المحتوى الرئيسى

بالتعويض والاعتذار والعفو.. نماذج ناجحة للعدالة الانتقالية

12/05 14:58

على مدار الست سنوات الماضية، لم تنقطع دعوات المصالحة السياسية، تخفت تارة وتنشط  تارة أخرى، بهدف إرساء ما يسميه بعض السياسيين بـ "السلم الاجتماعي" ولم الشمل لتحقيق الاستقرار.

في السنوات الثلاثة الأولى للثورة، كانت الدعوة تأتي على استحياء كان المقصود بها نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي أمسك بزمام الأمور  30عاما، إلا أنه بعد الإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي عقب احتجاجات الـ30 من يونيو 2013 جاءت الدعوات أقوى، خصوصا بعد أن نص دستور 2014 على وضع قانون للعدالة الانتقالية.

وعرف العالم مفهوم العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبرغ والقضاء على النازية، وتوطيد مفهوم العدالة بفضل محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات، ولجان الحقيقة في الأرجنتين سنة 1983 وفي تشيلي سنة 1990 و في غواتيمالا سنة1994، وفي جنوب إفريقيا سنة 1994، وفي بولندا سنة 1997 ، وفي سيراليون سنة 1999، وفي تيمورالشرقية سنة 2001 ، وفي المغرب سنة 2004.

كما تكللت كل تلك الجهود في مجال العدالة الانتقالية ، بمعاهدة روما لسنة 1998 بإحداث المحكمة الجنائية الدولية التي تعتبر قمة التطور في نضال البشرية ضد امتهان كرامة الإنسان وحقوقه.

و كانت آخر دعوات التصالح السياسي التي أطلقت بمصر من قلب جماعة الإخوان المسلمين وتبناها إبراهيم منير، نائب مرشد الجماعة، بأن طلب ممن أسماهم حكماء مصر والعالم رسم صورة واضحة للمصالحة بين أطراف الأزمة المصرية، من أجل تحقيق السلم والأمن لكل الأمة المصرية – حسب قوله-، مؤكداً جديتهم في المضي نحو إقرار مصالحة بين جميع الأطراف.

وتجدد الحديث عن تصالح سياسي مع دعوة منير لتبدا الأطراف السياسية المؤيدة للمبدأ طرح نماذج وقعت في عدد من الدول لعمليات تصالح سياسي يقدرها علماء الاجتماع السياسي بعشرات النماذج إلا أن الأشهر على الإطلاق هو ما طبق في جنوب إفريقيا بعد انتهاء مرحلة الفصل العنصري، وبعدها دول كأوغندا و تشيلي، الأرجنيتن.

وأبرز الأمثلة التي استخدمتها الحكومات للاعتماد أنظمة التصالح هى لجان تقصّي الحقائق وهى نوع واحد من تكتيكات قول الحقيقة الذي تستخدمه الحكومات لبدء عملية المصالحة، وتمنح لها صلاحيات تحددها الأجهزة التشريعية والتنفيذية في البلد المعني.

لم يلجأ النظام الجديد في جنوب إفريقيا للمحاكمات في ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد حقوق الإنسان أو الجرائم السياسي لكنه اتجه لتشكيل لجنة تقصي كان مهمتها النظر في الانتهاكات التي وقعت على يد جميع أطراف النزاع في الفترة ما بين أول مارس 1960 و10 مايو1994.

صدر قرار تشكيل اللجنة عقب انهيار نظام الفصل العنصري "الأپارتهايد" في جنوب إفريقيا، ووصول الزعيم نيلسون مانديلا للحكم وأنشئت لجنة "الحقيقة والمصالحة" بموجب قانون رقم 34 للعام 1995.

ولجنة الحقيقة والمصالحة عبارة عن هيئة لاستعادة العدالة على شكل محكمة وبموجبها فإن الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان تمت دعوتهم للإدلاء بشهاداتهم حول تجاربهم، واُختير بعضهم لجلسات إفادة عامة علنية وفي نفس الوقت فإن مرتكبي أعمال العنف ضدهم كان بإمكانهم الإدلاء بشهاداتهم وطلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية.

الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا

كان من صلاحيات اللجنة أيضا منح عفو للمتهمين الذين يثبت عدم ارتكابهم جنايات وتحديد موعد منح الأهلية السياسية التي تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية.

اللجنة التي ترأسها كبير أساقفة البلاد القس ديزموند توتو ونائبه البروفيسور ألكس بورين، كان من سلطاتها منح التعويضات للضحايا أو ورثتهم، كما اعتمدت تصور العفو المشروط أو الجزئي كسبيل لتحقيق العدالة بدلا عن العدالة العقابية، فعوضا عن تقديم المنتهكين لحقوق الإنسان إلى المحاكم اعتمدت اللجنة جلبهم للاعتراف بأخطائهم وطلب الصفح ممن ألحقوا بهم الأذى.

ما أن بدأت اللجنة التي سميت بلجنة " TRC” في عملها حتى تلقت 7000 آلاف طلبا للعفو من سجناء كانوا يعملون في الأجهزة الأمنية والقمعية الحكومية.

وشكلت اللجنة، عدة لجان أخرى فرعية تابعة لها كان أهمها لجنة العفو المستقلة ذاتياً، والتي ترأسها قاض في المحكمة العليا، وكانت مسؤولة عن النظر في طلبات العفو والبت فيها.

وبتت اللجنة سالفة الذكر في العديد منها على أساس الأوراق المقدمة، من دون عقد جلسات لكن في 1000 حالة على الأقل، تم التوصل إلى قرارات حول الطلبات عقب عقد جلسات علنية أمام لجنة العفو.

 في الفترة ما بين 1996 إلى 2008، دفعت حكومة تشيلي أكثر من 1.6 مليار دولار معاشاتِ تقاعد لبعض ضحايا نظام "بينوشي" وأرست برنامجاً متخصّصاً للعناية الصحية للناجين من الانتهاكات، وترافق ذلك باعتذار رسمي من الرئيس.

وعلى نفس النهج منحت الدولة المغربية تعويضات فردية وجماعية على أكثر من 50 عاماً من الانتهاكات الواسعة النطاق. ويتضمّن ذلك تمويل المشاريع المقترحَة من المجتمعات المحلية التي استُبعدت في السابق عمداً من برامج التنمية لأسباب سياسية.

وفي عام 2010، اعتذر رئيس سيراليون رسمياً للنساء، ضحايا النزاع المسلّح في بلاده منذ 10 سنوات. ويدخل هذا الاعتذار ضمن الجهود المبذولة لتوزيع تعويضات متواضعة للضحايا الذين يستوفون الشروط، وتأمين إعادة التأهيل ومنافع أخرى لهم.

وأصدرت الدوائر الاستثنائية في محاكم كمبوديا أمراً بإعطاء تعويضات رمزية وجماعية في الإدانة الأولى للمحكمة على الجرائم ضدّ الإنسانية. وأمرت المحكمة إدراج أسماء ضحايا سجن شهير على موقع المحكمة الإلكتروني، فضلاً عن اعتذارات المُدانين.

تعتبر الأرجنيتن من الدول الرائدة في تطبيق نظام العدالة الانتقالية، والتي بدأت  بتأسيس لجنة الحقيقة والمحاكمات كخيار بدليل للمحاكمة، أو كحل مؤقت في انتظار تحقيق شروط المحاكمات كإحدى المكونات الرئيسة للعدالة الانتقالية.

 وتشمل هذه الصيغة العمل على تطبيق عدالة تعويضية في حق ضحايا جرائم الدولة والبوح بالحقيقة، والاعتراف من طرف الدولة بالظلم الذي ارتكبته، وإعادة الاعتبار للضحايا، والقيام بالإصلاحات المؤسساتية التي تحول دون تكرر الجرائم.

ويعود الصراع في الأرجنتين لأربعينات القرن الماضي وبدأ بتشكيل نبت من قوى اليسار التي كانت تسعى للتخلص من الهيمنة الأمريكية وسيطرت العسكريين على السلطات هناك، لكنه بعد وفاة الرئيس "بيرون" 1976 قررت قوى اليمين الانقلاب على الديمقراطية، وقام العسكريون الذين تحالفوا مع قوى اليمين المسيحية والكنيسة بالاستيلاء على الحكم، وسميت هذه الفترة بالحرب القذرة.

 تطور الأمر بوصول الرئيس يبراؤول الفونسين رئيسا للأرجنتين، وشكل اللجنة الوطنية «CONADEP» وقد كانت التجربة الأولى في العالم لإنشاء لجنة كشف حقيقة ما جرى من تجاوزات في ظل النظام السابق. وانتهت اللجنة بتقرير مفصل تم تسليمه للرئيس في لحظة تاريخية ثم نشره ليقرأه الشعب كله.

بعدها تشكلت محكمة "Junta Trial" وهى أول مرة يحاكم فيها القضاء التقليدى قيادات النظام السابق كلهم، وصدرت أحكام بإدانتهم، وبدأ القضاء الأرجنتيني يتلقى دعوات لمحاكمة عدد أكبر من المسئولين في مناصب أقل وهو ما يعني اتساع نطاق المحاكمات، الأمر الذي أدى إلى اندلاع بعض أعمال العنف من بقايا النظام السابق، وتحت مخاوف الانزلاق في حالة من الانفلات الأمنب قرر الرئيس إيقاف مسار المحاكمات وأصدر قوانين بهذا المعنى، وهو ما مثل خيبة أمل كبيرة للحقوقيين وعائلات الضحايا.

ثم خلفه الرئيس كارلوس منعم لفترتين متتاليتين طوال عقد التسعينيات، وقد كان لمنعم توجه أكثر يمينيا وقريبا من الولايات المتحدة ولم يرغب فب إعادة مسار المحاكمات، بل أصدر قوانين بالعفو عن الجميع. وظهرت محاولات لهدم أكبر معتقلات النظام السابق (إسما ESMA) وبناء حديقة تحمل اسم المصالحة كعنوان المرحلة.

Comments

عاجل