المحتوى الرئيسى

ميراث التحالف | المصري اليوم

11/26 22:00

■ بعد أكثر من ثلاثين عاماً في خدمة أهل القرية الفرنسية مات الكاهن الطيب الفقير، راعى الكنيسة، الذي كان يبذل كل ماله للفقراء. وبعد وداعه بحزن وطقوس تليق بورعه وتقواه، عثروا في غرفته على ميراثه الوحيد.. ثلاثة مجلدات.. مذكرات، بعنوان رئيسى «العهد»، وعنوان ثانوى تحته «الدلائل والبراهين المبينة عن عبثية وزيف كل الأديان». كانت مفاجأة مذهلة.. لقد كان «الأب» «ميسلييه Meslier».. ملحداً.

■ «الأب الكاثوليكى ميسلييه»، لم يكن مجرد ملحد عادى، فمذكراته، يعدها البعض، أول تأسيس لفلسفة الإلحاد في العصر الحديث. كانت أفكاره ملهمة لرواد عصر الاستنارة، في القرن الثامن عشر. ذلك القرن الذي تزامن فيه ظهور تنوير «فولتير Voltaire» وأقرانه في الغرب، مع ظهور إظلام «محمد بن عبدالوهاب» وأتباعه في شرقنا السعيد. إنه التزامن التعيس.

■ كان «فولتير» يتعجب من أنهم في فرنسا يعيبون عليه «نقص تدينه»، وفى إنجلترا يعيبون عليه «زيادة تدينه». وهو لم يكن ملحداً، ولكنه سئم من رجال الدين وأفكارهم. كان «ربانياً» وفقط. يؤمن بالرب ولا يؤمن بكل المنظومة الدينية بأفكارها ورجالها وطقوسها. لم يكن ملحداً، ومع ذلك فقد كان ينصح ابنته بضرورة قراءة مذكرات «الأب ميسلييه»، فعليها أن «تقرأها وتعاود قراءتها، وعلى كل إنسان شريف أن يحمل معه دائما نسخة من مذكرات ميسلييه».

■ المذكرات تتضمن النقد والقدح في مفهوم «الديانة المنظمة». وفيها يقول «ميسلييه» إن «المعايير الأخلاقية موجودة في الطبيعة الإنسانية، ولا تستلزم بالضرورة الإيمان بإله». كان كارهاً للاهوت وغموضه وتعقيداته.. وما «اللاهوت» في رأيه إلا: «الجهل بالأسباب الطبيعية والعلل، مجسداً في منظومة دينية». وأن «قبس نور طبيعة الروح الإنسانية كفيل بإرشاده وتبين الحق من الضلال، والخير من الشر».

■ ويقر «ميسلييه» في مذكراته أنه لم يكن أبداً يرغب في أن يكون رجل دين، ولكنه فعل ذلك امتثالاً لرغبة والديه، وأنه يشعر بالأسف ويعتذر عن «كم الأكاذيب والخداع والخرافات التي زخرت بها عظاته وخطبه، عبر سنوات وظيفته، عن غير اقتناع منه».

■ «لكى تتحقق الحرية والسعادة فلنشنق آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين». قول شهير يُنسب إلى رائد من رواد التنوير، هو «ديدرو Diderot». وهو في واقع الأمر قول بتصرف مأخوذ عن مذكرات «ميسلييه». وتناوله آخرون كثيرون بتنويعات مختلفة. فرجل الدين.. «الأب ميسلييه» يرى أنه «يجب شنق جميع القادة والنبلاء بأمعاء جميع رجال الدين»... «فهم مستحقون لذلك المصير، ليس انتقاما وتعبيرا عن كراهية، ولكن تحقيقا للعدل وإحقاقا للحق». وقول «ميسلييه» هذا، بمختلف صوره المتواترة، إنما يعبر عن جوهر واحد، هو رد الفعل «المتطرف» حينما «يفيض الكيل»، في مواجهة ذلك الميراث القديم من التحالف الذميم بين استبداد رجال السلطة الزمنية واستبداد رجال السلطة الدينية، ولتبادلهم للأدوار وتوارثها، جيلاً بعد جيل.

■ في العام 1925، أصدر الشيخ على عبدالرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم». ذلك الذي ينقض فيه مفهوم الخلافة، كأصل للحكم في الدولة الإسلامية. فكان أن توافقت السلطة الزمنية مع رجال الدين، وتم فصله من وظيفته، وكانت تلك المعركة الشهيرة بين أهل الحداثة وكتائب الجمود والتخلف.

■ وفى ذات العام 1925، في الطرف الآخر من العالم، في مدينة «دايتون» بولاية «تينيسى» الأمريكية، نشبت معركة أخرى، أيضاً بين أنصار التقدم والحداثة والحرية وبين رواد الجهل والتخلف والانتهازية. تختلف العقائد هنا وهناك، ولكن التخلف واحد. فقد تقدم فلاح أمى باقتراح مشروع قانون يحظر تدريس نظرية «التطور الداروينية» في المدارس ومعاهد العلم. وافقت حكومة الولاية، وأصدرت القانون.

■ رفعت دعوى ضد أحد المدرسين «جون سكوب Scopes»، وقُدم للمحاكمة بتهمة مخالفة القانون عمداً، وقيامه بتدريس نظرية التطور الداروينية لبعض من تلاميذه. قامت جمعية «الاتحاد الأمريكى للحريات المدنية» بتكليف فريق للدفاع عنه، بقيادة المحامى الأشهر، في تلك الآونة، «كلارنس دارو Darrow»، ارتكازاً على عدم دستورية هذا القانون لتعارضه مع مواد الحريات الواردة في الدستور الأمريكى.

■ كان ممثل الاتهام «وليام برايان Bryan»، أحد المتعصبين المتمسكين بحرفية النص الدينى وتفسيره السلفى بلا تأويل. وقد كان فيما مضى وزيرا للخارجية، ومرشحا رئاسيا عن الحزب الديمقراطى لثلاث مرات. لجأ المدعى «برايان» في مرافعته إلى الأساليب الشعبوية التي تخاطب بسطاء الناس معرفة وتعليما (بعض المحلفين كان أميا)... ويعبر عن تعصبه وعنصريته وتخلفه فيقول في مرافعته مسطحا للأمور، ساخرا: «يقولون إن الإنسان ينحدر من سلالة القرد.. أي قرد في هذا العالم... حتى إنهم لم يقولوا القرد الأمريكى».

■ ترافع المحامى «دراو»، ودفع بعدم دستورية القانون، فضلا عن أنه لا يجب الخلط بين درس العلوم والأحياء ودرس الدين. المحاكمة التي استمرت لعدة أيام، ولفتت أنظار كل وسائل الإعلام، عبر البلاد، لم تكن محاكمة عادلة، فقد تبين عبر وقائعها تحالف رجال الدين مع رجال السلطة في الولاية، فضلاً عن القاضى ذاته. فقد تدخل القاضى أكثر من مرة مبينا عن تحيزه، حتى إنه قبل بدء المحاكمة نبه المحلفين إلى أن القضية قضية «مخالفة مادة في القانون، وليست قضية مشروعية وصحة هذه المادة».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل