المحتوى الرئيسى

«قصر الشوق» من العالمية إلي «بئر الإهمال»

12/03 19:44

«إن هذا الحي التاريخي حي الجمالية أو شياخة الجمالية ظل يأسرني داخله مدة طويلة من عمري، وحتى بعد أن سكنت خارجه، وحين استطعت أن أفك قيود أسره من حول عنقي لم يأت هذا ببساطة، إنك تخرج منه لترجع إليه، كأن هناك خيوط غير مرئية تشدك إليه، وحين تعود إليه تنسى نفسك فيه، فهذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل أنت تستنشقها من دون ملل».. هكذا تحدث الروائي نجيب محفوظ عن حي الجمالية أحد أحياء منطقة الحسين بالقاهرة.

استطاع الروائي العالمي نجيب محفوظ، أن يجسد قيمة الحي الذي ترعرع فيه ويعتز به دائمًا، لكونه نشأ  بالحارة المصرية الأصيلة القديمة قبل ان تذوب ملامحها بفعل التمدن، لذلك كانت معظم كتاباته تصف بشكل دقيق للغاية ملامح الشخصية المصرية القديمة، ويظهر ذلك فى جميع رواياته، ونجح فى تصوير أصغر تفاصيل الحارة؛ فيشعر القارئ انه يعيش داخل الحي، بل ويتفاعل مع الشخصية، حتى كانت الحارة التى أبدع بها هي السبب الرئيسى لحصوله على جائزة «نوبل» في الأدب لوصفه شارع «قصر الشوق» الجزء الثاني من ثلاثية.

بمجرد أن تسمع اذنك شارع «قصر الشوق» بمنطقة الجمالية، يتخيل لعقلك، أشجار التوت والجميز والليمون والفل والياسمين التى طالما تحدث عنها محفوظ، وطراز المعمار القديم، وأصوات العصافير ممزوجة باسطوانات فونوغراف أو صوت الراديو النابع منه فنانون عظماء أمثال «سيد درويش، ومحمد عبدالوهاب، وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ، ومنيرة المهدية»، بالإضافة إلى مطربين ومطربات عتاة بكل ما تعنيه الكلمة، مثل «صالح عبدالحي، عبدالحي حلمي، زكي مراد، والشيخ زكريا أحمد، والشيخ يوسف المنيلاوي»، وداخل البيوت وصف محفوظ له فى الثلاثية بعض الأغاني، كان أشبه بالغناء السري، يردده الناس في بيوتهم في لحظات سرورهم وسعادتهم، مثل:" أبو الشريط الأحمر ياللي أسرتني..أرحم ذلي»، «حود من هنا وتعالي عندنا.. وتعال عندنا.. ياللي أنا وأنت بنحب بعضنا»، «طيب وأنا مالي.. طيب يا غزالي» وغير ذلك.

بالمرور فى شارع قصر الشوق تصيبك لعنه التخيلات، وتتخيل ان السيد أحمد عبد الجواد الشهير بسي السيد سوف يقابلك فى الشارع، وبعض التلاميذ ذاهبون إلى المدارس يرتدون الطربوش، وامرأة ترتدي برقع يخفي مفاتن وجها، لا يظهر شيئًا إلا عينيها وبلا وضوح، ووسيلة المواصلات الوحيدة هي الحنطور، بعد أن أدخلها الإيطاليون للبلاد.

عفوًا فكل هذه تخيلات معاصرة، وبراعة روائي بقيمة نجيب محفوظ، وتاريخ لن نحافظ عليه، الواقع الحقيقي أقبح مما تتخيل، ومطابقة ذلك على الأرض من المستحيلات، ولو ذهبت بأقدامك عدة أمتار عن شارع المعز لدين لله الفاطمي، سوف تصدم لما فيه، فالقمامة هناك كأهرامات الجيزة، تلال لا حصر لها، البيوت القديمة هدمت، بشكلها المعماري الفريد، والاهالي زحفت بعيدًا عن المنطقة، حتى لم يعد أحد يعرف من جاره، الجميع غرباء داخل المنزل الواحد، وأوقار المخدرات على أعين الجميع، حتى اخلاق وأصول المنطقة الشعبية القديمة اندثرت، ووزارة الآثار اكتفت بتطوير شارع المعز.

على ناصية الشارع، ستجد مسجد سيدي مرزوق الأحمدي، مؤسس الطريقة الأحمدية، ويضم ثلاثة مقامات مختلفة الأول لمرزوق، والثاني لآخر قائد لركب كسوة الكعبة محمد شمس، والثالث لابنه، محيطة بأقوام القمامة، ولافتة صغيرة مكتوبه عليها أسماء أصحاب المقامات.

وبالمضي أكثر ستشاهد بيوت مكونه من دورين، يعود تاريخ انشائها لقرن الماضي، يبدو من الوهلة الأولى لها انها ستنهار عن قريب بلا شك، هذه المنازل هي المتبقية من كارثة زلزال 92، ومنازل أخري تؤجر للطلاب.

«قول للزمان ارجع يا زمان».. هكذا بدأ محمد هشام أحد سكان شارع قصر الشوق، حديثه عما يدور في خلده، بعدما وجدنا نحلق النظر جيدًا بالشارع، بل "صامتون" نهائيًا كلما تذكرنا روايات المبدع نجيب محفوظ عن شارع قصر الشوق، شعر إننا نبحث عن بريق التاريخ الممحي، بعوامل تغير ثقافتنا، قائلاً: «كل حاجة اتغيرت فى الشارع، اللى أنتم بتدوره علي مش موجود، بشوف كتير  مصورين بيدخلوا الشارع علشان يصوره، بس خلاص مفيش حاجة تتصور زي ما انت شايف».

وتابع «هشام»، قائلاً: «إحنا كنا زمان بنقعد على القهوة بعد عودتنا من الجامعة، وعودة أهالينا من العمل ونسمع أم كلثوم فى الراديو واحنا بنلعب طاولة، ونتكلم فى الفن وعن حال البلد، كان فى تحضر مش زي دلوقتي الآن كرهت القهوة بسبب الأغاني المنحطة اللى شغالة اليوم كله».

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل