المحتوى الرئيسى

ذقن الباشا

11/28 17:02

بعد جهد استطاع جدي أن يقطف اثنتين، ناولني واحدة وناول أختي الأخرى، شممت رائحتها الرائعة وملست بها على خدي وأصابتني نعومتها بخدر لذيذ، وسألت بلهفة:

- ما هذه يا جدي؟

ابتسم فأضاءت أسنانه البديعة وقال:

- دي اسمها دقن الباشا.

أعجبني الاسم أكثر من إعجابي بالزهرة ذاتها، هي تشبه "ذقن باشا" فعلاً.. بنعومتها وعطرها ولونها الأشقر المائل للخضرة، لكنني وبصدق لو كنت أعرف كنتاكي وقتها صاحب ماركة الدجاج المقلية الشهير لسميتها دقن كنتاكي.

كنت أعشق رحلة الحمار الذي يستعيره جدي من الجيران ليأخذني وأختي عليه "ساعة العصاري" لنتمشى في الحقول حتى أطراف البلدة، عند مقام "سيدي جمال الدين"؛ حيث تقبع شجرة "ذقن الباشا" الضخمة المورفة دوماً، المزهرة دوماً، أو هكذا هيأت لي الذكرى؛ ليقطف جدي زهرتين واحدة لي وواحدة لأختي، ثم نركب الحمار مرة أخرى لنعود للبيت بعد أن نأخذ عليه موثقاً أن يعود بنا في أقرب فرصة.

وتمر السنون سريعة أو بطيئة، لكنها تمر كمنشار آلي ضخم ينشر العمر بلا هوادة، فيقصر الطويل ويضعف القوي.

دخلت عليه حجرته، نظر إليَّ طويلاً وعندما تأكد أنها أنا انهمرت دموعه ونهنه بالبكاء وقال:

- انكسرت تاني يا وفاء.. جدك انكسر.

جريت عليه واحتضنت رأسه وقلت بالكاد:

- ألف سلامة عليك.. مش قلنا نبطل جري ولعب كورة؟

لم تضحكه النكتة بل استمر يبكي وقال:

- مش هيريحني غير الموت.. يا رب.

قالها متضرعاً لله أن يخلصه من عذاباته، وكأن الدنيا قد صارت عبئاً على أكتافه ذات النيف وتسعين عاماً.

نظرت لجدي الباكي على صدري.. كوماً من العظام.

ما أعجب ما تفعله بنا الأيام!! وكيف تغرنا السنون، فنظن "أن لن يقدر عليه أحد"، كان جدي الذي تحفظ الذاكرة صورته كتيتان أسطوري من تياتين جبال الأولمب، كان بجسده الضخم وقامته الممشوقة ووجهه الأشقر الوسيم وقوة جسده التي لا تخطئها العين، يوحي إليَّ دائماً أنه كأحد آلهة الإغريق.

جدي المهيب الجسور، الذي كان عندما يضمني لصدره ليحكي لي حواديته المميزة، كان يستحيل لملاك أسطوري أيضاً.

أصابتني الدهشة وانتابني الخوف، وأنا أنظر لكومة العظام النخرة الخائفة التي ترقد على صدري، ما أعجب ما تفعله بنا السنون!!

كيف استحال هذا التيتان العملاق الهابط من جبال الأولمب ليحارب تجار المخدرات طوال أربعين سنة، تلك التي عمل فيها في إدارة مكافحة المخدرات في الشرطة، جدي الذي كان اسمه يسبقه بالرعب.

حكى لي مرة أنه اشترى مرة جهاز راديو من أحدث الأنواع، وكان باهظ الثمن، حيث يبلغ ثمنه وقتها ستة جنيهات كاملة، وبينما كان في محطة القطار اختفى الراديو، سرق منه ببساطة، وأخذها جدي على كرامته وسأل عمن يسرح النشالين في المحطة، وعرف أنها "المعلمة صباح"، ومن حسن حظه وسوء حظها أن زوجها وزوج ابنتها كانا من تجار المخدرات المعروفين في المنطقة، وذهب جدي لبيتها، وما إن رآه زوجها حتى أحسن استقباله (خوفاً لا ترحيباً)، وعرف منه سبب الزيارة ونادى على المعلمة "صباح"، ونبه عليها أن تنفذ له جميع طلباته.

وسألت صباح جدي عن مواصفات الراديو، فأخبرها، لتجيبه أن الراديو بالفعل جاءها من أحد صبيانها، لكنها باعته، واستسمحت جدي في أن يخبرها عن ثمنه حتى تدفعه كاملاً غير منقوص، ليخبرها جدي أن ثمنه ثمانية عشر جنيهاً، هل تصدقون؟!

ثمانية عشر جنيهاً لا ستة، فغرت فاهي وأنا أسمع من جدي القصة، ولم يكن جدي من الكذابين يوماً، وسألته بلهفة: وهل صدّقت؟

قال: نعم.. الأدب أدب القرش.. كان لا بد أن تدفع ثمن قلة أدبها، وتجرُّئها على الحكومة.. هي تعلم أنه لا يوجد راديو بهذا السعر، وتعلم أنها تدفع ثمن جريمتها التي لا يمكن إثباتها.

هذا كان جدي، عشرات القصص بطلها شخص آخر غير كومة العظم والألم والذكريات التي ترقد تئن في صدري.

التاريخ بذاته يرقد كسيحاً بسبب عثرة في طرف السجادة، أي كوميديا سوداء تلك؟!

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل