسته العليا بعد مضي السنين وما زال متردّداً، هذه الإيجابيّات هي جزء ممّا قد عايشته في فترة وجيزة بعد البدء بالدراسة، على أمل أن أكتب عن تجربتي الكاملة مستقبلاً بعد تخرّجي إن قدّر الله لي ذلك.

بدايةً، أولى الإيجابيّات هي قرارك بحدّ ذاته

أن تأخذ قراراً بإكمال دراستك في عمر الأربعين وأنت الذي في حياتك العملية والاجتماعية شخصٌ مستقرٌّ مهنياً وعائلياً ولا يعكّر صفو حياتك إلا بعض الأمور الحياتية الاعتيادية، فهذا بحدّ ذاته مؤشرٌ جيد على أنّك شخص يسعى لتطوير نفسه ولا يركن لحالة من الركود، خاصة فيما يتعلّق بالركود المعرفي أو العلمي، كما يدلّ على أنّك تعلم جيّداً ما ينقصك من المعارف التي تسهم في تطوير مهنتك في سبيل أن تنهض بعملك وتطوّر فيه.

ثانياً: الجمع بين طموح الشباب ونضج الكبار

في صفوف الدراسات العليا قد تلتقي بمن هم في عمرك وأكبر، إلا أنّ المتخرّجين الجدد يشكّلون النسبة الأكبر من الطلاب، إنّ هذا القرب من عمر الشباب يجعلك تنظر للأمور بنظرتهم مرة وبنظرتك مرة أخرى، ويعيد إليك حماساً وطموحاً كاد يكون غائباً عن حياتك، فالاختلاط بالطلاب الأصغر سنّاً بكل اندفاعهم وأفكارهم الجديدة ومهاراتهم الحديثة، يوقظ فيك اندفاعاً نائماً وحماساً كامناً فتجمع بذلك بين حماسة الشباب وحداثتهم وبين نضجك وخبراتك لتعطي بعدها بإذن الله أجمل خلطة فيما سوف تنجزه في دراستك ومهنتك.

ثالثاً: إسقاط ما تتعلمه على حياتك العملية

إنّ معظم الذين يلتحقون ببرامج الدراسات العليا لديهم حياتهم المهنية التي بسببها قرروا استكمال دراستهم، ويشكّل هذا الأمر إيجابية كبرى من حيث نظرتك للمعلومة، فكلنا نذكر حين كنّا طلاباً قبل التخرّج كيف كنّا نتلقّى كمّاً كبيراً من المعلومات لا ندري أين يمكن إسقاطها في الحياة العملية. أمّا وأنت في خضمّ حياتك المهنية فأنت تستمع للمعلومة الجديدة وأنت تُدرك تماماً أين ستستخدمها وفي أي مجال من مجالات عملك ستسقطها، بل وأكثر من ذلك فقد تسقطها إسقاطاً فورياً وتستخدمها مباشرة في عملك، وهذا من أمتع التجارب التي قد تمرّ معك.

في الأربعين أنت بالغالب شخص تعمل في مهنة محدّدة كما أنّك بالغالب متزوّج وربّ أو ربة أسرة. فبخلاف الطالب الشاب الذي لا ينفكّ يفكّر بمستقبله المهني وحظوظه في سوق العمل ممّا يسبّب له القلق والتفكير المستمرّ، تجد نفسك مستقرّاً من هذه الناحية وهذا يعطيك نوعاً من الراحة النفسية التي قد لا تلقي لها بالاً، كما أنّ استقرارك الاجتماعي والعائلي يجعلك في معزل عن التقلبات العاطفية التي يمرّ بها الشباب التي قد تؤدي إلى تقلبات في الأداء الدراسي.

إن كنتَ أباً أو كنتِ أمّاً في منتصف العمر فمن المرجّح أن يكون أولادك معتمدين على أنفسهم في معظم شؤون حياتهم، طبعاً لا يعني هذا الأمر أنك تستطيع الانسحاب الكلّي من حياة أبنائك وشؤونهم، إلا أن مرحلتهم العمرية تعطيك فسحة أكبر من حيث الوقت والاهتمام مّما لو كانوا أطفالاً شديدي الحاجة للرعاية، وانشغالك بالدراسة يضفي على منزلك جوّاً جميلاً من حبّ التعلّم؛ حيث ترى أن الأبناء يتشاركون معك وقت المذاكرة وفترات الامتحانات وبعض المواضيع العلمية فتقرب بذلك صلتك بأبنائك أكثر. وسيكون كل فرد في أسرتك عوناً للآخر من حيث القيام بالشؤون المنزلية حيث الكلّ متشارك بنفس الأعباء.

لا ننكر أن المجتمع يعطي اهتماماً لبعض المظاهر سواء اتفقنا معه في ذلك أم لم نتفق، ومن هذه المظاهر: الشهادات والمراتب العلمية. صحيح أنّ الشهادة وحدها لا تصنع الإنسان المثقّف والعارف، إلا أنه جرت العادة أن تعطي الشهادة ثقةً وسمعة جيّدة لحاملها، وبالتالي فإنّ التحاقك بالدراسات العليا سيعطيك ثقة أكبر بنفسك في كل مجتمع قد تتواجد فيه.

معظم من تخطّوا الأربعين يكونون قد اكتسبوا مهارات لا بأس بها فيما يتعلّق بإدارة الوقت وتحديد الأولويات وأخذ القرارات، وهي من الأمور التي تصعب نسبياً على مَن هم في عمر الشباب حيث تسيطر الفوضى الذهنية، هذه المهارات تسهّل جدّاً عملية الدراسة وتلقّي المعرفة وتُعتبر من الأمور الهامة خلال العملية التعليمية.

تشير الدراسات إلى أن التحصيل العلمي المستمر في مراحل العمر المتقدّمة يساعد على محاربة ضعف الذاكرة وما يشبهها من الأمراض الذهنية، وليس أفضل من الدراسة الأكاديمية في هذا المضمار التي تعتبر رياضة جدّية للعقل والدماغ بعد فترة من الركود حيث تجدّد الخلايا الدماغية. صحيح أنّك قد تكون تمارس في وظيفتك عملاً ذهنياً، إلا أن الدراسة الأكاديمية بالتحديد ترفع معدّل النشاط الذهني بشكل كبير فيتحفّز الدماغ.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل