المحتوى الرئيسى

إحياء صناعة المنسوجات.. أمل مصر

12/08 10:07

لا وطن ينهض دون خطوات إلى الأمام، ولا تنمية حقيقية بلا صناعة قوية، ففى البدء ولدت الصناعة كمحاولة لخدمة الإنسان وتلبية احتياجاته، ومع العصور تطورت وتقدمت وبرعت أمم فى صناعات وتفننت شعوب فى حِرف بعينها طبقاً للخصائص الجغرافية والتاريخية للبلدان، وكانت صناعة النسيج من أهم وأقدم الصناعات التى عرفتها مصر مُبكراً وشهدت أطواراً مُتغيرة من التطور لتساهم فى صناعة الحضارة المصرية.

ولا شك أن الموسوعة المتميزة التى تبناها وقدم لها رجل الصناعة الكبير محمد فريد خميس تمثل رصداً عظيماً لمسيرة الصناعة الأكثر ارتباطاً بالمصريين عبر تاريخهم، ولا شك أن إشراف عالم المصريات الكبير الدكتور عبدالحليم نورالدين رحمه الله على فريق الباحثين ساهم فى تقديم صورة تاريخية صادقة وعلمية عن تلك الصناعة التى تُمثل عند كثير من المفكرين مع الصناعات الغذائية حجراً أساسياً فى استقلال الأمم حتى إن الأديب جبران خليل جبران كان يقول «الويل لأمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع».

وحسبنا أن نقرأ فى مقدمة الموسوعة بقلم فريد خميس نفسه عن فخره لكونه أحد أحفاد نساجين عظماء الذين بقيت أعمالهم شاهدة على عظمة صناعتهم التى أدوا أمانتها للعالم كله، حيث أجبروا عند الغزو العثمانى لمصر سنة 1517 على النزوح إلى اسطنبول لأن عاصمة الخلافة ضنت على مصر بنوابغها وسعت للاستفادة بهم إلى أقصى درجة ممكنة. إنه يشير إلى أن عمله فى مجال صناعة وتجارة النسيج لما يقارب النصف قرن دفعته لربط الماضى بالحاضر ومحاولة القفز للمستقبل لوضع خارطة طريق يمكن من خلاله ضمان استمرار تلك الصناعة، بل وتقدمها وتوسعها.

وتفتح الموسوعة نوافذ المعرفة للاطلال على حقائق تاريخية قد تُفاجئنا، لكنها تُمثل منابر فخر واعتزاز لعظمة الأجداد ذوى الطاقات الإبداعية الهائلة. ومن تلك الحقائق أن مصر هى دُعامة صناعة النسيج العالمية، حيث كان المصريون القدماء أول من عرفوا غزل ونسج الكتان وصنعوا منه الملابس والأغذية، فضلاً عن براعتهم فى صناعة الملابس الحريرية، ومنها أيضاً أن النساجين فى مصر القديمة كانت لهم مكانة مرموقة باعتبارهم مبدعين حتى أنهم حازوا الأوسمة والألقاب من جانب الدولة وكان يتم تفضيلهم للعمل فى المعابد مثل معابد «فيلة» و«إدفو» و«كوم أمبو». ومنها كذلك أن النساجين صمموا أزياء مختلفة ومتنوعة للكهنة وللعمال وللشرطة ولكبار رجال الدولة، فضلاً عن الزى الخاص بالأسرة المالكة. إلى جانب أن المصريين ربطوا بين بعض أربابهم وبين صناعة النسيج ليخصصوا معبودة لصناعة النسيج وورشة هى «تاييت» ومعبود هو «حج حتب» وغيرها.

وفى العصر البطلمى نالت صناعة المنسوجات اهتماماً أوفر وشهدت مرحلة تطوير مهمة تمثلت فى إدخال الصوف ضمن صناعة المنسوجات. كما شهدت زخارف المنسوجات تغيراً كبيراً، حيث كانت الزخارف فى مصر القديمة ظاهرة على النباتات والأشكال الهندسية، ثم أدخل عليها خلال عصر البطالمة أشكال حيوانات ورسومات مستمدة من الأساطير الإغريقية القديمة. ثم شهد العصر الرومانى فيما بعد تخصيص مدن بعينها لصناعة النسيج مثل مدينة «أوكسيرنيخوس».

ويمكن القول إن العصرين البطلمى والرومانى شهدا ميلاد صناعة السجاد وتطورها واتساعها خاصة أنه كان يتم الاستعانة به فى تزيين بلاط الحكام، وقد انتقلت تلك الصناعة فيما بعد إلى روما وصار السجاد المصرى له شهرة عالمية لا تقل عن شهرة السجاد الفارسى، وربما فإن ما يؤكد ذلك ما ورد بأن الملك بطليموس فيلادلفيوس أعد مأدبة للأثينيين فى الإسكندرية وتم فرش الأرضيات بأجود أنواع السجاجيد المزخرفة بزخارف غاية فى الإبداع والجمال.

أما فى العصر القبطى، فقد نالت صناعة النسيج شهرة واسعة بعد أن تمكن النساجون المصريون من وضع نُظم وخصائص بعينها ميزت النسيج المصرى عن غيره سواء من حيث الصنعة أو الزخارف، وقد أدى اعتناق المصريين للديانة المسيحية إلى تراجع تمثيل الأرباب المصرية القديمة ورموزها على المنسوجات، مع كثرة استخدام الرموز المسيحية كالصليب الذى يصور فى كثير من الأحيان على هيئة العلامة الهيروغليفية «عنخ» وهى رمز الحياة. وانتشرت رسوم الفارس التى كانت مرتبطة بفكرة الموت والشهادة خلال عصر الاضطهاد قبل القرن الرابع الميلادى ومن أشهر الشخصيات المرسومة على نسيج تلك الفترة كان القديس مارجرجس والقديس ميخائيل.

وتوالى تطور الصناعة بزخارفها بعد الفتح الإسلامى لمصر حتى إنها صارت عاصمة للنسيج فى الدولة الإسلامية، وقد اكتسبت صناعة المنسوجات والملابس المصرية شهرة واسعة بين ربوع دولة الخلافة، خاصة أن المقوقس حاكم مصر أهدى إلى النبى عليه الصلاة والسلام عشرين ثوباً من قباطى مصر. وربما فإن ذلك هو ما جعل الخلفاء سواء فى العصر الأموى أو العباسى يضمنون لمصر احتكار صناعة كسوة الكعبة المشرفة. كما شاع أيضاً صناعة الخُلع، وهى ملابس رسمية يقوم بإهدائها الخليفة لعماله والملابس وأردية الجند من مختلف العصور الوسطى.

ويمكن القول إن صناعة المنسوجات استوطنت فى عدد من المدن فى شمال وجنوب مصر مثل الفسطاط وتانيس والقاهرة ومنوف وشطا وسمنود وطنطا ودمياط والمنصورة والجيزة وبنى سويف والمحلة الكبرى.

وفى تلك الأثناء عرفت الصناعة تنظيماً عظيماً خاصة مع إنشاء دار الطراز واختيار شيخ للمهنة ومدارس التعليم، وقد صاحب ذلك تزايد كبير فى عمليات تصدير المنتجات النسجية إلى مختلف الأسواق المحيطة.

أما فى العصر الحديث فقد بدأت حركة تنمية واسعة فى صناعة المنسوجات خلال عهد محمد على باشا، حيث أنشأ مصنعاً كبيراً للغزل والنسيج بالخرنفش سنة 1816.

واستحضر خبراء من بلجيكا وفرنسا، وتوالى إنشاء المصانع بعد ذلك فأنشئت فابريقة مالطة فى بولاق، ثم مصنع نسيج البركال، ومصنع نسيج السيدة زينب وتعددت المصانع مع دخول مصر عصر زراعة القطن وتوسعها فيه، ثُم أنشئت محالج للأقطان ومعامل للصباغة ومصانع للطرابيش والجوخ والحصير.

وواصلت الصناعة تطورها بعد ذلك واتسعت قدراتها وصار لها مكانة ملموسة فى الأسواق العالمية حتى تم تأميم كثير من الشركات سنة 1961 ولم تعد مرة أخرى إلا مع ظهور نماذج عظيمة للقطاع الخاص فى صناعة الغزل والسجاد.

أهم أخبار اقتصاد

Comments

عاجل