المحتوى الرئيسى

كيف يكون الناس (حراسًا على عبوديتهم)؟

12/03 14:15

اقرأ أيضا: المسيحيون العرب والأمة النائمة لا تتركه يموت ولا تدعه يحيا الديمقراطية ..وموت ليس فيه عزاء (كامبل وبلفور وكامبو) لن نغفر ولن ننسى طه حسين .. المفكر والإسلام والإسلاميون

مما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله(لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه قال: يرى أن لله عليه مقالاً ثم لا يقول فيه خشيه الناس) والحقيقة أن من أعظم المفاهيم الإنسانية فى معنى كلمة الإسلام هى حالة الــ (لا خوف) فقط الخوف من الله العلى القدير كأحد أقوى دلائل الحب والعبادة لله الواحد الأحد الذى لا إله غيره ولا حق غيره ولا قوى غيره ولا سلطان غيره ولا يخشى غيره فما عداه صغير ضعيف مقدور عليه وإلى زوال وفناء.

وسيظل موقف الهدهد أمام النبى سليمان عليه السلام من أكثر المواقف دلالة وتطبيقًا لحديث الرسول الكريم أعلاه, موقف من مواقف(الحق الشجاع) وهل يكون الحق إلا كذلك..؟ نحن أمام حوار بين حاكم ومحكوم بين السلطان الذى أوتى من كل شيء وبين فرد فى البلاد ولعله من الضعفاء, لكن يقينه بالحق وبالتالى ثباته عليه جعله من أقوى الحاضرين فى هذا المشهد الرهيب, سيتخذ الحوار منحىَ تصاعديًا يزداد حدة من النبى سليمان ومن الهدهد أيضًا لنصل إلى حالة من التصعيد والحدة المتبادلة, فإما أن الهدهد كان قد اعتبر المسألة منتهية بالنسبة له فحدث نفسه أن يموت شجاعًا على الحق(وبعض المنية أفضل من بعض..!!) أو أنه كان شديد الثقة بالتطور الطبيعى للموقف فيستحيل أن يقتل أو يعذب لأدائه الواجب الوجودى الذى يتحتم عليه وما كان من سبب غيابه.                       ستحتفظ الإنسانية بروعة ومهابة هذا الموقف إلى يوم الدين فى تفرده وعظمته وقوته وسنرى هذا الشعور العميق بالمسئولية من الطرفين, سواء من جهة النبى سليمان الذى يتفقد بنفسه واقع البلاد فيكتشف أن هناك ثمة غياب لأحد من هم فى ذمته ورعايته.. فينطلق بسيل من التهديدات المرعبة التى يتطلبها الموقف منه أو من جهة الهدهد الذى التقطت عيناه على الفور أن هناك خللاً فى الحالة الإنسانية السوية- العبودية لغير الله - فى مجتمع ما, وتبقى الحالة النفسية التى كان عليها الهدهد ساعة الحوار مما يثير الكثير من الدهشة والأكثر من الإعجاب, فما أن استمع  لتلك التهديدات حتى سارع بدوره إلى الرد فلم يتلعثم ولم يطرق ولم يلتمس المعاذير بل رد بلغة مليئة بالقوة والحق الذى يحتويه ما سيقوله فى رده قائلاً (أحط بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين) واستطرد فى شرح ما رأه  فى رحلته, كيف يقف (ملك) له ملك لا نظير له فى التاريخ كله مهددًا متوعدًا, فيأتيه الرد بكل هذه الثقة واليقين والثبات والشجاعة ثم يتحالم ويتعاظم وينتبه إلى جوهر المسألة ويعرض عن الجملة التى قالها الهدهد وفيها ما فيها من اتهام (أحط بما لم تحط به) المدهش أن أحدًا من السامعين للحوار لم تستبد به جلجلات النفاق والتملق فيصرخ فى الهدهد كيف ترد على الملك بهذه(الوقاحة)؟ ألا تعرف مقام (الملوك) يا أرعن يا سفيه؟.. فيزيد من توريط الهدهد فى ورطته.. ويزيد من وعيد النبى سليمان فى انفعاله.

الموقف به من الدلالات والعبر أكثر من الكثير غير أن شجاعة وثبات الهدهد والتى هى الوجه الآخر لحالة الــ( لا خوف) تبقى من أهم العلامات فيه, ويروى أن حذيفة دخل على عمر رضى الله عنهما فوجده مهمومًا فسأله عما به فقال أخاف أن أخطئ فلا ينبهنى أحد فقال حذيفة والله لو رأيناك على خطأ لصوبناك فما كان من عمر إلا أن قال الحمد لله ومما أثر فى الدعاء (اللهم هب لى حقيقة الإيمان بك حتى لا أخاف ولا أرجو غيرك ولا أعبد شيئًا سواك).

يبقى إذن الإيمان واليقين هو القوه الحيوية الهائلة التى تولد الإرادة فى النفوس لتتغلب على ذلك الشعور السفلى الدنىء فى بنى البشر .

توماس هوبز (1588-1679م) صاحب نظرية (الحق الطبيعي) و(الدولة التنين) اعتبر(الخوف) شيئًا كامناً فى عمق المجتمعات الإنسانية وكان يرى أن التعاقد الاجتماعي- من حيث المبدأ- يوفر نوعاً من السلام والاستقرار وتبقى تفاصيل تنفيذ هذا التعاقد مقلقة وحرجة وفى حاجه إلى كثير من الضمانات الأكيدة.. خاصة فيما يتعلق بمعضلة السلطة والدولة. علماً بأن الوضع فى بعض المجتمعات التى تحكمها أنظمة استبدادية الآن أصعب وأغلظ وأكثر قمعًا واستبدادًا ووحشية وعنفًا مما وصفه هوبز وليس فيها أى نوع من التعاقد الاجتماعى بالمعنى الحقيقى للكلمة فالحقوق مصادرة والحاكم يملك سلطة متعالية طليقة مسلطة على رقاب الناس وفى متناول يده كل مقدرات البلاد وألحق كل مؤسسات الدولة بأجهزته التى بدورها سحقت كل طاقات القوى الفاعلة فى المجتمع الذى تحول بدوره إلى مجتمع صامت مجزأ يسوده إحساس ثقيل بالخيبة واللا جدوى واللا معنى واللا قيمة. 

كتبت كثيرًا عن كتاب لم يعد يلقى الاهتمام الكافى من المثقفين والسياسيين وهو كتاب (مقالة فى العبودية المختارة) لإتيان لابويسيه(1530-1562م) الذى يشرح العلاقة العجيبة بين الاستبداد والخوف وكأنه يصف الأنظمة السياسية القائمة وظاهرة الخوف المستشرية على نطاق رهيب.. ويعتبر الكتاب من تلك النوعية من الكتب التى توصف بأنها مفتوحة على الزمان والمكان بما يجعله حاضرًا حتى فى أيامنا هذه كونه يشرح فكره الاستبداد عبر تحليله لطبيعة الخوف والعلاقة بينه وبين الاستبداد ومن ثم العبودية. ويطرح سؤالاً شديد البساطة وشديد البداهة.. هل الحرية حقاً طبيعياً أم لا..؟ وإذا كان الجواب هو بالقطع نعم.. إذاً يبقى أن الحرية شيء طبيعي.. ويبقى_وهو الأهم _ أننا لا نولد أحراراً فقط بل ومفطورون على صون حريتنا. وعليه فطالما بقى فى الإنسان جوهره الإنسانى فهو يقيناً لا ينساق إلى العبودية إلا بطريقتين: إما مجبر أو مستخف به المسلم يعرف التوصيف القرآنى لعلاقة الطاعة الغريبة بين فرعون وقومه وسبب نشوء هذه الطاعة.

ويستمر فى طرح الأسئلة ما الذى يجعل فرداً واحداً يستفرد بحكم كل شيء يخص الجماعة؟ ثم كيف يمكن للجماعة أن تحتمل طاغية لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه له ولا قدرة له على إيذائهم إلا بقدر احتمالهم منه ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا صبرهم عليه بدلاً من مواجهته؟ هذه الأسئلة تتجه فورًا إلى منطقة (الضعف) و(الخوف) فى النفس البشرية بوصفها المنطقة التى تلد كل الطغاة فينا عبر كل العصور والأزمان. ذلك أن الضعف والخوف كثيراً ما يفرضان على الناس طاعة القوة طالما لا يستطيعون أن يكونوا فى وضع أقوى. وهذا هو النموذج الوصفي (للعبودية المختارة) التى تتميز بحالة غريبة من الهروب الجماعى إلى وضع (الانتظار) لما لا يأتى وحده أبدًا حتى ساد الخوف والخنوع والرعب وتحول الناس إلى (حراس عبوديتهم) وليعاذ بالله.

وعلى امتداد الخط نفسه يطرح السؤال حول كيفية تحول المقهورين إلى حالة من الرضا فى خدمة قاهرهم فيتحملون السلب والنهب والقمع والقسوة لا من جيش عدو ولا من عسكر أجنبى ينبغى الذود عن حياتهم ضده بل من واحد من أحاد الناس.. كان يومًا ما بينهم.. ثم يخاطب المجتمع الخائف المقهور بأسئلته: من أين له:(العيون التى يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التى بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ ومن أين له بالأقدام التى يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه) ومع استمرار حالة العبودية هذه يتحول الخوف من الطاغية إلى ثقافة تسود المجتمع كله وتتغلغل فى كل أركانه فى اللغة ومفرداتها فى علاقات الناس ببعض فى نجوى الذات لذاتها فى الهمس والسكون والحركة.. فى التفكير.. فى الجوع والبطالة وغياب الأمل فى خوف المسئولين من الإزاحة والفضيحة.. فيستسلم المقهور لقهره ويستمرئ عجزه ودونيته فلا يجد أمنه وسلامته إلا فى الخضوع والاستكانة ويتوسل بالذل والنفاق والرشوة فى تصريف شئونه اليومية ويخضع لسطوة القهر المتمثلة فى كل مكان من حوله ويستمر سيف الخوف فى حصد كل شيء الأفكار والرؤوس والآمال والأحلام وعلى نحو منتظم ومستمر.. والإنسان هنا لا يخاف بقدر ما يخون.. يخون نفسه وكرامته وإنسانيته.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل