المحتوى الرئيسى

ومن الحب ما قتل!

11/24 16:20

لم أكن أعرف ما الذي يُفترض بي فعله!

كنت أراها تمسك بالفتى الذي لم يبلغ الخامسة بعد، وكأنما أمسكت بمُغتصب أو قاتل مأجور أو حتى إرهابي، تضربه ضرباً مبرحاً يمزق جسده الصغير، فيصرخ صراخاً هستيرياً من أعمق منطقة في حنجرته الصغيرة، ووجهه مصبوغ بحمرة شديدة وكأنما كان مخضباً بالدماء!

سمعتها تصرخ فيه قائلةً "مش قولت 100 مرة ماتوسخش هدومك؟ قولت ولا ماقولتش؟ كلام ماما مابيتسمعش ليه؟"، ماما؟ شعرت بانقباض في قلبي عند سماعي لهذه الكلمة، وتساءلت: أيمكن لأم أن تضرب ابنها كل هذا الضرب لأن ملابسه اتسخت فحسب؟ وما الذي يفترض بطفل في الخامسة أن يفعل إذا اتسخت ملابسه رغماً عنه أصلاً؟!

أردت أن أذهب إليها، أن أصرخ فيها لتكفَّ يديها عنه، لكن ساقي لم تحملاني، إلى أن سارت به بعيداً.

ظل وجهه الصغير الباكي يرافقني في كوابيسي لمدة ليست بقصيرة، ظل ذنبه معلقاً برقبتي، وظل ضميري يخزني كثيراً لأنني لم أنقذه من براثن المتوحشة التي تُلقب نفسها بأمه...

كنت أطالع الأخبار صباح البارحة، حين وقعت عيني على خبر وفاة المصارعة الدولية حديثة السن "ريم مجدي"، ولمن لا يعرف ريم -رحمها الله- فهي فتاة في عمر براعم الزهور، لم تكمل الخامسة عشرة، حاصلة على برونزية بطولة العالم وذهبية بطولة إفريقيا، شعلة متقدة من النشاط والنجاح!

قيل في البداية إن وفاتها كانت بسبب حادثة سير، لتعود أمها المكلومة وتنفي هذا، مؤكدةً أن السبب في موت الطفلة البطلة هو والدها!

قالت الأم في تصريحاتها للنيابة إن والد ريم كان يُعنفها نفسياً وجسدياً بشدة، ويقوم بضربها كثيراً، وقد كان يضربها هذه المرة أيضاً أثناء عودتهم للمنزل، فما كان من ريم إلا أنها تصرفت بتلقائية طفولية شديدة، تلقائية دفعتها إلى فتح باب السيارة والقفز منها، هرباً من بطش والدها وتعنيفه، لتلقى المسكينة حتفها بعد ارتطامها بالأرض!

رأيت منذ بضعة أيام إعلاناً على قناة تلفزيونية عن مبيد حشري، صوَّر العلاقة بين أم وابنتها، لنجد الأم تنظر لابنتها شذراً وترفض ما كانت الفتاة بصدد فعله، لينطلق صوت المُعلِّقة قائلاً: "أنا مش صاحبتك، أنا أمك"، والحقيقة أنني قد ذُهلت من هذه الجملة، وقفت أمامها كثيراً لدرجة أن أذني لم تلتقط من باقي الإعلان سوى كلمة "هراقبك"!

تقوم فكرة الإعلان في الأساس على تشبيه علاقة الأم لأولادها في حمايتها لهم والسهر على راحتهم وأمنهم بقدرة المبيد الحشري على السهر على راحتنا ليلاً ليحمينا من الحشرات أيضاً، وبالرغم من عدمية التشبيه وغرابته، إلا أن هذه ليست المأساة الحقيقية فيه، وإنما المأساة التي تُمكننا من اعتباره أسوأ إعلان لعام 2016 هي الجمل الحوارية المرتبطة به! أن تنفي الأم عن نفسها قدرتها على مصادقة ابنتها، أن تراقبها في تحركاتها وتصرفاتها، وتنهرها وتنظر لها شذراً إذا ما أخطأت بدلاً من أن تكون سنداً لها، هو شيء في منتهى القسوة واللاإنسانية، شيء يُعزز من فكرة أن الآباء هم فزاعات يجب أن نخشاهم دائماً، وأن تكون علاقتنا بهم متوترة دائماً، يحاصروننا من كل جانب، ويراقبون تحركاتنا خطوة خطوة، ليتصيدوا لنا الأخطاء، تماماً كما يتصيد المبيد الحشرى تلك الحشرات اللعينة!

ولربما ما وصلت إليه من استنتاجات من هذه الجملة لم يتبادر لأذهان صانعي الإعلان حين وضعوها فيه، لربما غفلوا عنها لأن ثقافة مجتماعتنا رسخت فينا الإيمان بأن العلاقة بين الآباء وأبنائهم علاقة تقوم بشكل أساسي على المراقبة والعنف النفسي والشك والتخوّف!

انتشر منذ فترة منشور على الفيسبوك لشاب في منتصف العشرينات، يتحدث فيه عن حياته مع والده قبل أن يتوفاه الله، كان يصف كل ثانية مرت من عمره مع والده وكأنما حدثت بالأمس، وبالرغم من حداثة سنه وقتها، إلا أنني أجزم أنه لم يغفل ولو حتى موقفاً واحداً، بدايةً من الضرب المُبرح، مروراً بالتعنيف النفسي والكلمات الجارحة التي حُفِرت في ذهنه يوماً تلو الآخر لكثرة تكرارها، التي كان مجملها "أنت فاشل"، وحتى النظرات المُستخِفة التي كانت تقتله يومياً بدون أن ينبث أبوه بنبت شفة، تلك التي كانت جعلته يشعر بأنه نكرة! لم ينس شيئاً، ولا حرفاً، ولا نظرة!

صرّح الشاب بأنه لم يشعر بالحب تجاه والده قط، وأنه لم يفهم أبداً لماذا يصر على أن يُشعِره بأنه غير ذي قيمة، وأنه لو خُير بين حياة والده أو موته، لاختار بالتأكيد أن يموت، وأن يرحل بعيداً عن عالمه، ليتحرر من حياة لا يعرف فيها إلا القسوة!

لم يكن المنشور هو ما لفت نظري، بل التعليقات الكثيرة التي اتهمت صاحبه بأنه ابن عاق لم يستحق يوماً أن يعرف طعم الأبوة، ولم تكن هذه المرة الأولى التي أرى فيها مثل هذه التعليقات، بل قرأت مثيلها على أكثر من منشور لعديد من الشباب والفتيات يشتكون العنف الجسدي والنفسي من آبائهم وأمهاتهم، تعليقات كلها تلقي باللوم على المُعنَّفين وليس على مُعنفيهم! إنها ثقافة لوم الضحية التي لم تكف يوماً عن ملاحقتنا في أي واقعة كانت!

يضع أغلب المجتمع الشرقي هالة من نور وقدسية حول الوالدين، متناسياً أنهم بشر خطاؤون، وأن جميع الناس ليسوا بأسوياء نفسياً، وأن دور الآباء في حياتنا لا يقف على إفناء عمرهم في الإنفاق علينا، بل إن رعايتهم لأبنائهم شيء واجب عليهم، ليس تفضلاً منهم، ولا يجب حصر دور التربية في القدرة على شراء الطعام والملابس، فيا حسرتى على أب يغدق علي بالأموال لكن يضربني يومياً، أب يشتري لي كل شيء في الحياة لكن لم يحن عليّ قط، لم يحتضني، ولم يقل لي كلمة أحبك! ويا ليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إنني أرى من الآباء من يتعامل مع أولاده بطريقة لا يمكن وصفها بالآدمية حتى، ذل وقهر ومعايرة بالفشل وتنمية الإحساس بالنقص والإحباط، وعنف جسدي وضرب وتعذيب، ليترنح مصير أولئك الأولاد ما بين جانبين، فإما أن ينجوا من تعنيفهم ليصبحوا أنصاف بشر، أُناس مشوهة إلى قدر كبير يمنعهم من القدرة على الإنجاب، وإما أن تكون نهايتهم مثل الطفلة ريم، فيؤدي العنف بحياتهم للهلاك على يد آبائهم في وصلة من وصلات التعذيب المحترفة، أو الانتحار، أو الموت كمداً، وكله تحت مُسمى الخوف والحب.

وما يزيد الطين بلة هو تقبل المجتمع لهذا النوع المشوه من التربية، فلا يلوم امرأة تعنف أولادها بالضرب، أو أباً يقهر ابنه إلى الحد الذي يجعله يكره حياته، في حين أن هذه التصرفات في بلاد العالم المتقدم تندرج تحت ما يعرف بالـchild abuse

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل