المحتوى الرئيسى

العشق المفقود

11/25 17:11

حينما تقرأ العنوان يطرأُ على ذهنك للوهلة الأولى أنني سأتحدث عن العشق بين الرجل والمرأة فهذا عشق، ولكنه معروف، أما العشق الذي أقصده فهو من نوعٍ آخر نادر جداً، ألا وهو عِشْق الكُتب، فالكُتب عِشْقها مختلف؛ فكما يقول الجاحظ: "كُلُّ عِشْق يُسَمَّى حُباً، وليس كُل حبٍ يُسَمَّى عِشْقاً، لأن العشق اِسْمٌ لما فَضَل على المحبة".

فعشق الكتب لا يقل أبداً بل يزيد، ودائماً يحتاج إلى استزادة من أقرانه الكتب؛ لينمو ويترعرع عشقك، بمعنى أنك لو انتهيت من كتاب معين فهذا الكتاب يعطيك محاسنه، وتلك المحاسن تبلور لك العشق، فينمو بشكل أكبر ليذهب إلى كتابٍ آخر أكثر استحساناً من ذي قبله ويحثك على ذلك، ولا ضير بالنسبة إليه في أن تعشق كتاباً آخر، على عكس العشق بين الرجل والمرأة، فهو عشق تملُّك، فالرجل والمرأة يعشق بعضهما بعضاً، ولا يتحمل أي منهما وجود شريك للآخر، وإلا ما كان عشقاً، أما الكتب فتحثك على التعددية في الشركاء، فلا يكون عشقاً إلا بكثرة المعشوقين، فهو متعلق بالجمع لا بالفرد، بالتقاسم لا بالاستحواذ والتملك، فكلما زادت معرفتك زاد تطلعك على شريكٍ آخر أكثر استحساناً وجمالاً من ذي قبله.

العشق بين الرجل والمرأة يبدأ من الظاهر ويصل إلى الباطن، أما عشق الكتب فيبدأ من باطنها ويصل إلى ظاهرها.

العشق يبدأ من تعلق الكتاب بموضوعه، وما يحويه مضمونه، وإجماله وتفصيله، والمعنى وما وراءه، ثم اللفظ المستعمل، والخط المكتوب، والصحة والدلالة، والوضوح والبرهان، فكل ذلك باطن ثم يصل إلى القشور كالغلاف وجودته والورق وكثافته ولون الكتاب وفخامته.

الكتاب هو خير جليس وونيس، تسمع منه فينفعك، وتكلمه فيكتم لك سرَّك، وإن شئت أبكتك مواعظه، ولو شئت أضحكتك نوادره، فهو مُعلم ومُفهِم، وأقرب صاحب وجار، فإن مللته لا يملَّك، وإن نسيته لا ينساك، ولو فارقته لا يفارقك.

إذا ضم الثرى جسدي، وراحوا

وممن قد عرفت من الصّحاب

فإني، سوف ألقى الله ربي

وكما قال طرفة بن العبد:

وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً ** عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ

أسقط الشاعر هنا على أن أشد الظلم والخذلان هو ظلم الأقربين، فما بالنا نحن نظلم أنفسنا، من أقرب إلى الإنسان؟ أليس قلبه الذي بين أضلعه، وروحه التي في جسده، أوليس في البعد عن القراءة ظلم؟! فوالله هذا هو الظلم بعينه.

لقد بعدت الشُّقة بيننا وبين الأمم الأخرى؛ لتنازلنا عما أنزله الله في أول سورة وفى أول آية منها؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" فأين نحن من هذا؟! فقد فصلت بيننا وبين الأمم دهور لا تعد ولا تحصى، بسبب بُعدنا عن القراءة.

تتنوع الكتب بتنوع قارئيها وعاشقيها، وتختلف باختلاف المُتَوَخّى والمَرْجُوّ منها، فهيا بنا نرجع إلى ما كنا عليه في القرون السابقة، ولنُعِد ذلك العشق فهو ضائعٌ هائم منذ أمدٍ بعيد، لا يقربه إلا القليل، ومعظمهم من أهل التطبيل، لا من أهل التعلم والتعليم، فالأمة بحاجة إلى الأمر الصالح لا للطالح، فكثيرٌ من هؤلاء القليل يقرأون ما لا يفيد ولا ينفع، معظمها كتبٌ واهية ومواضيع فانية لا تفيد الأمة في شيء، فعلينا أن نغترف ولو غرفة لأنفسنا، وأولادنا، وأزواجنا، وأصدقائنا من هذا العشق النافع، فهو بنيان الأمم، وزينة الإنسانية ونور القلب والعقل وتحظى به الأرواح، فالكتب تذكرنا بالماضي، وتنبهنا إلى الحاضر والمستقبل.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل