المحتوى الرئيسى

حربنا ضد العلم

12/05 18:21

التاريخ يخبرنا أن الدِّين لم يكن له الفضل وحده في التطور العلمي "التاريخي" الذي نتغنى به في كل مرة نحتاج فيها إلى ما يشبه التعزية حتى نتجاوز بفخر، ومن غير شعور بالذنب واقعنا المؤلم الذي نكابده كل يوم.

بل الفضل يرجع بالأساس إلى ما كان انفتاحاً كبيراً على علوم ومعارف وثقافات الحضارات المعروفة والترجمة منها والسفر إليها وإلى قابلية الإقرار بالحقيقة والالتزام بها أياً كان مصدرها.. وهذا يعني أن ذلك الوضع نتيجة تراكمية، ينجح دائماً مع من يتبع الطريقة الصحيحة في الوصول إليه، وليس عطيّة خاصة بنا بسبب أننا "مسلمون".

لا أحد ينكر أن فترة من تاريخ "المسلمين" عرفت ازدهاراً كبيراً في مجال العلوم الطبيعية، تلك العلوم التي تستند على عدة جوانب، منها التحليل المنطقي، وحرية التناول والطرح، وحرية النقاش وتناقل المعلومة، لكن هذا لم يكن فقط نتيجة التوجيهات الدينية لإعمال العقل والنظر في الكون، ولكن نتيجة توافر هذه الجوانب في الحياة الاجتماعية وقتئذ (بالخصوص خلال فترة انتشار فكر الاعتزال).

"إن تناول هذه العلوم جميعها كانت ضمن البيئة الدينية المنفتحة نسبياً، والتي ساهمت في بروز هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمعات العربية التي لم يسبق لها التعامل مع العلم، فقد كان يعرف عن هذه الحضارة أنها حضارة أدبية لغوية أكثر من كونها منطقية أو فكرية، وكان للترجمة دور كبير وهائل في تقليص عامل الزمن وتسريع النمو التراكمي للمعرفة العلمية".

وبعد أن أصبحت البيئة العامة غير ملائمة، نتيجة اعتبارات سياسية واجتماعية، بدأ التراجع في الاهتمام العلمي وبدأت معه مرحلة انحطاط حضاري ما زلنا نعيشه إلى اليوم، فقد أصبحنا نعتبر العلوم التجريبية والمشتغلين بها أقل منزلة وشأناً من "العلوم الشرعية" وأهلها، ثم انتقلنا إلى رمي روادها يومئذ (من أمثال ابن سينا وأبي بكر الرازي والكندي وابن الهيثم وابن طفيل والطوسي وعباس بن فرناس...) بالزندقة والهرطقة أو الكفر، ثم إلى تحريم تعَلم المنطق والفلسفة والكيمياء والفلك... وحتى إلى إحراق كتب العلم وهدم المراصد الفلكية.

إن الادعاء بتشجيع العلم والمعرفة والدعوة والترويج لهما يسقط مباشرة حين نصرّ على التمسك بمواقف مسبقة عن قضايا أو نظريات علمية قبل أن ننهض بأي مراجعة أو تمحيص لها، إنها وثوقية عمياء تبقينا مرتهنين بالمألوف ومأخوذين بوهم كماله وتفرده، فنكتفي به ونرفض نقده أو مراجعته ولا نصغي لما يخالفه، فنتحجر فكرياً، وننغلق عقلياً بدعوى أن النص الديني يخالف ذلك.

يسقط هذا الادعاء أيضاً عندما نتناول العلم بطريقة انتقائية، فالنظريات التي يتبين أنها تخدم شيئاً من المزاعم الدينية (توسع الكون مثلاً) تتم ترقيتها لتسمى إعجازاً "علمياً"، أما التي تتحدى الموروث (قصة الخلق مثلاً) فهي مجرد هراء!

ويجب ألا تعتقد أننا -كمجتمع- تجاوزنا هذه المرحلة اليوم، فواقع أننا ندرس في جامعاتنا اليوم آخر ما توصلت إليه العلوم "الحقة" لا ينفي أن علاقتنا بها لا تزال مريبة، وللأسف فـ"كل ما حدث هو إعادة تعريف العلاقة، فهي (بالنسبة لنا) علوم نحتاجها للحصول على الشهادة والوظيفة، وليست علوماً للكشف عن المجهول، كما هي روح العلم عند أمم الأرض.

فالتغيير الذي حدث تم بفعل ضغط الواقع، ولكنه لم يؤثر في العلاقة بالعلوم "الكاشفة" فما زال في عقل كثير من منتسبي هذه العلوم (ناهيك عن غيرهم) أشواق للعودة إلى "العلوم الشرعية" باعتبارها هي التعبير (الوحيد) عن الدين، وهي ميراث الأنبياء".

ويسهم التراث الفقهي في جزء من هذا الأمر، فمجموعة من الفتاوى (القديمة والجديدة) التي تستند على أفهام معينة لنصوص دينية تبشر المسلمين بالعودة -في آخر الزمان- إلى ركوب الخيل والقتال بالسيف! وهذه النماذج من الفتوى تجد قبولاً كبيراً بين الناس، وهي أكبر من مجرد رأي فقهي، إنها رجاء وأمل بئيس من أمثال هؤلاء "العلماء" في أن تختفي وتزول كل مظاهر الحضارة وتختفي العلوم الحديثة والاكتشافات التقنية والطبية والفلكية والهندسية... حتى يتمكن أقوامهم "المستهلِكون" في الدقائق الأخيرة من عمر الكون، من لحظة يتساوون فيها مع بقية أمم الأرض.. وهو أيضاً جواب لك -عزيزي المسلم- عندما تتساءل: لماذا لا يشارك المسلمون في التقدم العلمي؟ مختصرُه: لا فائدة.. فهما بلغت الاكتشافات والابتكارات، سيختفي يوماً كلُّ شيء! وهذا أيضاً قد يدل على أملهم في أن تعود كتاباتهم المنهكة ومجالسهم المملة المصدر الوحيد لشيء يمكن أن يسمى: "العلم"؛ لأنهم "جمهور العلماء!"

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل