المحتوى الرئيسى

قانون الجمعيات الأهلية الجديد: الحصار يكتمل!

12/02 00:59

لا يُمثّل قانون الجمعيات الأهلية الذي وافق عليه مجلس النواب المصري قبل أيام قليلة، وينتظرُ تصديق رئيس الجمهورية ليصبح سارياً، في حقيقته، سوى إحدى حلقات محاصرة ومنع العمل العام في مصر التي بدأت في العام 2013 بإصدار قانون التظاهر الذي يُطبّق عقوباتٍ مُشدّدة على المُتظاهرين المُخالفين للقانون، ووصلت بقانون الجمعيات الأهلية إلى حدّ حصار العمل الأهلي والخيري تماماً.

لا يُمكن فهم القانون من دون ربطه بسياق ما يجري في مصر منذ فترة؛ فقبل صدور القانون مُباشرة، كان حكماً بالسجن قد صدر بحق نقيب الصحافيين يحيى قلاش ووكيل النقابة وسكرتيرها. ثم أحيلت وكيلة نقابة الأطباء منى مينا للتحقيق أمام النيابة بسبب تصريحات صحافية أصدرت النقابة بياناً لتوضيحها وإزالة أي لبس حولها. وقبل ذلك، كانت انتخابات الرئاسة تجري من دون مُنافسة، وتلتها انتخابات برلمانية أخرجت برلماناً يفخر بأن مهمته تأييد النظام ودعمه، وليس القيام بأي دور رقابي على السلطة التنفيذية، ويُصدر تشريعات متشدّدة أكثر ممّا تريده السلطة التنفيذية. وكل ذلك في ظلّ هيمنةٍ على وسائل الإعلام المختلفة، وفرض صوتٍ واحد مؤيد للنظام ومهاجم لأي معارضة.

هكذا يصدر قانون الجمعيات الأهلية لاستكمال حلقات مُحاصرة العمل العام والإجهاز على أي فرصة لظهور نشاط سياسي أو نقابي أو حتى اجتماعي خارج السيطرة الكاملة للدولة. وحتى النقابات العمالية المُستقلّة التي أسّسها العمّال قبل الثورة لتمثيلهم وقيادة حركتهم، حاصرت الدولة عملها واستعادت التنظيم الرسمي الموالي لها، وحتى اتحاد طلاب مصر الذي جاء تشكيله على غير رغبة السلطة، تمّ تجميده.

في ظلّ توجّهات كهذه، يبدو طبيعياً أن تكون منظمات المجتمع المدني هدفاً رئيسياً للسلطة. ففي ظلّ السيطرة على العمل السياسي والنقابي، كان المجتمع المدني يُمثّل المتنفس المُتبقّي للعمل العامّ في مصر. ففي ظلّ حصار حرية الرأي والتعبير ومُحاصرة مظاهر الاحتجاج، كانت تقارير المنظّمات الحقوقية عن التعذيب وانتهاكات الشرطة والقتل خارج نطاق القانون والاختفاء القسري، والتي كانت تُصدرها المنظّمات الحقوقية، مصدر الإزعاج الرئيسي للسلطات التنفيذية التي تقوم بتلك الانتهاكات. كما أن المُحامين الحقوقيين الذين حرّكوا دعوات ضدّ قانون التظاهر، وضدّ التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، مثّلوا عقبة أمام السياسات التي تُطبّقها السلطة التنفيذية. ويبدو أن القانون يتجاوز السيطرة على المنظمات الحقوقية وحصارها، للسيطرة على الجمعيات الأهلية، حتى تلك التي تعمل في مجال العمل الخيري، مثل الرعاية الصحية ومحو الأمية وكفالة الأيتام.

فقانون الجمعيات الأهلية يأتي ليسدّ هذا المنفذ المتبقّي أمام العمل العام. فالقانون يُحظّر إجراء دراسةٍ ميدانية ونشرها من قبل أي جمعية إلا بتصريح مسبق، ويُعاقب على مُخالفة ذلك بالسجن والغرامة. كما يضع شروطاً صارمة على تأسيس الجمعيات، ويفرضُ عليها الالتزام بأنشطة مُحدّدة، والقيام بأي أنشطة أخرى يستوجب العقاب أيضاً. ويُشكّل القانون جهازاً قومياً للرقابة على تمويل الجمعيات، يضمّ ممثلين لوزارات الدفاع والداخلية والخارجية والمصرف المركزي وغيرها من الجهات التنفيذية والسيادية في الدولة.

وإذا كانت منظّمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تشكل عبئاً على النظام بإعلانها المُستمرّ عن المشكلات التي يُعاني منها المناخ العام السياسي والديموقراطي وأوضاع حقوق الإنسان في مصر، فما الذي قد تُشكّله الجمعيات الأهلية العاملة في المجالات الخيرية، حتى يُقيّد القانون حركتها ونشاطها لدرجة أن أي مُخالفة ولو محدودة، تُعاقب عليها بالحبس، ما يجعل العمل الأهلي شبه مستحيل؟

صدور القانون على هذا النحو، يتناقض أيضاً بقوّة مع المسار الذي تمضي فيه الدولة بخطوات واسعة. فالدولة بتطبيقها سياسات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد، وبوتيرة غير مسبوقة، تسعى لتخفيف القيود على المستثمرين وتسهيل إجراءات تأسيس الشركات وعملها لأقصى درجة ممكنة، كما تُسهّل حركة رؤوس الأموال دخولاً وخروجاً من مصر في مسعاها لجذب الاستثمارات. ومع ذلك، تضع العقبات أمام تأسيس الشركات التي لا تسعى للربح. والأهم من ذلك، فإن إجراءات الحكومة الاقتصادية التي أدّت لارتفاع الأسعار وانخفاض مستويات معيشة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والتي لم تُصاحبها إجراءات حمائية على الصعيد الاجتماعي، من المفترض أنها زادت من قيمة وأهمية العمل الأهلي والخيري الذي يُحاول أن يعالج بعضاً من آثار الفقر والمُشكلات الاجتماعية، خاصّة في مجالات الصحة والتعليم وغيرها. وإقدام الدولة على محاصرة العمل الأهلي على هذا النحو، يزيد من أثر تلك السياسات التي تُطبّقها الدولة نفسها، ويجعلها عاجزة عن القيام بدورها الاجتماعي والخيري.

واللافت للانتباه أن مؤسسات مؤيدة للنظام وداعمة له، ولا تحمل أي انحياز للمعارضة، أعربت عن تضرّرها من هذا القانون، مثل الجمعية التي أسّسها الفنان محمد صبحي مثلاً.

الحقيقة أن وجود مجتمع مدني قوي وعمل أهلي فعال، كان من شأنه تخفيف بعض آثار السياسات الاقتصادية، سواء عبر العمل الخيري والتعاوني، أو عبر الرقابة الشعبية على الأسواق والأسعار. وخطوة إصدار القانون في هذا الوقت بالذات، تُفاقم بالفعل من آثار تلك السياسات.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل