المحتوى الرئيسى

قاطعوا جشع التجار

11/29 10:59

قل نار الجشع ولا تقل نار الأسعار.. فالأسعار فى مصر ليست طبيعية ولا عادية ولا عادلة ولكنها فى الحقيقة جريمة ابتزاز مكتملة الأركان.. ومن هنا انطلقت دعوات المقاطعة، تهتف «قاطعوهم يرحمكم  الله من نار الأسعار».. فكل يوم ترتفع الأسعار بلا سبب أو مبرر، ورغم تعالى صيحات المواطنين وآهاتهم بسبب هذا الارتفاع إلا أن أحدًا لم يرحم دموع ملايين المصريين، لذلك لم يعد أمامهم سوى سلاح المقاطعة ليشهرونه فى وجه جشع التجار الذى أفسد كل شىء فى مصر، ومن هنا خرجت دعوات المقاطعة من حزب الوفد ثم تبعه جهاز حماية المستهلك وانضمت إليهما جمعيات حماية حقوق المستهلك، ومواقع التواصل الاجتماعى التى اشتعلت مطالبة المصريين بمقاطعة الشراء طوال يوم الأول من ديسمبر، ويؤكد الخبراء أن الخسائر المتوقعة لهذه المقاطعة تصل إلى 2 مليار جنيه فى اليوم الواحد.

وهكذا صار الأول من ديسمبر، يومًا للكرامة.. ومعركة حقيقية بين الإرادة الشعبية  وجشع التجار.. بين الراغبين فى الحياة بكرامة، والباحثين عن المال ولو من مص دماء الغلابة.

وكانت دعوات المقاطعة قد لاقت صدى كبيرًا فى أوساط المصريين.. وتطوع الكثيرون من رواد السوشيال ميديا فى الدعاية لها، وهو ما يوحى بأن تلك المقاطعة  قد تكون هى الأكبر والأوسع والأكثر تأثيرًا فى تاريخ مصر الحديث.

فعلى مدى النصف قرن الأخير، لجأ المصريون إلى سلاح المقاطعة عدة مرات.. أعلنوا عن مقاطعة اللحوم أكثر من مرة، وأعلنوا دخولهم فى مقاطعة شركات المحمول مرات عديدة، وقاطعوا أيضًا شركات دول أساءت صحفها للإسلام والمسلمين، وكانت المقاطعة الأطول فى تاريخ المصريين هي مقاطعة المنتجات الإسرائيلية.. والغريب أن كل تلك المقاطعات بعد أيام وشهور وسنين انتهت دون أن تحقق تأثيرًا يذكر!

والمقاطعة الوحيدة التى حققت نجاحًا واضحًا كانت هى مقاطعة المصريين للحوم فى أواخر السبعينيات، فوقتها قفزت أسعار اللحوم من 68 قرشًا إلى 100 قرش للكيلو جرام، وهى الزيادة التى تزامنت مع قرارات أصدرتها الحكومة بالاتفاق مع مجلس الشعب - آنذاك - عام 1977 برفع الدعم عن السلع الأساسية، فارتفع سعر الخبز 50% والسكر 25% والشاى 35% وبنفس النسبة تقريبًا زادت أسعار الأرز والزيت والبنزين و25 سلعة أخرى، وتبع ذلك ارتفاع سعر كيلو اللحمة إلى جنيه كامل، وهو ما دفع الجماهير للخروج فى مظاهرات غاضبة مرددين هتافات «مرعى بيه يا مرعى بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه»، وكان سيد مرعى فى ذلك الوقت رئيس مجلس الشعب، وذلك اعتراضًا على ما تم اتخاذه من قرارات بالمجلس.. ونتيجة المظاهرات التى اجتاحت البلاد، أن قام الرئيس السادات بإلغاء قرار رفع الدعم، وفى ذات الوقت أراد تأديب الجزارين الذين استغلوا القرار ورفعوا أسعار اللحوم دون سبب.

وعلى الفور أصدر قرارًا رئاسيًا بمنع الذبح فى جميع المجازر لمدة شهر على أن يطبق القرار على كافة أنواع الحيوانات، وعلى جميع المحافظات، وقرر مصادرة أية لحوم يتم ذبحها خارج المجازر، مع فرض غرامة ضخمة على من يذبح خارج السلخانات، كما حث الرئيس السادات الشعب على مقاطعة شراء اللحوم لمدة شهر، وبالفعل استجاب المصريون واكتفوا بتناول البدائل النباتية للحوم وعلى رأسها العدس والفول، وبانتهاء الشهر لوح المصريون باستمرار المقاطعة ما لم يتم خفض الأسعار، وبالفعل اضطر الجزارون إلى تخفيض أسعار اللحوم لتنخفض من 100 قرش إلى 75 قرشًا فقط للكيلو.

وربما تكون هذه هى المرة الوحيدة التى نجحت فيها المقاطعة فى مصر، فلم تسجل المقاطعات التى دخلها المصريون منذ الثمانينيات وحتى الآن نجاحًا يذكر، حتى دعوات مقاطعة البضائع الإسرائيلية تهاوت بعد سنوات قليلة من انطلاقها عقب توقيع معاهدة السلام بين القاهرة وتل أبيب فى ظل شراكات اقتصادية تمت بين مصريين وإسرائيليين، وظهور بضائع إسرائيلية مصنعة داخل الأراضى المصرية ذاتها.

ورغم أن سجل المقاطعات فى مصر، ملىء بالفشل والتراجع، إلا أن الكثيرين يراهنون أن دعوات مقاطعة الشراء فى اليوم الأول من ديسمبر ستشهد مشاركة واسعة من المصريين، وستحقق شيئًا ما فى بحر الأسعار الذى يقفز بسرعة مكوك فضاء!

فارتفاع الأسعار فى مصر فاق كل الحدود، وتجاوز الجشع  ليصل إلى السرقة عينى عينك - على حد وصف الدكتور عادل راضى مدير مركز الدراسات الاقتصادية والمجتمعية - الذى يؤكد أن أسعار كل السلع فى مصر ارتفعت بنسب ضخمة بدون مبرر.. ويقول: «هناك أكثر من 20 سلعة تراجعت أسعارها فى كل دول العالم فى حين أنها ارتفعت فى مصر بنسب وصلت إلى 100% وحتى السلع التى زاد سعرها عالميًا، كانت الزيادات بنسب تتراوح بين 1٫8% و3٫8% بينما كان ارتفاع أسعار مثيلاتها فى مصر بنسب وصلت إلى 200%».

ويضيف: «خلال شهر أكتوبر الماضى انخفضت أسعار الأرز فى السوق العالمى، وفى كل دول العالم بنسبة 18% ولكن السعر زاد فى مصر بنسبة 80%، وأيضًا انخفض سعر البيض بنسبة 12% ولكنه ارتفع فى مصر بنسبة 40%، حتى لبن البودرة انخفض بنسبة 13% بينما زاد فى مصر بنسبة 60%، فى حين ارتفع سعر كيلو السكر بنسبة 11% فقط بينما كان ارتفاعه فى مصر 200%، وأيضًا ارتفع سعر العدس بنسبة 3٫8% فقط، فى حين أنه ارتفاع فى مصر بنسبة 80%، وإذا سألت عن السبب لا تجد سوى ابتسامة صفراء وكلام من نوع: «أنت مش عارف أنهم عوموا الجنيه والدولار بقى بـ 18 جنيهًا»!.. مع أن تأثير التعويم على أسعار السلع لا يمكن أن يؤثر على الأسعار سوى بعد 3 شهور على الأقل، وهى المدة التى يحتاجها استيراد أى سلعة من الخارج وإدخالها مصر ولكن التجار والمصنعين رفعوا أسعار منتجاتهم فور صدور قرار تعويم الجنيه وكأنهم استوردوا ما لديهم من سلع فى ذات اللحظة التى صدر فيها القرار.

وبنفس المنطق وعلى ذات  المنوال ارتفعت أسعار كل السلع فى مصر، من الجرجير المزروع فى أرض مصرية وارتوى بماء النيل، بمعنى أنه ليس له علاقة بالدولار وحتى تذاكر السينما وفيزيتا الأطباء!

فحسب إحصائيات جهاز التعبئة والإحصاء ارتفعت أسعار الطعام والمشروبات بنسبة (14.5%) وارتفعت مجموعة الخضراوات الطازجة بنسبة (5٫4٪) فيما ارتفعت أسعار مجموعة الخضراوات الجافة بنسبة (62.5%)، وفى مجموعة الحبوب والخبز ازدادت الأسعار بنسبة (31.2%) وفى مجموعة منتجات المخابز الجافة ازدادت الأسعار بنسبة (37.9%)، و(15.9%) فى مجموعة اللحوم و(16.8%) فى الفاكهة و(36٫4%) فى زيوت الطعام و(21٫4%) فى مجموعة الزبد والسمن البلدى و(45٫2%) فى مجموعة الزبد المستوردة بنسبة (34٫6%) فى مجموعة المسلى الصناعى والجبن الأبيض بنسبة (15.2%)، والكاكاو بنسبة (28.4%) والشاى (30.6%)، البن سريع (31.8%)، أما مجموعة الأسماك والمأكولات البحرية  فارتفعت بنسبة (13.4%).

فى حين ارتفعت مجموعة السكر والأغذية السكرية بنسبة (28.7%) وارتفعت  المنتجات الغذائية بنسبة (13.1%).

أما قسم المشروبات الكحولية والدخان والمكيفات فسجل ارتفاعًا بلغ (16.2%) وسجلت الملابس والأحذية ارتفاعًا قدره (13.2%).

وارتفعت إيجارات المساكن (6.5%) وزادت الكهرباء (21.2%) والغاز ومواد الوقود الأخرى (19.2%).

حتى الأثاث والتجهيزات والمعدات المنزلية والصيانة ارتفعت بنسبة (16.0%)، بل إن فيزيتا الأطباء زادت هى الأخرى بنسبة (26.8%) ومجموعة المنتجات والأجهزة والمعدات الطبية (32.4%)، ومجموعة خدمات مرضى العيادات الخارجية بنسبة (22.7%)، ومجموعة خدمات المستشفيات بنسبة (16.3%).

حتى النقل والموصلات سجل ارتفاعًا قدره (8.0%)، وارتفعت أسعار السيارات  (34.1%).. لم تنس حمى جنون الأسعار تذاكر السينما التى ارتفعت (15.9%) وزادت الرحلات السياحية (19.3%)، والدروس الخصوصية (12.9%) وأسعار الغرف فى الفنادق (19.5%)، أما السلع والخدمات المتنوعة فسجلت ارتفاعًا (22.9%) وزادت أسعار الصابون والشامبو (21.6%)، أما الذهب فقفز بنسبة (81.0%).

الزيادات فى أسعار كل شىء فى مصر جعلت الحياة وسط نار الأسعار بمثابة الجحيم نفسه، بعدما عجزت كل الأسر المصرية - تقريبًا - على أن تحافظ على ذات المستوى المعيشى الذى كانت تحياه فى العام الماضى أو الذى يسبقه.. فلو أن ارتفاع الأسعار اقتصر على جانب من السلع دون أخرى لكان الأمر يمكن احتماله، ولكن أن ترتفع أسعار كل شىء دفعة واحدة، ويكون ارتفاعها بشكل كبير، وبدون مبرر، فهذا كله يضع كل المصريين ما بين نار الأسعار ونار الحرمان، والنجاة من النارين - كما يقول محمود عسقلانى رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء - يحتاج إلى تحرك شعبى سريع وموحد.. ويقول: «الارتفاع المتوالى للأسعار، ووقوف الحكومة عاجزة عن التصدى لجشع التجار يضع المصريين أمام أحد خيارين، فإما أن يتحركوا بأنفسهم ويثبتوا للجشعين أننا شعب قادر على مواجهة جشعهم، أو عليهم أن يتوقعوا  من جنون الأسعار».

ويضيف: «فى كل دول العالم التى تحترم شعوبها، لا تزيد معدلات الأرباح عن 30%، وهذا هو أقصى حد للربح، وفى بعض الدول لا تزيد النسبة علي 20% فقط، أما فى مصر فمعدلات الربح سداح مداح، وأغلب كبار تجار السلع الغذائية مثلًا يصرون أن تصل أرباحهم إلى 100%، وفى المنتجات الصناعية تصل معدلات الأرباح إلى ما بين 60% و300%، وهذه نسب غير معقولة، وينبغى التصدى لها».

وواصل: «بلغ جنون الأرباح فى مصر درجة أن أحمد عز - مثلًا - حقق فى العام الذى سبق ثورة يناير أرباحًا بلغت 3 مليارات و400 مليون جنيه وهو ما كان يعادل ضعف استثماراته وقتها، أى أنه كان يحقق أرباحًا تزيد علي 200%».

وشدد «عسقلانى» أن المقاطعة هى آخر سلاح فى أيدى المصريين لمواجهة جشع التجار، مؤكدًا أن ما يحدث فى الأسعار فى مصر هو عملية سرقة عينى عينك.. ويقول: فى الأسواق الحرة يتركون الأسعار لتوازنات العرض والطلب، أو ما يعرف بآليات السوق الحر، والمؤكد أن تلك الآليات معطلة فى مصر بدليل أننا لم نشهد قط سلعة انخفض سعرها معطلة فى مصر، وهذا معناه أن أحد جناحى آليات السوق الحر مكسور فى مصر، ومن هنا يرفع التجار والمصنعون أسعار السلع كما يحلو لهم دون أن يخشوا تراجعًا فى حجم مبيعاتهم، وفوق هذا فإن المادة 10 من قانون الاستثمار تنص على أنه لا يجوز لأية جهة إدارية التدخل فى تسعير منتجات الشركات والمنشآت أو تحديد ربحها.. وبالتالى فلا يحق لأية جهة فى مصر مهما علت ومهما كانت سلطاتها، أن تحاسب أحدًا على سعر سلعة يبيعها مهما رفع سعرها، ومن هنا تأتى أهمية سلاح المقاطعة كسلاح وحيد فى يد المصريين وعلى ضوء ما سيفعله المصريون فى هذا اليوم سيتحدد شكل الأسعار فى الشهور وربما الأعوام القادمة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل