المحتوى الرئيسى

إعادة تجميع جثث البوسنة.. مساعٍ لجمع رفات 40 ألف شخص تجسد آلاف القصص المرعبة اختفوا في حرب البلقان

12/08 02:55

إنَّهم الموتى المضطربون، جثثهم موضوعة في صفوفٍ داخل مبنى صناعي سابق على حافة بلدة سانكسي موست البوسنية، بعض الهياكل العظمية كاملة تقريباً، والبعض الآخر عبارة عن عظمة الحوض فقط، وبعض الأضلع المتجانسة، المرتبة كأنَّها تنتظر وصول المزيد.

استُخدِم هذا المكان لمعالجة الخشب قبل حرب البوسنة في أوائل تسعينات القرن الماضي، والآن يعالج -ويحاول تجميع- الموتى.

توضع الأشلاء على أحواض عالية، وعند قاعدة كل منها توضع الممتلكات التي عُثِر عليها مع الجثة عندما نُبِشت، دون تغيير أي شيء فيها من مقبرةٍ جماعية بحسب تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية.

وهكذا، فإنَّ السير عبر بهو الموت هذا، يعني أيضاً السير عبر حياة هؤلاء الناس ولحظاتهم الأخيرة. زوج من الأحذية الرياضية هنا، وقميص ذو مربعات هناك، وساعة أو محفظة.

ماذا جعل هذا الشخص يختار قميصاً أصفر بدلاً من قميصٍ آخر في السوق، ويصادف أن يرتديه عندما يؤخَذ كي يُقتَل؟ لماذا توجد شرابات مخططة أسفل نصف كتلة العظام المجمّعة بينما تصحب شرابات سادة كتلة العظام المجمعة الأخرى؟ مَن كان هؤلاء الناس؟

في هذا المبنى، الذي يديره مشروع كرايينا للتعرُّف على الهوية، يوجد غرض مثابر. لقد ظل هؤلاء الموتى مفقودين 24 عاماً، إلى جانب عشرات الآلاف الآخرين، بينما ظلَّت عائلاتهم -الناجية من إعصار العنف الذي ضرب هذا الجانب من أوروبا- تبحث وتتساءل وتخشى الأسوأ.

هذه المنشأة هي واحدة ضمن سلسلة تسعى إلى الإجابة عن ذلك السؤال، وعملها هو أبرز تشابك للعلم وحقوق الإنسان والعدالة في العالم اليوم.

المهمة هي تحديد موقع جثث الـ40000 شخص الذين اختفوا بعد حروب البلقان الأوروبية -أسوأ مجزرة أصابت أوروبا بعد الرايخ الثالث- ونبْشها، ثم تجميع أشلائها بقدر ما يستطيعون العثور عليه من أجزاء، ثم تحديد هويتها، وتسميتها، ثم إعادة هؤلاء الموتى إلى الأحياء كي يدفنوهم.

إنَّه عمل علمي في قمة الالتزام والتقدم، يساعد في تلبية أكثر احتياجات البشر الأساسية: دفن أشلاء موتانا، أو أداء بعض الطقوس لها.

جوار الطريق العثِر الذي يصعد ناحية جانب جبلٍ بعيد، بين بلدات برييادور وسانسكي موست، يقع المنزل الذي أعاد زياد باتشيتش بناءه في نجع تشاراكوفو، من الرماد الذي تحوَّل إليه المنزله بعد تفحّمه عام 1992. يوجد بجوار المنزل، حيث يلعب الآن كرة القدم مع ابنه أدين، تمثال رخامي متواضع، منحوت عليه أسماء 38 شخصاً، الكثيرون منهم من أفراد عائلة زياد الكبيرة. قُتِل بعضهم ليلة 25 من يوليو/تموز عام 1992، واختفى آخرون.

كان زياد في الخامسة عشرة من عمره في الليلة،التي عادت فيها فرق الموت الصربية "للتخلص من" النساء والأطفال، بعد أن كانوا قد أخذوا والده ومعظم الرجال الآخرين إلى معسكرات الاعتقال.

يتذكَّر قائلاً: "كنا في المنزل، عندما سمعنا أصوات الجنود يقولون (اخرجوا! اخرجوا!) أومأت لنا أمي بأنَّ علينا فعل ما يقولون. بمجرد أن خرجوا، وخرجت الأُسَر الأخرى المحيطة بنا، بدأت البنادق الآلية في إطلاق النار. تعرُّفت على أحد الرجال، كان الآخرون مقنَّعين. كانوا يكبرونني بنحو 5 أعوام. شاهدتُ أمي تُضرَب أولًا وتسقط، ثم أخي، ثم أختي، وجريتُ إلى خلف شجيرة كي أختبئ. بقيتُ هناك حتى انتهوا من إطلاق النيران والصياح، تعرَّفت على رجل آخر من أولئك المقنَّعين من صوته، جاءوا من أسفل الوادي، كانوا جيراننا".

"قُتِلت أمي وأخي وأختي. ولكنَّني نجوت. رُحِّلت في القوافل، وذهبت إلى مخيم لاجئين في ألمانيا. ولم أعتقد قط أنَّني سأعود إلى هنا، ولكنَّني لم أكُن أستطيع النوم دون معرفة ما يحدث. أين كانوا؟ كان عليَّ أن أعثر على والدي المفقود وكل أعمامي وأخوالي، وأن أعرف أين دفنوا أمي وأخي الصغرى وأختي".

وقعت 7 اعتقالات ذات صلة بإبادة سُكَّان قرى تشاراكوفو. أُطلِق سراح اثنين من المتهمين بكفالةٍ تحت الإقامة الجبرية، ويظن زياد أنَّهما الرجلان اللذان تعرَّف عليهما ليلة المجزرة. يقول: "ذلك أحد منازلهم، هناك"، مشيراً ناحية مبنى أبيض على أرض الوادي. وأضاف: "نأمل أن تكشف هذه المحاكمات عن مكان عائلتي. سأشهد أمام المحكمة. رغم أنَّنا محاطون بهم، فإنَّني لم أعُد أخشى أي شخص أو أي شيء. حاجتي الوحيدة في الحياة، هي أن أعثر على أولئك الذين فقدتهم".

عند التقاء جادة الجبل بطريق جانبي أسفلتي، يوجد متجر صغير يديره عم زياد، فيكريت باتشيتش، الذي يأخذ دفتر ملاحظاتي ويكتب قائمةً بأسماء عائلته التي فُقِدت خلال الأسبوع الأخير من يوليو عام 1992. يستغرقه الأمر وقتاً طويلاً، عددهم 29 شخصاً، بمَن فيهم أمه سهريشا، وزوجته نينكا، وابنه نرمين الذي كان في الثانية عشرة من عمره آنذاك، وابنته نرمينا التي كانت في السادسة، و4 إخوة يشملون والد زياد، و3 أخوات، وعدة عمَّات وخالات وأعمام وأخوال وأبنائهم. من بين الـ29 شخصاً، كان 19 من الأطفال، وكان أصغرهم في الثانية من عمره.

يقول فيكريت: "أُخِذوا وقُتِلوا عند المعبر، هناك، قرب الطريق الرئيسي"، مشيراً إلى جسر سكة حديدية كنا قد مررنا أسفله للتو. "لم تكُن لدي أي فكرة لسنوات عن مكان دفنهم".

كان فيكريت يعمل في ألمانيا عندما حدث هذا. كان أول ما فعله هو التجول في مخيمات اللاجئين بأنحاء أوروبا: هولندا، وفرنسا، والنمسا، وكرواتيا. "لم أكَد أعرف ما أفعل، مثل كلب صيد بري. ولكن لم أجِد شيئاً. لذا، لم يكُن أمامي سوى فعل شيء واحد: أن أعود، ولم أعتقد قط أنَّني قد أفعل ذلك، أن أعود إلى المنزل المُدمَّر. ولكنَّني فعلتُ، عام 1998.

كي أبدأ البحث، لأنَّني لم يكُن لدي في الحياة ما أفعله سوى العثور على الجثث والأشخاص الذين فعلوا هذا. سألتُ صربياً، كان إشبيني في حفل زفافي، ربَّته جدتي: أين هُم؟ ليس هناك الكثيرون الذين يمكنني سؤالهم، توسَّلت إليه، أحتاج فقط إلى معرفة مَن فعل هذا وأين دُفِنوا. قال ببساطة: لا أعرف، لم أكُن هناك. أستطيع القول بأنَّه كان يكذب. ذهبتُ إلى الشرطة في برييادور، ولكن كان الجميع يعرف أنَّ الشرطة هي مَن رتَّب إخفاء الجثث. ثم إلى الآخر، ولكنَّه كان قد مات. أدركتُ حينها أنَّ الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله هو البدء في الحفر.

"حفرتُ في كل مكان. وساعدتُ كلَّما حفر أحدهم". ذهب فيكريت إلى المقبرة الجماعية التي وُجِدت في قرية كيفلياني عام 1999، جوار معسكر الاعتقال الذي أقامه صرب البوسنة في أومارسكا. لم يجد أي إشارة توصِّل إلى عائلته.

في عام 2004، بدأ العمل في مقبرة جماعية ثانية، قرب أومارسكا كذلك، في توماشيكا. كان فيكريت هناك، يحفر، ولكن الجثث التي عُثِر عليها هناك لم تشمل عائلته أيضاً. يقول: "لم يكُن أحدنا يعرف أنَّنا كنا على بعد 100 متر فقط من أكبر مقبرة جماعية على الإطلاق".

نجلس في باحة فيكريت، تتسلَّق الأزهار السور، ويمرُّ الجيران ويحيُّونه. يرتشف من كأسٍ من جعة النكتار، وهي مشروب صربي بوسني. يقول: "لا يختفي الألم؛ بل يزداد سوءاً، وقوةً، كلَّما دام أطول. ذهبت إلى محكمة الدولة وأبدى مدعٍ أميركي اهتماماً بالقضية فترة، ولكنَّه قال بعد ذلك إنَّ عليه الرحيل والعمل في وظيفةٍ أخرى. بعد فترة، استسلمتُ، لم أستطِع الاستمرار أكثر من ذلك".

ثم في عام 2013، حدث اكتشاف أكبر وأبشع في توماشيكا: مئات من الجثث الأخرى، المدفونة والمخفية، ولكن كُشِف عنها الآن. كان فيكريت باتشيتش هناك بعد لحظاتٍ من بدء الحفر. "في البداية، بدأوا يعثرون على جيراني، الإخوة تاتاريفيتش، يسكنون شَمال الجادة، هناك. ثم أحد أبناء عمومتي. ثم أخي رفيق، دون أي مستندات ولكن حمضه النووي تطابق مع حمضي النووي".

"يصعب قول ما شعرتُ به. كان الأمر وكأنَّ أحداً ينتمي إليَّ عاد من عمق 10 أمتار. إنَّه من أسرتي. ثم ظهرت جثة أخرى، وهي لا تخص أحداً من أسرتي، وأشعر بالسوء. فعلتُ ذلك 3 أشهر، حتى عُثِر على آخر جثة، وسواء تحدَّدت هويتها أم لا، علينا الآن انتظار مقبرة أخرى تحتوي على النساء والأطفال: عُثِر على مقبرتين في توماشيكا، ولكن كان 17 طفلاً ما يزالون مفقودين، تتراوح أعمارهم بين الثانية والسادسة عشرة. أتعرف؟ لا أصدق أنَّني أقول هذا، فالكلام طعمه سيئ في فمي، وفي هذه الليلة الجميلة، عليَّ أن أقول لك إنَّ كل هذا حقيقي، إنَّ هذا هو ما يفعله البشر بعضهم ببعض".

كانت القوة الدافعة وراء البحث عن الجثث المفقودة هي اللجنة الدولية المعنيّة بالمفقودين (ICMP)، التي تأسست في عام 1996 بناء على مبادرة الرئيس بيل كلينتون. وصلت اللجنة للحث على تحديد مكان 30000 شخص في البوسنة (و10000 آخرين في جميع أنحاء المنطقة) وهوياتهم، وهُم الذين كانوا في عداد "المفقودين" بمقابر جماعية. عُثِر على معظمهم وأعيدت رفاتهم إلى أسرهم، ولكن ما يزال 8000 شخص في البوسنة من المفقودين.

عملت اللجنة في موقع مركز التجارة العالمي بنيويورك، لتقديم المشورة حول كيفية تحديد هوية الذين قُتلوا في هجمات 11 سبتمبر/أيلول، كما عملت في غواتيمالا والسلفادور، للبحث عن مفقودي "الحروب القذرة" التي كانت تقودها الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي.

وعملت لجنة المفقودين أيضاً في جنوب شرقي آسيا، للتعرف على ضحايا كارثة تسونامي في عام 2004. تقول كاثرين بومبرجر، المدير العام للمنظمة، إنها تخطط للعمل مستقبلاً ليس في البحث عن ضحايا النزاعات فحسب؛ بل أيضاً ضحايا الكوارث الطبيعية، والاختفاء القسري، والاتجار بالبشر، والهجرة. وقد وضعت برامج قُطرية مفصلة للعراق، وسريلانكا وكولومبيا وألبانيا وأوكرانيا. كما أنها تستعد للتعامل مع مسألة المفقودين جراء النزاع السوري، والـ10000 طفل المفقودين من أزمة الهجرة في أوروبا.

تقول بومبرجر: "نحن نفعل ذلك من منطلق أن جميع المفقودين لهم الحقوق، الحقوق نفسها". ولكن، إضافة إلى المبادئ الإنسانية، هناك أيضاً سيادة القانون، ومن واجب الدول، بموجب القانون الدولي، البحث عن المفقودين.

يعتبر المال الذي يتطلبه هذا العمل ضئيلاً للغاية بالمقارنة مع ميزانيات الشركات أو حتى المساعدات، ولكن بومبرجر تقول: "هذا العالم بخيل جداً عندما يتعلق الأمر بالتمويل"، لذلك، يغض الطرف عن المفقودين بسهولة.

ويقول إيان هانسون، الرجل الذي بدأ العمل هنا في البوسنة بحثاً عن 8100 ضحية من ضحايا مذبحة سربرنيتشا في يوليو 1995: "العالم هناك مقبرة جماعية كبيرة بلا اسم".

خلال صيف عام 1991، بدأ تفكك يوغوسلافيا يصبح دموياً، أولاً في سلوفينيا، ثم كرواتيا، ثم البوسنة، حين كانت الجمهوريات اليوغوسلافية تسعى إلى الاستقلال وكانت حكومة سلوبودان ميلوسوفتش في بلغراد تسعى لإقامة "صربيا الكبرى"، التي توغلت في كل من كرواتيا والبوسنة وتضمنت القضاء، عن طريق القتل أو الترحيل، على كل غير الصرب في الإقليم.

في البوسنة، أُطلق العنان لمذبحة وحشية في ربيع 1992، وذلك أساساً في البداية ضد المسلمين السلاف في الشرق وضد البوشناق المسلمين والكروات الكاثوليك في كرايينا في الشمال الغربي. تعرضت العاصمة البوسنية سراييفو لحصار شديد ووُلدت الجمهورية الجديدة ميتة.

وفي أغسطس/آب 1992 اكتشف معسكرات الاعتقال، التي أقامها الصرب للسجناء المسلمين والكروات، بالقرب من بلدة برييادور في كرايينا.

استمرت المذبحة حتى بعد وقت قصير من مذبحة سربرنيتشا بعد 3 سنوات دامية. وظللت على اتصال مع الناجين من تلك المخيمات، وكذلك الثكالى، والتوصل إلى فهم كيف يمكن لغضب "الاختفاء" أن يسبب ألماً لا يحتمل لأولئك الذين بقوا أحياءً. أعود إلى البوسنة في كل عام لإحياء الذكرى في المخيم، ولكي أسمع كيف أنَّ كلمات مثل "مفقودين" و"مختفين" أقسى من كلمة "ميت". فهي تترك الأمهات والآباء والأُسرة حتى دون مقبرة يزورونها، أو حكاية عما حدث ولماذا.

عندما وصل المحققون من محكمة جرائم الحرب في لاهاي لأول مرة في عام 1996 لإقامة دعوى ضد مرتكبي مذبحة سربرنيتشا، كانت مهمتهم الأولى الشنيعة هي البحث عن الأدلة: الضحايا، 8100 رجل وصبي قتلى ومدفونين في الأرض.

كان يقود الفريق محقق فرنسي يدعى جان رينيه رويز، وعالم الأنثروبولوجيا ريتشارد رايت، الذي كان يعمل على مقابر الحرب العالمية الثانية في أوكرانيا، وعالم الآثار السابق إيان هانسون، وهو الآن نائب مدير علوم الطب الشرعي والأنثروبولوجيا وعلم الآثار في اللجنة الدولية المعنيّة بالمفقودين.

بدأ العمل في سربرنيتشا على ما كان يُعتقد أنها مواقع الدفن الجماعي الخمسة -تحتوي كل منها على العديد من المقابر المنفصلة- التي دُفن فيها القتلى لإخفاء جثثهم. ثم ظهرت الحقيقة المروعة: أظهر الاختبار أن أجزاء من الجثث مما أصبح يسمى المقابر الأولية قد تم نقله إلى مقابر ثانوية، لإخفاء الأدلة. وفي بعض الأحيان، نُبشت المقبرة الثانوية وأُعيد دفنهم مرة أخرى، في مقابر ثالثة.

وقد ترتب على هذا أثران: أولاً، أن أكثر من مليون ونصف المليون من العظام والأشلاء التي تخص 8100 قتيل كانت منتشرة عبر مواقع عديدة. وثانياً، أن عدداً من الشوارع الجانبية في ريف شرق البوسنة كانت لأسابيع أو شهور، تعج بالشاحنات التي تحمل رفات عفنة ونتنة، نحو 3.2 طن من "المواد المتحللة". ولكن أحداً لم ينطق بكلمة.

يقول هانسون: "نحن نسمي هذا سرقة المقابر". لقد دبَّر الصرب مواقع المقابر الثانوية "في الأماكن التي كانت بها مواجهات مسلحة، حتى يتمكنوا من ادعاء أن ضحايا المذبحة قُتلوا في المعارك. لقد كان كل شيء مرتباً بعناية فائقة".

اعتبر البحث عن المفقودين في البداية قضية إنسانية. ولكن دافع محكمة جرائم الحرب كان قانونياً. عندما وصلت لجنة المفقودين في عام 1996، كانت تسعى للعثور على القتلى المختفين لأسباب إنسانية، وكذلك لإيجاد أدلة دامغة لإثبات ما حدث ومن ثم إعلاء سيادة القانون. وافق 90% من أقارب المفقودين، الذين قدموا عينات الدم سعياً إلى مضاهاة الحمض النووي، على استخدام أي نتائج كدليل في المحاكمة.

منذ البداية، أُعيقت عملية العثور على الموتى وتحديد هوياتهم جرّاء المناخ السام الذي تعكره حالة الإنكار، وعدم التعاون، والهياكل الطائفية التي لا تتعامل مع القضية سوى من منطلق الخسائر الخاصة بجانبهم وحسب، ولا علاقة لهم بخسارة الآخرين، وبدا ذلك السلوك جلياً لدى صرب البوسنة، وهم الجناة الرئيسيون الذين يتحملون مسؤولية أكثر من 80% من تعداد المفقودين.

يقول هانسن، الذي كان مع المحكمة الجنائية الدولية آنذاك: "عندما وصلنا في البداية. كان الأشخاص الذين يمتلكون المعلومات التي نريدها جفاة، فقد كانوا يحملون أسلحة ولا يريدوننا أن ننفّذ ما جئنا لتنفيذه. اعتدنا الذهاب إلى أقسام الشرطة التي كانت من المفترض أن تساعدنا، فنرى صورنا على الجدار وتحتها عبارة تقول: لا تتعاونوا مع هؤلاء الأشخاص".

عند هذا الحد، تدخلت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، ولم يكن تدخلها بداعي المساعدة في البحث عن الجثث وتبني الخبرات التي تنفذ المهمة وحسب؛ بل وأيضاً بهدف "مساعدة" الحكومة البوسنية في تحويل البحث الطائفي العشوائي إلى عملية مركزية ومنظمة.

استخدم هانسن لفظة "مساعدة"، إلا أن حركة راحتَي يديه المبسوطتين اللتين حرّكهما إلى الأمام في أثناء تلفظه بتلك الكلمة، تعطي دلالة كما لو أن اللجنة كانت تدفع الحكومة بدلاً من أن تساعدها.

انصبّ تركيز عملية البحث الأولية على مذبحة سربرنيتشا. وكانت عمليات تحديد الهوية تُنفذ عن طريق الأساليب الأنثروبولجية الكلاسيكية: مثل تحديد الهوية عبر ممتلكات الموتى، أو الحالة المَرَضية للأسنان، أو الملابس، وهكذا.

إلا أن بداية الألفية الجديدة شهدت بدء اتباع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين نماذج الحمض النووي المأخوذة من الدماء التي يعطيها أقارب الموتى، ثم تُقارن مع نماذج العظام التي عُثر عليها عقب عمليات التنقيب.

وقد شكّل ذلك الأسلوب الثورة الثانية في مجال أنثروبولوجيا الطب الشرعي، والأرقام تتحدث عن نفسها: ففي عام 1997 حُددت هوية 7 جثث من بين الموتى، وفي عام 2001 وصل العدد إلى 52، ثم وصل إلى 522 في عام 2004.

شكّلت مذبحة سربرنيتشا أيقونة بين كافة مذابح البوسنة، إلا أنها تبدو كما لو كانت محاولة للانتقاص من باقي الأعمال الوحشية الأخرى التي ارتُكبت على مدار سنوات الحرب الثلاث. البوسنة دولة بلا محاسبة، أو بلا دعوة للمحاسبة. لا ينطبق هذا بالقدر الوحشي نفسه على أي مكانٍ أكثر ممَّا ينطبق على كرايينا، التي تحتوي على ثاني أكبر مجموعة من المقابر الجماعية، والأولى هي المقبرة التي عُثر عليها عام 1999 في كيفلياني. احتوت المقبرة، التي تقع بالقرب من منجم معسكر أومارسكا للحديد الخام، على 143 جثة لرجال قُتلوا بالمعسكر.

عُثر على مقبرة ثانية في كيفلياني، وكانت تحتوي على 456 ضحية من معسكر أومارسكا، إضافة إلى بعض الضحايا الآخرين بالقرب من إحدى منشآت التعدين بمدينة ليوبيا. إلا أنه لم يُسلّط الضوء على أكبر مقبرة جماعية فردية -بعيداً عن سربرنيتشا- سوى في عام 2013، والتي تقع بطريق ترابي يبعد بضعة كليومترات عن معسكر أومارسكا: إنها مقبرة "توماشيكا"، حيث عثر فيكريت باتشيتش على أخيه.

يشبه الموقع بركة الماء؛ إذ تستقر المياه في الأرض بعد أن غمرتها، حيث تنمو بالموقع نفسه أعواد القصب. تسير في الأفق أسرة وصلت من إحدى القرى الصربية القريبة نحو الموقع، وهم يحملون سنانير صيد السمك. إلا أن ذلك المشهد كان مختلفاً عن أي مشهد آخر بالبوسنة منذ الحرب، ولمدة عام كامل.

تقول ديانا سارزينسكي، مدير المشرحة بمشروع كرايينا لتحديد هويات الضحايا KIP (وهي منشأة تقع على حدود مدينة سانسكي موست)، بينما تسترجع ذكريات ما حدث: "لقد وصلوا هنا، جميعهم. إنه شيء بسيط أن تنبش مقبرة لتستخرج جثث 11 شخصاً، وهو العدد الذي احتوت عليه كثير من المقابر. إلا أن العدد هنا كان 434 جثة، أو ربما أكثر". سيرتفع العدد فيما بعد إلى ما يقرب من 600 جثة. أضافت سارزينسكي: "حُفظت جثثهم لأكثر من 20 عاماً، وبدت محشوة بإحكام وملتصقة تماماً بفعل الأنسجة المتحللة".

تُعرّف هويات بعض الأشخاص وفقاً لبضعة عظام يُعثر عليها، ثم يُترك الخيار للعائلات سواء الاكتفاء بتلك العظام لدفنها، أو الانتظار للعثور على المزيد. يقول عمر ماشوفيتش، الذي أسس لجنة اتحاد المسلمين الكروات للأشخاص المفقودين بعد الحرب: "الناس يعثرون على ذويهم المفقودين، ولكن غير مكتملين". ويضيف: "ربما يدفنون بضعة أصابع وقدماً، وبعد 5 أعوام يطرق أحدهم على الباب ويخبرهم بأنه عثر على الساق اليسرى الآن، ثم بعد عامين يُعثر على قطعة من الجمجمة. إنه جزء من تلك الحالة المزرية من الإهمال". في مرحلةٍ ما، أقرّت السلطات الإسلامية أن دفن أقل من 40% من الجسد ليس شرعياً، وهو ما يفاقم الأزمة للمؤمنين الذين يرغبون في التعامل مع تلك الأشلاء.

يسترجع ماشوفيتش بذاكرته قائلاً إن الجنرال الصربي راتكو ملاديتش قال لأتباعه من المسلحين: "خلال حصار سراييفو: أريدكم أن تقودوهم إلى حافة الجنون". حسناً، كان هذا المبدأ نفسه، غير أن الجنون استمر حتى بعد انتهاء الحرب. إنه جنون أقارب المفقودين الذي سيستمر معهم إلى أن يموتوا هم أيضاً. تشير الإحصاءات إلى أن عددهم جميعاً 40 ألف شخص. إلا أن كل رقم على حدة يشكل قصة مرعبة يخوضها الناس. وكل شخص فيهم يشبه رواية يمكنك قراءتها طيلة حياتك.

ثمّة بعض المنظمات التي تشكل جسراً بين آليات البحث وعائلات المفقودين.

يعد ميرساد ديوراتوفيتش أحد الناجين من معسكر أومارسكا، وهو رئيس جمعية مخيم المعتقلين بمدينة برييادو 1992. كما يصف نفسه بـ"رسول الموت" للعائلات التي يعرفها. والسبب في تلك التسمية يعود إلى أنه في الأساس يجلب أخباراً عن الرجال الذين عرفهم من معسكر أومارسكا، حيث كان المعتقلون يُدعَون كل ليلة من أماكنهم المكتظة بالبشر لكي يخضعوا لروتين التعذيب والاغتصاب وتشويه الجسد والقتل.

يقول ميرساد: "لقد جربت جميع أنواع المواجهات. أدق الجرس ونتعانق لـ20 ثانية؛ لأنه ليس ثمة كلمات ضرورية. إنهم يعلمون ما نوعية الأخبار التي أجلبها. لا يمكنك أن تشرح تلك المشاعر أو تصفها، كما لا أتمنى أن تنتاب أي شخص آخر. من المستغرب أنها أفضل أنواع المشاعر، وفي الوقت ذاته أسوأها".

تحدثنا بموقع مقبرة "توماشيكا" الجماعية، بعد يوم آخر لإحياء ذكرى معسكر أومارسكا. كانت النساء يقفن أمام الأبواب التي أُغلقت الآن، وهو المكان الذي كانوا معتقلين فيه، ويضعن الزهور أمامها. تخور قوى الرجال المتصلبين مع استرجاعهم تلك الذكريات الوحشية. يقول ميرساد: "إن السبب في عودتي هو قضية المفقودين"؛ فقد عاش في ألمانيا حتى عام 1999. ويضيف: "لقد فقدت 47 شخصاً من عائلتي الكبيرة".

يرتدي ميرساد قمصاناً مكوية وأحياناً بدلاً رسمية، وهو أمر نادر هنا، كما أن شعره مصفف، فضلاً عن أنه يشرب الخمر في مناسبات قليلة. عندما يتحدث ميرساد عن "المشاعر"، فهو يتحدث من واقع التجربة. يقول ميرساد: "إن أصعب اللحظات على الإطلاق كانت عندما قرعت الباب بمنزل والدتي، وأخبرتها بأن زوجها، أبي، وابنيها، إخوتي، عُثر عليهم. فمن جانب ما، كانت تلك هي الأخبار التي انتظرناها طويلاً. ولكن على الجانب الآخر، كانت بداية لنوع جديد من الحزن والأسى. والدتي دائماً تقول إنه عندما يُعثر على زوجها وابنيها سوف تصير الأمور أسهل؛ إذ إن ألم الانتظار كان يقتلها، فقد انتظرت فترة طويلة. والآن دفناهم جميعاً، ويمكننا أخيراً أن نبدأ مرحلة العزاء. في ذلك اليوم، كان عليّ أن أكون رسول الموت، والابن في الوقت نفسه".

يرى ميرساد أن ثمة غرضاً من هذا العمل، وعن ذلك يقول إن الغرض منه يكمن في "إثبات أنه كانت هناك إبادة جماعية في منطقة لم تحدث بها أي إدانة لارتكاب الإبادة الجماعية".

قضت محكمة العدل الدولية بلاهاي في سلسلة من قضايا الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في سربرنيتشا وزيبا المتاخمة لها، لكن ذلك لم يتجاوز ليصل إلى أي مكان آخر في البوسنة.

يقول ميرساد: "علينا أن نثبت عمليات القتل الممنهجة، والعمليات الممنهجة لإخفاء الجثث.

لقد كانت ممنهجة ومتعمدة. لم يكن كافياً أن تقتل كل هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم وأطفالهم، وأن تحرق مدنهم وقراهم، وأن تفجر مساجدهم وكنائسهم، وأن تحرق ملفاتهم وأوراقهم وتاريخهم، وأن تأخذ الرجال في مخيمات الاعتقال وإما تقتلهم وإما أن تنفيهم، كي لا يكون لهؤلاء الأشخاص أي أثر، ثم تتبنى عملية ممنهجة لإخفاء جثثهم. إن لم تكن هذه هي الإبادة الجماعية، فإنني لا أعرف ماذا تكون".

تصل الجثث القادمة من توماشيكا، مثل جميع الجثث الأخرى التي تأتي من كافة أنحاء كرايينا، إلى تلك المنشأة الواقعة على حدود سانسكي موست. يكمن الدور الذي تؤديه ديانا سارزينسكي، خبيرة أنثروبولجيا الطب الشرعي، في كونه شهادة بالقيادة العالمية للبوسنة في هذا المجال، فقد بدأت رحلتها من سراييفو، ودرست في كلية برين ماور بولاية بنسلفانيا، ثم درست في جامعة سنترال لانكشاير بإنكلترا، وذلك قبل أن تعود إلى وطنها لتنضم إلى اللجنة الدولية لشؤون المفقودين باعتبارها متدربة.

تقول سارزينسكي إن ممارسات معايير التشغيل هنا، تعتبر "المعايير الذهبية" في العالم؛ إذ تُنظَّف بقايا الجثث بدقة، ويُؤسس ملف بيولوجي لها. يعمل العلماء والفنيون في صمت بينما يرتدون السترات الزرقاء وأقنعة الوجه. يغسلون الأجساد وينظفون العظام بفرش أسنان. وتخضع العظام لعملية إزالة التلوث الفيزيائي، ثم تتبعها إزالة أي أحماض نووية خارجية قد تكون التصقت بها. يلي ذلك استخلاص عينة صغيرة من العظام -أو ما يسمى "نافذة عظمية"- باستخدام شفرات دقيقة، ثم تمر على المعامل. تقول سارزينسكي: "لا يُسمح لنا، باعتبارنا خبراء أنثروبولوجيا، بأن نحدد سبب الوفاة، فهو من اختصاص خبراء الباثولوجيا".

وتضيف: "إلا أننا نستطيع أن نجهز الحالات ونشير إلى السبب المحتمل". تبدو الثقوب التي سببتها طلقات الرصاص في جماجم جثث هؤلاء الرجال بمنطقة "هوزيتشا كامين" تعبيراً كافياً عن سبب الوفاة.

كان عدد الجثث التي وصلت من توماشيكا كبيراً للغاية، لدرجة أنهم اضطروا "إلى التعامل مع الجثث باستخدام الملح، وهي في الأساس عملية التحنيط التي كانت تُستخدم قبل آلاف السنين، والتي فضّلها القدماء المصريون"، حسبما قالت. كما أضافت قائلة: "لقد حُفظوا في الطين فترة طويلة، وتحللوا سريعاً؛ بسبب جفاف الأنسجة وبفعل الحشرات والديدان".

بيد أن الجثث القادمة من "راستوفا جلافيكا"، وهي قرية صغيرة تشرف على جبل مقفر تقع بالقرب من سانسكي موست، شكّلت تحدياً من نوع مختلف. في أغسطس 1992، جلب الصرب 125 سجيناً إلى هذا المكان في حافلة. وبعد ذلك أخرجوهم من الحافلة، وقيدوهم في مجموعات من 3 أشخاص لكل مجموعة، ثم أعطوا لكل رجل منهم سيجارة ليدخنها، وأطلقوا عليهم الرصاص، ثم أدخلوا كل جثة فيهم على حدة داخل أحد الشقوق الموجودة بالصخور. (عُثر على موقع المقبرة؛ لأن رجلاً واحداً فقط تحرر ونجا بحياته ليخبر القصة).

تقول سارزينسكي: "تكومت أجزاء الجثث فترة طويلة معاً. لقد اختلطوا جميعاً، وأنسجة جثثهم عالقة معاً. الأنسجة والعظام الخاصة بجسد واحد اختلطت كلها بجسد آخر".

بعد تجهيز قطع العظام، تُجمع مع العظام الأخرى الخاصة بالهيكل العظمي نفسه، ويعد ذلك مهماً لتحديد أي عمليات "سرقة للمقابر" حدثت هنا. أوضحت سارزينسكي قائلة: "سرعان ما اتضح أنه من بين 434 جثة استقبلناها من توماسيكا، كانت ثمة 56 حالة تحتاج إلى إعادة تجميع أجزاء الجثث فيها مع حالات أخرى حُددت هوياتها من قِبل بمنطقة جيكورينا كوسا". إلا أن حالات أخرى وُضعت تحت تصنيف "من دون اسم".

Comments

عاجل