المحتوى الرئيسى

آلاء سنان تكتب: أهلا وسهلا.. بالأحضان

12/01 10:23

كانت هي، تنتقل بين الحجرات كفراشة، تبتسم في دعة، تمتلك صوتا ناعما كبرقوقة داكنة، وأبدا لم تعترض.

كان هو، إن ضحك يلتفت الحي، وإن زجر ترتج الأبنية وإن دخل مكانا ملأه.. ودخانه يسبق حضوره، ودوما لديه شيئا لينتقده.

أتذكر كيف كانت أمي تهتم بصغارها “ده طشط مودياه للولو الأوضة تغسل سنانها في السرير، أصلها رايحة في النوم ومش هتقدر تمشي للحمام”

وبكل صغير يعبر ياسمين خطوها؛ فصغار حارس البيت تُدرس لهم قبيل الامتحانات “مانا لو ماذكرتلهمش هيسقطوا.. أسيبهم يعني يسقطوا؟”، والصغار المرتجفون المصاحبون لأختي الصغيرة في تدريب السباحة “الساندوتشات كتير عشان تكفي العيال صحاب توتو.. بيطلعوا متكتكين يا عيني وتلاقي أمهاتهم نسيوا يعملوا أكل”، وتحكم المنشفة حول من تطوله يدها، “تعالى هنا.. لفها كويس يا حبيبي.. كده تاخد برد” أو تحمل هم المتدربين بعد المباريات “لا مش عيد ميلاد ولا حاجة.. دانا عاملة شوية حاجات أصل شوشو وزمايلها هيطلعوا م الماتش جعانين.. بيتعبوا.. وأكل النادي ده كله أي كلام”.

أتذكر كيف كان أبي عفيا، عنيفا، متطلعا وكثيرا. يلقي الشعر دون مناسبة، يلعن الحروب والساسة في كل مناسبة ولم نعرف أبدا السر وراء روحه الغاضبة دوما. هذا القوي وسط جموحه إن صادف فقير بكاه.. يتحول عالي صوته لدعاء خفيض حسير “الله يعين العالم يا بابا.. الله يعين العالم”، و” لا حول ولا قوة إلا بالله.. نحمد الله”.

وأتذكر بينما كان يوما يلعن الزحام وحرارة الطقس تحول وجهه لوجه طفل مذهول.. ثم عاد للوضع الذي أعرفه. كان البائع جوارنا يضرب حماره بعنف مفجع. ترجّل أبي عن سيارته وهدر وزئر، ولم يترك الرجل إلا وقد اعتذر وكاد أن يقبل رأس الحمار.

حولت أمي شرفة منزلنا لحديقة. كانت تبالغ في حنانها تجاه كل ما هو أخضر. تمسح يوميا على كل الوريقات بقطعة مبلولة من ثوب قديم. يصيبها الهلع إن أصاب فطرا إحدى شجيراتها، تنزعج إن تأخرت إحدى النباتات في إنجاب زهرها. ودوما في الشرفة تدق ساميرا لرفوف خشبية جديدة أو تروي كل إناء بحساب قدرته بخبرتها وعطفها.

لم أستوعب أبدا هذا النهر المسمى أمي، لم أر منبعه ولا مصبه.. هو فقط لا ينضب.

لم أعدّ أبدا كم فنجان قهوة يشرب أبي يوميا، ولكني كنت أمّل من عدد المرات التي يطلب مني فيها غليها و”كتّها”. ولا أعرف كم سيجارة يدخن، لكني لم أجد أبدا “صحن السجاير” به موضعا لسيجارة جديدة.

أصدقاؤه كثر لا نعرفهم ولا يأتون لمنزلنا، ضحكاته حقيقية يصحب آخرها دموع يمسحها بظهر كفه واضعا الكف الآخر موضع قلبه. حقيقية لدرجة أن تجد نفسك تضحك تحت وقعها حتى دون علمك بأصل القصة.

وترتني دوما هذه العاصفة المسماة أبي، بخارجها العارم وبداخلها الرحيم وبتناقضها الصعب على الإدراك.

فقدتهم، أبي وأمي منذ سنوات طوال، وبعدهما صرت أخرى. لم أصبح شخصا أسوأ ولا حتى أفضل.. فقط صرت واحدة أخرى.

يقول أصدقائي إني قوية وإني شجاعة وإني ضربت مثلا يحتذى به في الصبر والاستمرار وإني وإني..

وتقول الطبيبة إن لصدمة الفقد مراحل خمس: 1: الإنكار 2: الغضب 3: المساومة 4: الحزن 5: القبول.

وللشفاء من الصدمة يجب الوصول للمرحلة الأخيرة.. القبول. تقول أيضا إنني قضيت سنوات طوال أرتع في المرحلة الأولى.. وعلقت -إلى الآن- في الثانية.  

بالفعل، ففي البدء -ولسنوات- لم أذرف الكثير من الدموع.. ولا القليل. انشغلت بحالي وانغمست بكامل كياني في ملاهي الدنيا.. أملأها كلاما وضحكا وداخليا صامتا موحشا، أرقص وأجري وأسافر بكيان جامد مبهوت. وإن أتت سيرة أمي أو أبي من صديق أو قريب، تُسد أذني تلقائيا. لا أقرأ لهم الفاتحة ولا أترحم حتى عليهم بـ”الله يرحمهم”.. فقط أتجاهل الحديث وكأن الأمر لا يعنيني. تلى ذلك حالة من الخصومة مع الله، لا أعرف متى بدأت ولا أعرف إن انتهت أم لا.

بدأت أدرك لِمَ صرت عنيفة الانفعال سريعة التأثر، ولِمَ أدخن بشراهة، ولِمَ يضطرب يومي إن نسيت أن أروي نباتات شرفتي ولِمَ اكتئب إن ماتت إحداهن، ولِمَ أتألم حد الموت إن لم أتمكن من مساعدة أي فقير أو شريد أو مظلوم أصادفه، وكأنني أنا المتسببة في آلام هذا العالم و المسؤولة الوحيدة عن حل كل مشاكله.  

أدركت أنني أنكرت فقد أمي وأبي بتشبثي بأجزاء منهم فيّ. دون وعي أردت معاكسة إرادة الله بأن أحييهم، فلما تعذر ذلك، أحييت داخلي أجزاء من صفاتهم وسلوكم، لم تكن في الأصل لي قبل فقدهم.

آن أوان أن أتخلص من هذا الحمل.. لا للنقيض، لأعاني مجددا، بل لمكان وسط، أجد فيه اتزاني.

أدركت أن النفس البشرية كغرفة التحقيق، الإنكار فيها لا يفيد.

وبعد الإدراك يأتي الاختبار.. يا الله.. يأتي مهرولا، فلا يعطيني وقتا لألتقط أنفاسي.

فها أنا الآن على أعتاب فقد جديد.. فقد الحبيب.. فقد الحي، والذي أظن أنه أصعب. أن أدخل مكانا دخلناه سويا أو أشاهد فيلما شاهدناه معا.. فأتماسك.. صعب.

أن أفقد شخصا أحبه، أعلم مكانه وأحفظ رقم هاتفه وربما أصادفه.. فأتماسك.. صعب.

ولكن إن كان لابد، فربما يجب عليّ بعد أدراكي أن أتعامل مع كل ما هو صعب آت بطريقة جديدة. لن أدعي التماسك، ولن أنكر الفقد، ولن أنشغل عن الوجع ليغافلني ويحل في قسمات روحي مجددا فأبتعد أكثر عن صورتي الأولى.. عنّي التي أعرفها.

فأهلا وسهلا يا حزن.. بالأحضان يا وجع، ها أنا أسلمك نفسي.. أهيئ لك مكانا جواري في الفراش ولدي من الاستعداد لذرف الدموع إلى أن تحزن أنت. سأقدم لك كل ليلة قطعا صغيرة من روحي كقرابين تلوكها بنهم، وسأصمت إذعانا لك وسأنزوي إجلالا لحضورك، ولن أدفعك خارج بابي ولن ألمّح لميعاد رحيلك إلا إن أنت شئت.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل