المحتوى الرئيسى

عن رضوى عاشور

12/05 18:21

يبدو أنني مسكونة برضوى عاشور، تزورني في المنام كثيراً، تتأبط ذراعي، وتحكي لي عن حياتها الخاصة، عن مريد وتميم، عن إخوتها ومعارفها، تماماً كما فعلت في "أثقل من رضوى".

ليست المرة الأولى التي يزورني في المنام طيفها، أحس معها بألفة غريبة، نفس الإحساس يتكرر وأنا أقرأ لها، تمنيت لو قابلتها شخصياً وتشرفت بالحديث إليها، لكنها مشيئة الله، ولا راد لقضاء الله، لعلنا نلتقي في دار الحق.

أول ما قرأت لرضوى عاشور كانت رواية "قطعة من أوروبا"، تلتها "الطنطورية" التي أثرت فيّ تأثيراً بالغاً، أذكر جيداً ما كنت أكرره في نفسي: كيف لم أقرأ لها من قبل؟ كان إحساسي أشبه بمن عثر على جوهرة ثمينة، غير أني لم أكن أود الاحتفاظ بها لنفسي، بل مشاركتها مع أقربائي وأصدقائي ومعارفي، وكل من يريد إضافة كتاب جديد إلى رصيده المعرفي.

توالت بعد ذلك الروايات؛ "سراج"، "فرج"، "أطياف"، "حجر دافئ"، وبطبيعة الحال، الرواية الملحمة "ثلاثية غرناطة".

فور تأكدي من سفري إلى غرناطة، كانت الثلاثية أول ما حرصت على اقتنائه، وشيئاً أساسياً تحتاجه عاشقة للأندلس، تستعد للانتقال إلى آخر معاقل المسلمين هناك، وهنا، اسمحوا لي بأن أكتب شيئاً عن تجربتي مع الرواية الملحمة.

أن تقرأ الثلاثية شيء، وأن تقرأها وأنت في غرناطة شيء آخر تماماً، يعني ذلك أنك ستلمح في البيازين طيف أبي جعفر الوراق يغلف بعناية بالغة الكتب، سترى سعد ونعيم يتجاذبان أطراف الحديث، ستشم روائح الأطباق الأندلسية التي برعت فيها النساء الأندلسيات، ستطل من إحدى نوافذ بيت في البيازين لترى سليمة منغمسة في قراءة كتاب غير منتبهة لمراقبتك لها، ستتغلغل غرناطة في كيانك أكثر وأنت العاشق لها منذ الأزل.

لن تدوم لك الفرحة كثيراً، فلكل شيء إذا ما تم نقصان، سترى في ما ترى علي ومريمة يودعان غرناطة والألم يعتصر قلبيهما، سترى الجامع الكبير لغرناطة يتحول إلى كنيسة، والبيوت المشرعة أبوابها يوم الجمعة، سترى الكتب النفيسة تحرق في باب الرملة، لن تلفت نظرك المطاعم والمقاهي التي تحيط بالساحة التي تحمل نفس الاسم اليوم؛ لأن عينيك لا تريان سوى ألسنة اللهب والحقد التي تأكل آخر ما توصلت إليه البشرية من العلوم.

وغير بعيد عن الساحة، تنتصب كاتدرائية غرناطة، ستدخلها، وستخترق روائح البخور أنفك، ستحس بانقباض مفاجئ؛ لأنك تكاد ترى المسلمين الذين أجبروا على التنصر وهم يقيمون الشعائر عنوة في الكنائس وقلبهم يصدح بالشهادة.

تواصل التجول بالمدينة لتصل إلى إحدى أجمل ساحات غرناطة، لكنك غير قادر على التمتع بجمالها دون أن تستحضر مشهد حرق سليمة حية في هذه الساحة، بعد اتهامها بالسحر، ستَتَلَبَّسُكَ الشخصيات والأحداث وستذكرها طوال إقامتك في غرناطة.

في المقابل، ستغمرك السعادة، أنت العربي المسلم وأنت تتجول حراً طليقاً في غرناطة، وأنت تحث الخطى يوم الجمعة إلى الجامع الكبير الذي أنشئ سنة 2003 بعد معاناة طويلة، على مقربة من كنيسة سان نيكولاس، وستختلط عليك المشاعر وأنت تؤدي الصلاة وتسمع في ذات الوقت أجراس الكنيسة، تنهي صلاتك لتخرج بعدها إلى فناء المسجد وتمتع ناظريك بمشهدين يضاهي في الجمال واحد منهما الآخر، جمال وعظمة قصر الحمراء، درة القصور الأندلسية، وجمال الإسبان المسلمين وأسرهم.

بالعودة إلى متن النص، أقول: كان لرضوى عاشور فضل كبير في إغناء تجربتي في غرناطة، كما كان لها أثر كبير في ترسيخ وعيي بقضيتنا الأولى كعرب ومسلمين: فلسطين.

روايات رضوى عاشور عبارة عن توثيق لأحداث تاريخية مهمة غيَّرت وجه منطقة الشرق الأوسط برمتها، خصوصاً تلك المتعلقة بفلسطين -ما قبل وبعد النكبة- ولبنان، ومصر التي تعشقها الكاتبة رغم ما تعرضت له من ظلم هي وأسرتها بسبب حكوماتها المتعاقبة.

تصوغ أديبتنا الأحداث التاريخية المهمة في قالب رواية تغنيك قراءتها عن مطالعة عشرات الكتب التاريخية، أنت إذاً على موعد مع درس مركز في التاريخ عندما تقرأ روايات رضوى عاشور.

لا يسعك إلا أن تعجب بهذه الإنسانة العظيمة عندما تقرأ مقاطع من سيرتها، سواء تلك التي أوردتها في رواية "أطياف" أو في "أثقل من رضوى"، تعجب من قوة شخصيتها منذ نعومة أظافرها، في مجتمع يحترف قولبة النساء في قالب "وحيد" وتغيظه النساء اللواتي يشذذن عن القاعدة، حتى في أحلك الأيام التي مرت بها، سواء عندما افترقت أسرتها الصغيرة قسراً بسبب نفي نظام السادات لزوجها الشاعر مريد البرغوثي، أو عندما كانت تشتد عليها وطأة المرض، تشعر بأنها إنسانة مكافحة وصبورة إلى أبعد حد.

في "أثقل من رضوى"، تسرد الأديبة تفاصيل مرضها الذي اضطرها لإجراء عمليات معقدة في رأسها، تعجب برباطة جأشها أمام كلام الأطباء المخيف، وتخجل من نفسك عندما تشتكي من نزلة برد، أو عندما لا تسير الأمور كما خططت لها وشعورك أن الحياة تستهدفك وحدك دون الآخرين.

حياة أديبتنا سلسلة من الأحداث المتشابكة المعقدة، لم تمنعها من ممارسة دورها كأم فاضلة ومربية لأجيال كثيرة ومناضلة بارزة، حياتها درس للشباب العربي، ومصدر إلهام لنا معشر الفتيات الطموحات اللواتي لا يقبلن بديلاً للتميز.

شاءت الأقدار أن أتلقى فاجعة رحيل رضوى عاشور بُعيد انتقالي إلى غرناطة، لم أصدق الخبر، تمنيت لو كان الخبر واحدة من الإشاعات المغرضة التي تطلق عادة على مشاهير الناس، لكن الخبر تأكد لي بنعي زملائها وعدد من الكُتاب والإعلاميين لها.

رحلت رضوى عاشور قبل عامين عن عالمنا، هكذا، بكل بساطة، مخلفة وراءها آلاف اليتامى من محبيها، رحلت عنّا رضوى بجسدها، لكنها باقية فينا ما حيينا، نزداد حباً واحتراماً لها كلما غصنا في كتاباتها أكثر، وكلما اقتربنا من حياتها الشخصية أكثر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل