المحتوى الرئيسى

تأمُّلات في أولى الجلسات العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة التونسية

12/06 18:04

شهدت تونس على غرار كثير من البلدان مرحلة تاريخية حالكة بالظلم والاستبداد والتضييق على الحريات، حقبة امتدّت عقوداً طويلة، فمنذ قيام دولة الاستقلال مع الرئيس الحبيب بورقيبة، عرفت البلاد مجموعة من الجرائم في حقّ من خالفه الرأي، ولعلّ أبرزهم رفيقه الصالح بن يوسف ومساندوه، حين رفض الاستقلال الداخلي الذي صادق عليه بورقيبة مع المحتلّ الفرنسي قاطعاً بذلك شرعيّة المقاومة المسلّحة.

لئن أعلن "زين العابدين بن علي"، خليفة بورقيبة وأحد تلاميذه المقرّبين، نيّته للتصالح مع مختلف الأطراف السياسيّة في البلاد وفتح صفحة جديدة بالخصوص مع نشطاء التيّار الإسلاميّ، فإنه سرعان ما تراجع عن وعوده التي كشفت الأيام عن وهميّتها ومكائدها المبيّتة، فمنذ نهاية الثمانينات وبداية التسعينات انطلقت حملات الإيقاف والملاحقة الأمنيّة لكلّ صاحب رأي حرّ، وفاضت السجون باليساري والإسلامي والشيوعي.. ليذوقوا صُحبة الويلات من تعذيب ممنهج واستباحة أعراض ومعاقبة لأفراد العائلة جمعاء وحرماناً من شروط العيش الإنسانيّ.

أمّا من أفلتوا من برد جدران السجن ودجاه الذي لا يعترف بالنور رفيقاً فإنهم لم يستطيعوا الإفلات من زمهرير المهجر أو من قسوة الظلم والتضييق في كلّ درب اتّبعوه في أرض نبتوا فيها.

ليلٌ طالَ ما يُقاربُ نصف القرن؛ لتنبلج تباشير صبح ذات نداء: "بن علي هرب.. بن علي هرب".

وها هو الصبح إلى اليوم بعد مضي خمس سنوات ونيف يُقاومُ مدارات الظلام؛ ليكشف أزمنة من العذابات والانتهاكات كانت تغزل في الأقبية، وفي زنازين السجون التي تتربّع وسط البلد، وتحتلّ أطرافه الشماليّة والجنوبيّة ناقضة عهد الإنسانيّة والرحمة.

من بين أدوات مقاومة الظلام وإعلان صبح نقي يُجدّد الحياة في البلاد هيئة "الحقيقة والكرامة"، الهيئة التي أقرّها دستور ما بعد الثورة، وهي ليست هيئة قصاص إنّما هي هيئة تؤسّس لعدالة انتقاليّة من عهد القمع لعهد الحريّات، تواصل الهيئة عملها بإرادة قويّة ومجهود ضخم رغم ما عرفت من تعطيلات جمّة من أطراف سياسيّة شكّكت في نزاهة رئيستها السيدة سهام بن سدرين، رغم ما عُرف عن هذه الأخيرة من نضالات حقوقيّة زمن الطاغية.

نجحت الهيئة في الاستماع لمئات الآلاف من شهادات الذين تعرضوا للقمع وتجميع ملفاتهم التي تثبت ذلك لتطلق بعد ذلك الجلسات العلنية المنقولة مباشرة على الشاشة التلفزية الحكومية التونسية الأولى بهدف إتاحة الفرصة للضحايا للبوح بكلّ ما لقوا لعلّهم يشفون من جراحات غائرة، كاشفين لإخوانهم في الوطن ما كان يُمارَس عليهم وراء الأسوار في العتمة، هؤلاء الضحايا الذين يتذكّرون إلى اليوم ملامح جلّاديهم وأسماءهم مفصّلة ومكان عملهم وربّما مكان سكناهم لم يقتصّوا لأنفسهم إبّان اندلاع الشرارة الأولى للثورة، إنّما أرادوا كشف ما أنقض أرواحَهم حملُه لسنين في صمت مضنٍ وبأن يجازى كلّ من أخطأ بطريقة سويّة تقطع مع الطريقة الوحشيّة التي عرفوها زمن تعذيبهم.

انطلقت أولى الجلسات العلنيّة يومي السابع عشر والثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لتكشف تفاصيل صادمة هزّت القلوب وأسالت الدمع وأيقظت الغافلين، تؤسّس هذه الجلسات لمبادئ الثورة، فعن أي ثورة نتحدّث إن لم يُجبر خاطرُ من قدّموا أعراضهم وأرواحهم ودماءهم ونأيهم عن الأهل والصحب قرابين حتّى تولد الحريّة في أرض تونس ويوأد الخوف والظلم؟! عن أي ثورة نتحدّث والأنين ما زال يسكن صدور من نُكّل بهم ولم يجدوا منبراً عادلاً يصغي لمعاناتهم ينير الظلمة التي ابتلعتهم عقوداً من الزمن؟! عن أي ثورة نتحدّث والأفواه التي كمّمت أزماناً غابرة لا تلقى بعدُ الفضاء لتعبّر ولتسمع شهادتها؟!

إنّ هذه الشهادات أسمى من حملات التشكيك والتكذيب؛ لأنّها بعض من وجدان الإنسان الذي عرف ما عرف من العذاب حتّى يفقد إنسانيّته لكنّه تشبّث بها صابراً صبراً يفوق الخيال؛ لأنه آمن بفكرة، بمبدأ، بقيمة.. هذه الشهادات هي التي من شأنها أن تفرغ الصدور من أنينها، وتفسح للنور مجالاً للتسرّب عميقاً؛ حيث إن الجراحات تمتدّ لعلّ الأنفس ترتاح من أحمالها الثقيلة وتلقى براحاً تستقبل به حياة جديدة وبصيصاً من أمل.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل