المحتوى الرئيسى

العنف النفسي والنساء في بلادي

12/01 19:27

أَسندتْ ظهرها إلى الكرسي الهزاز الكبير الموضوع في ركن الغرفة، وظلت محدقةً بالبرواز الكبير المُعلّق حديثاً على زاوية الحائط المواجهة لمكتبها، نظرت إليَّ بابتسامة رضا، وقالت "انظري إليه، كم يبدو جميلاً على الحائط، أتعرفين؟ أنا أُلقِّب هذا الحائط بحائط البطولات، بطولاتي أنا، أُعلِّق عليه شهادات تقديري وصوري في أي مؤتمر أو مناسبة خاصة بعملي، كلما أنظر إليه أشعر بأن الفخر يملؤني، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي أملأ فيه حوائط المنزل كلها بمثل هذه البراويز، انظري إلى تلك الصورة، هذه في أول مرة دُعيت لمؤتمر كمتحدثة رسمية باسم المؤسسة التي أعمل بها، ما زلت أذكر التوتر والخوف الذي اعتراني حينما وقفت أمام الميكرفون". ثم تجهَّم وجهُها فجأة، فسألتُها "ما بكِ؟" ردَّت "لا شيء، فقط تذكرتُ مشادتي مع والدي يومها قُبيل المؤتمر، وقتها كنت ما زلت أعيش معه ولم أستقل مكانياً بعدُ، كان أبي يراني فاشلة، فتاة ضحلة لا تتقن شيئاً سوى مخالفة الأوامر، كان يردد هذه الكلمة اللعينة أمامي كلما رأى وجهي، فاشلة، فاشلة، فاشلة، يومها أعطيته دعوةً للمؤتمر ليأتي ويراني كما يراني الآخرون، متحدثة لَبقِة، وامرأة ناجحة.

لكنه ألقاها في وجهي، وقال ما زلتِ فاشلة، هرعت إلى خارج المنزل، وظللت أبكي طوال الطريق، حتى إن كحل عينيّ قد سال ليغطي جزءاً كبيراً من وجنتي، ذهبت إلى الحمام فور وصولي، وهندمت مظهري، ثم دخلت القاعة، وظلت عيني معلقة على الأبواب علني أراه يدخلها بابتسامة فخر على ثغره، لكنه لم يأت أبداً، ظلت كلمة فاشلة ترافقني دهراً، في كل أيامي الموحشة، في فترات اكتئابي وضعفي، تلوح لي كشبح لا يظهر إلا حين تُطفأ الأنوار، وبرغم كل نجاحاتي هذه فإنها ما زلت تؤذيني وتهددني، ما زالت تُذكرني بنظرة عينيه المملوءة بالسخرية!"

لطالما آمنت أن الذاكرة كائن حي، يشبه إلى حد كبير من صنعها، لديها حواس خمس مستقلة، تحفظ بها الأشخاص والروائح والأصوات والأماكن، ثم تجمعها على طاولة العقل لتنقحها، وتخبئ منها في طياته وبين ثناياه أكثرها تأثيراً على نفوسنا، لتظل دائماً محفوظة ومحتفظة بقوتها علينا مهما طال بنا الدهر.

نعم، ذكية هي تلك الذاكرة، تعلم جيداً أنها في سباق دائم مع أعمارنا، فتحطاط للعبته الدنيئة، وتخبئ عنه كل ذكرياتنا الأكثر أثراً فينا، بكل ما فيها من أشياء أو أشخاص، تظل محتفظة بتفاصيلها الدقيقة، لتعيش فينا ونعيش بها، يمر عليها الوقت فلا يزيدها إلا اتضاحاً، رغم ضعفنا الذي يزداد يوماً تلو الآخر، رغم خفوت الألوان وخور النظر والحاجة لإرهاف الأذن للسماع بشكل جيد واختلاط الروائح، تظل الذاكرة قادرة على استحضار الذكريات ذات التأثير القوي في حياتنا، خصوصاً المؤلم منها، فتتوافد بين الحين والآخر على العقل بنفس درجة الألم التي عايشناها به وقت حدوثها! لا تصدقي أحدهم أبداً إن أخبرك أنه نسي ذكرى مؤلمة، لا تصدقيه.

أنا ما زلت أذكر كم كنت فتاة جميلة، لكنني لم أكن رشيقة بالقدر الكافي، أو لنقل لم أكن رشيقة نهائياً!

كانت أمي تخبرني كل يوم أن منظري مقزز للغاية، وأنه يجب عليَّ إنقاص وزني لأكون جميلة، حرفياً كل يوم، تُعيد عليَّ هذه الأسطوانة التي حفظتها عن ظهر قلب، حتى صدقتها، صدقت أنني دميمة في عينيها وفي أعين الآخرين، حتى أصبحت دميمة في عينيّ أنا أيضاً!

كرهت مظهري حدَّ التعب، التعب من بذل الطاقة المطلوبة للكره، فالكره يا عزيزتي يحتاج إلى طاقة كبيرة للغاية لممارسته، ولأنني بطبيعتي لا أمتلك هذه الطاقة السوداء التي تغذيه، تعبت، فقررت بعد سنين من العنف النفسي أن أتوقف عن تصديقها، وأن أحاول أن أتقبل نفسي كما أنا، وأن أحب ذاتي، في بعض الأيام أنجح في هذا، أتناسى كل شيء، لا يسعني أن أنساه بالطبع، فكما أخبرتك أن الذكريات المؤلمة لا تُنسى، فقط أضعه في أعماق "كراكيب" روحي وأهمله، ليغطيه تراب الذاكرة فأتناساه، ولكن في كثير من الأيام لا أستطيع أن أتناسى كلامها، نظراتها التي كانت كفيلة بأن تحرق كل كيلو زائد من جسدي، لكن لم تفعل وتريحني من هذا الهم للأسف، خصوصاً ذاك الموقف بالتحديد، برغم مرور خمسة عشر عاماً عليه إلا أنه يظل حياً طالما أنا حية، حين وقفت أرتدي ملابسي أمام المرآة، فوجدتني أضع بعض مساحيق التجميل، فوجدتها تنظر إليَّ وتمصمص شفتيها متسائلةً "بتتذوقي على إيه؟! فاكرة حد هايبصلك كده؟! مانتي عشان عندك نقص بتحاولي تداري شكلك بأي حاجة"، ثم تركتني ومضت.

لم أنسَ هذه الجملة أبداً، تتبادر إلى ذهني كلما وقفت أمام المرآة لأضع مساحيق التجميل، وتبكيني في كل مرة كأنها المرة الأولى التي أسمعها فيها!

أنا أكبر مشاكلي في الحياة هي أن أهلي، من يفترض بهم أن يكونوا أقرب الناس لي يعتبرونني عاهرة، في كل خطوة أخطوها، في كل تصرف أمارسه، أجدهم يصيحون في وجهي بكلمة "عاهرة"، وحقيقةً نقبت كثيراً خلف الأسباب التي يدعونني بسببها "عاهرة"، لكنني لم أجد بها ما يدعو لكوني هكذا! كل ما فعلته هو أنني مارست حقي في الاختيار، اخترت أن أكون امرأة حرة، لا يهينها أحد، ولا يجرح كرامتها أي شخص، فاستقللت مادياً وأصبحت أعول نفسي، ثم اخترت أن أتزوج رجلاً أحببته للغاية، ثم اخترت أن أُطلَّق منه لأنه كان يقهرني، ثم أحببت آخر، واخترت أيضاً أن أتزوجه، وبنفس حقي في الاختيار قررت أن أطلق منه لأنه كان يضربني ويعنفني ويمنعني من العمل وتكوين الصداقات، لكن بعد أن أصبحت أُماً لطفلين أحبهما بشدة.

إن مجتمعنا الذي نحيا فيه ينظر لأغلب المطلقات على أنهن عاهرات، لا يلوم الرجلَ أبداً، دائماً هي الأنثى من دفعته إلى تطليقها لسلوكها غير المحمود، فما بالك بمن طُلِّقت مرتين؟! ورغم هذا فنظرة المجتمع لا تعنيني في شيء، صدقيني، فالناس لا سبيل لهم إلا الحديث عن هذا وذاك، أنا فعلاً مشكلتي مع كلمة عاهرة، إنها صادرة من أفراد أسرتي، أمي وأبي وإخوتي، أولئك الذين يفترض بهم دعمي في القرارات التي أتخذها، الذين يفترض بهم أن يثقوا في عقلي، وأن يحترموا رغبتي، أن يحترموا حقي في الاختيار!

لم أصدق للحظة أني عاهرة برغم تكرارها على مسامعي دائماً، لكن أصبحت أكبر مخاوفي أن يراني أطفالي يوماً ما هكذا، أخاف أن أراها في نظرة طفليّ وإن لم يقولاها لي يوماً، أخاف ألا يصدقوني، وأن يرياني بعيون الآخرين الوقحة!

ما زلت أذكر يوم أن أخبرتني منذ حوالي 4 أعوام: "ينظر إليَّ كل صباح في اشمئزاز يُشعرني بأنني غير ذات فائدة أو قيمة، لكن معه حق، فما فائدتي في حياته أصلاً؟! أنا أسبب له المتاعب طوال الوقت، يخبرني دائماً أنني لا أستطيع أن أفعل أي شيء بشكل صحيح، لربما معه حق، لربما لم أستطع أن أخيط قميصه بالشكل الذي يريد، لربما كان خروجي مع داليا صديقتي شيئاً خاطئاً وغير مسموح به كما قال، لربما هو يرى في داليا ما لا أستطيع أنا أن أراه، ولهذا منعني عن رؤيتها مؤخراً، لربما بقائي في المنزل لرعاية الطفل القادم في الطريق هو لصالح أسرتنا الجميلة كلها، هو لا يرى لعملي أيَّ ضرورة أصلاً ويظن أنني لن أفلح فيه، لكن سترَين، سنصبح أسعد عائلة عرفتها في حياتك!".

أذكر ذلك اليوم بوضوح الآن، وأن أراها مُطفأة الروح، تبكي باستمرار، تبكي تعنيفَه الدائم لها، والتقليل من شأنها أمام الناس، ونهرها بأشنع الألفاظ إذا ما أخطأت ولو خطأً بسيطاً، أذكره بوضوح وأنا أراها عائدة إلى منزل والدها بكدمة حول العينين، فقد ضربها أمام طفلها، أذكره بوضوح لأنني طلبت منها يومها الرحيلَ والهرب بعيداً، لأن العنف النفسي سيتحول إلى جسدي، ستدور الدائرة ولن تنتهي، فبرَّرت وقاحته، وأخبرتني أنهم سيصبحون من أسعد العائلات التي عرفتها في حياتي!

في ظل حملة التدوين عن العنف ضد المرأة القائمة الآن، لفت نظري أن أغلب التدوينات عن العنف تجاه المرأة جسدياً، سواء كان عنفاً بالضرب أو المنع من الحركة والسفر أو التحرش أو الاغتصاب... وغيرها من مظاهر العنف الجسدي، مع إغفال كبير لفكرة "التعنيف النفسي"، بالرغم أنه من أهم أنواع العنف التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان، فالكلمة لا تقل تأثيراً عن الضرب، فهي تترك أثراً وكدمةً في الذاكرة، تظل معلقةً بالروح مهما مر عليها من الوقت، فتختفي آثار الكدمات الجسدية، لكن الكدمة النفسية تبقى مهما طال بنا العمر، فقررت أن أكتب هذه المقالة لأنقل لكم صوراً من حياة بعض النساء اللاتي تعرَّضن لعنف نفسي، وما زلن يحاولن تخطِّيه!

قررت أن أكتب لأخبركم أن للعنف النفسي أشكالاً كثيرة، منها أن يمارس أحدهم عنفاً على آخر باستخدام الكلام الجارح أو الإهانات أو تعزيز الإحباط والإحساس بانعدام الثقة والخوف الدائم، مع إلقاء اللوم دائماً على الضحية، واستخدام الابتزاز العاطفي والمعنوي من أجل إجباره على فعل أشياء لا يرغب فيها، وقد لا يعرف الضحية أنه يتعرض لعنف نفسي من الأصل، بل قد يُفسر ذلك بأن هذا نوع من أنواع الحب، ويبرر للطرف المُعنِّف، فيختلق له المعاذير ويلقي باللوم على نفسه!

قررت أن أكتب، لأن النساء في بلادي يتعرضن يومياً لقهر من نوع مختلف، قهر يتوغل في صدورهن ونفوسهن، يتمكن منهن حتى العظام، حيث تحملن على أكتافهن كلمات قيلت لهن من أناس مقربين أو غرباء، مجرد كلمات لكنها بأحجام جبال، يتجولن بها أينما ذهبن، في البيت، في المدرسة، في الشارع، في العمل، ولا تندمل آثار حملها مع الوقت، بل تتقرّح جروحها أكثر من ذي قبل بمرور الزمن، ويزيد ثقلها فتثقل كاهلهن، وتحمّلهن ما لا طاقة لهن به، لكنهن يخفينها خلف تلك الابتسامة المرتعشة، خلف الرغبة في الإنجاز والنجاح والاستقلال، والرغبة في إثبات الذات، خلف ممارسة الحق في الاختيار، خلف النضال من أجل الحق في الحياة من دون عنف.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل