المحتوى الرئيسى

رباط عنق أسود من فضلك | المصري اليوم

12/01 01:22

ليس دفاعا عن نجيب محفوظ، فمن الخبل أن ندافع عن الأقوياء، وعن أولئك المحفوظين بين يدي القدير، وقبل ذلك كله فأنا ضد تقديس الأفكار والنصوص والأشخاص، مع حق النقد، ومع حرية التعبير عن الرأي (مهما كان) طالما ظل في حدود التعبير وليس التدبير، في حدود الرأي وليس القرار، لهذا أوضح أن «هذا المقال» قديم وليس رداً على أحد، أو طلبا لشيء.. فقد كتبته ضمن قراءة مفصلة في أدب محفوظ، نشرت مقتطفات متفرقة منها قبل ذلك، كما أن «هذا المقال» ليس هجوماً على نائب من دعاة الفضيلة «الحولاء»، فمن الخبل (أيضا) أن نهتم بالرد على أفواه عمياء تهاجم عبارة في كتاب، ولا ترمش بكلمة عن فساد يطفح تحتها وفوقها، وعن تحرش فاضح في الشوارع المنسية وفي القصور الرسمية، وعن موبقات فاح عفنها في كل الساحات والمجالات، وعن تشوهات إباحية ليست بعيدة عن النقطة التي يتحدث منها النائب، ولا النظرة «الحيسي» التي «لا يرى» بها العالم من حوله. إنه مقال عن الزمن العويل.. عن دراما السقوط والتنطع في اللحظة البائسة التي نعيشها، وهي اللحظة التي رسم محفوظ بنفسه تفاصيلها في «السكرية»... عمله الإباحي الذي يستحق عليه العقاب!، لأنه فضح هزيمتكم.. الهزيمة التي لم يدفع ثمنها النواب ولصوص العصر، بل دفع ثمنها «فهمي» بدمه، و«كمال» بعذابه الأبدي.

شاخ كمال عبدالجواد، ولا يزال حائرا متردداً.. يبحث عن يقين فلا يجد إلا السراب، اعتزل التدريس بعد أن تدهورت أحوال التعليم، هجر الفلسفة وكتابة المقالات ويذهب كل خميس إلى مقهى صغير بجوار ورشة أحذية في الجمالية، يسميه على غير الحقيقة «قهوة أحمد عبده»، هناك يتوه في برزخ هلامي بين زمنين، يخلع حذاءه ويسلمه لإسكافي أخرس عجوز لا يغادر القهوة أبداً، الإسكافي لا يمتلك أي أدوات لصيانة الحذاء المهترئ ولا يقوم بتلميعه، فقط يحتفظ به تحت إبطه، وهو يفترش البلاط في سكون كأنه تمثال مهجور.

يجلس كمال بجوار صاحب المقهى الأعمى يحدثه عن الثورة.. الثورة التي ضاعت في 19، والثورة التي تضيع منا في كل التواريخ: مات فهمي، ومات سعد باشا نفسه، وراحت أيام، وجاءت أيام، ذهبت أحلام، وحلت أحلام، ولم نعرف من كان على حق؟، ومن كان على أوهام؟

يمر حمادة الحلواني بعد أن هجر شلته على مقهى قشتمر، وعندما يسمع كلمة «الأوهام» يضبط نظارته بإصبعه على أرنبة أنفه ثم يقول ممازحا: حد بيسأل عني؟.. ويغني مقلداً عبدالوهاب: أنا من ضيع في الأوهام عمره/ نسي التاريخ أو أنسى ذكره/ غير يوم لم يعد يذكره غيره، ثم يشير نحو كمال بعكازه محرفا كلمات الأغنية وهو يقول ضاحكا: يوم أن «قابلتك» أول مرة.

يتذكر كمال مصائر أحمد عاكف، وأنيس زكي، وعثمان خليل، وعمر الحمزاوي، وعيسى الدباغ، ويهمس بصوت مسموع: كلها أوهام، حتى «فهمي» ضيع حياته في الأوهام.. أحيانا أشعر أنه لم يستشهد من أجل الوطن والاستقلال، بل انتحر بعد أن طعنته مريم رضوان بخيانة حبه مع عسكري إنجليزي!

على شاشة التليفزيون العتيق في ركن المقهى كان سعيد مهران يهتف: يسقط حكم العسكر، ثم يظهر المذيع الشهير رؤوف علوان ليقدم في برنامجه كل من الدكتور محجوب عبدالدايم، والشيخ متولي عبدالصمد، والمستشار فؤاد جميل حمزاوي.

يشيح كمال بوجهه بعيدا عن التليفزيون ويشير للإسكافي: هات الجزمة، وعندما يهم بالانصراف، يخاطبه المستشار حمزاوي غامزاً بمكر: على فين يا كمال؟، لقد قابلت أناسا يسألون عنك!. يلتفت كمال نحو الشاشة بارتباك، فيضيف فؤاد ضاحكا: شكلك مستعجل عشان تروح تتضامن مع الشهيدتين «قمر ونرجس».. ابنتا أبوسريع صاحب المقلى في قبو قرمز، ثم يغني برقاعة متعمدة أغنية سهام رفقي: يا أم العباية.. حلوة عباتك/ جمالك آية.. زينة صفاتك.

يمشي كمال وحيداً في الأزقة المظلمة بعد الغروب، يتذكر أيام المراهقة المحمومة، وذلك العبث المشوب بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذج، لافرق، وفجأة يرى صورة شقيقته عائشة عبدالجواد وراء الشباك تتابع خطوات فارس أحلامها الضابط العاشق، وصوت خديجة يرن في أذنه بأغنية:

«يا أبوالشريط الأحمر ياللي/ قهرتني.. ارحم ذلي»

يتذكر كمال سؤاله الطفولي الحائر لأمه المستكينة الست أمينة: «هل يخاف أبي الله يا نينة؟»، ويتذكر أنه لم يحصل آنذاك على إجابة، لكنه الآن ييمكنه أن يجيب لنفسه بخبرة السنين وحكمة المهزومين: كان أبي قوياً، لكنه كان قاسياً، كان شهماً، ولكن به بعض من فساد، أنا لا أعرف ماذا كان أبي، وهل كان فساده يختلف عن فساد أم حنفي التي ضبطتها أكثر من مرة تسرق الطعام مستغلة طيبة أمي؟.. الكبار فاسدون والصغار فاسدون، الاغنياء فاسدون والفقراء فاسدون، الأقوياء والضعفاء، المتعلمون والجهلاء، يبدو أن الفساد ضرورة في كل مكان وكل عصر.. «ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟»

«ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟!!..»

تذكر كمال حماس أن على طه لايزال في السجن بتهمة كسر قانون التظاهر، فهو الذي سأل ذلك السؤال في ختام رواية «القاهرة الجديدة»، وتذكر أن وراء كل هذه الحكايات عن الخيبة والهزيمة والسقوط المخجل، راوٍ فاضح اسمه «نجيب محفوظ»، فخاطبه لائماً: لماذا أتيت بي إلى هنا، وغرست بداخلي كل هذه الحيرة؟، وملأتني بحطام كل هذه الأحلام المتكسرة؟... ماهذا الخازوق ياعم نجيب؟

عند ناصية الزقاق المظلم قرب بيت العائلة الخاوي (حتى من الذكريات) كان عم محمد بياع الكسكسي يغني هازئاً من تغير الأحوال:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل